إدارة الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش أعلنت جهاراً نهاراً أنها تريد ان تغير الأنظمة والمجتمعات العربية. والبعض قبل، بسذاجة، تفسيرها بأنها بعد 11 أيلول سبتمبر 2001، وما ارتكب بحقها من عمل ارهابي أودى بحياة ثلاثة آلاف مدني وأطاح ببرجين كادا يتحولان الى رمزين أهم من تمثال الحرية، أصبحت ترى ان مصدر الارهاب يعود الى العرب والمسلمين، والمسؤول عنه الأنظمة التي لم تحدّث مجتمعاتها. على أن الذي يتمعن جيداً في استراتيجية الأمن القومي المعلنة في 20 أيلول 2002 يجد أمامه استراتيجية لحكم العالم كله بالقوة العسكرية اعتماداً على التفوق في الأسلحة والتكنولوجيا، وإذا لزم الأمر استخدام الضربة الاستباقية والحرب الاجهاضية. فلا يُسمح لأية دولة بتطوير أسلحتها، أو حتى مجرد التفكير باللحاق والمنافسة. وهذا موجه الى الصين وروسيا وأوروبا أكثر مما هو موجه الى أية دولة عربية أو اسلامية. وبديهي ان اقامة ديكتاتورية عسكرية عالمية يجر بالضرورة الى اقامة ديكتاتورية اقتصادية وسياسية. وهذا يمس الدول المتقدمة صناعياً اكثر مما يمس دول العرب والمسلمين. ومن هنا نفهم ما تواجهه ادارة بوش من معارضة عالمية من قبل الدول والرأي العام، الأمر الذي يعني اننا والعالم لسنا امام ردود فعل هوجاء بسبب هجمات 11 ايلول، وانما أمام استراتيجية مدروسة تنبع من رؤية محددة للعالم ولدور اميركا فيه. ويمكن تعزيز هذا الرأي من خلال كتابات منظريها ومتابعة سياساتها قبل التاريخ المذكور. فنظرية ردود الفعل يجب أن تسقط من الحساب ليحل مكانها فهم أعمق للتفكير الاستراتيجي لهذه الادارة. فاستغلال هول ما حدث أبشع استغلال واتخاذه ذريعة شيء، واعتباره سببا مسألة أخرى. من هنا تدخل البلدان العربية والاسلامية، بالضرورة، ضمن الاستراتيجية المذكورة ولا مجال للاستثناء، أو حصر الاشكال بها فقط. ثم بعد ذلك يشدد على خصوصية الفريق الصهيوني و"المسيحي الصهيوني" المرفوض من كل الكنائس المسيحية من جهة تبني ادارة بوش للمشروع الليكودي لفلسطين والمنطقة. وخلاصته تصفية القضية الفلسطينية وتحقيق شرق أوسطية تحت الهيمنة الاسرائيلية. لذلك فموضوع تغيير الأنظمة والمجتمعات مرتبط بتحقيق هذين الهدفين، وما عدا ذلك من التذرع ب11 ايلول، او اعتبار المقاومة الفلسطينية واللبنانية والانتفاضة ارهاباً، أو ادعاء محاربة الاستبداد أو رفع شعار التغيير الديموقراطي، فمرتبط بتحقيق أهداف المشروع الصهيوني. ولا يذكر ان هنالك خلافات بين اميركا وأي من الأنظمة العربية الا المتعلق بالموضوع الاسرائيلي بأهدافه القصوى، وليس بحدود تسوية تتضمن الكثير من التنازلات الفلسطينية والعربية المعلنة، كما عبرت عن ذلك المواقف الرسمية ومؤتمر قمة بيروت. ولهذا فإن الحملة الشعواء الموجهة ضد الوضع العربي، أنظمة ومجتمعات، والتي ابتدأت بالانتفاضة والمقاومة في فلسطين ولبنان، وبالعدوان الذي شن على العراق واحتلاله، وما شن من حملات تطالب بالتغيير في فلسطين وسورية ولبنان والسعودية ومصر انما لها الحملة هدف محدد هو القبول بكل الاملاءات والشروط الاسرائيلية لحل القضية الفلسطينية ولما هو مطلوب عربياً من تطبيع فوري وفتح الأبواب والنوافذ للهيمنة الاسرائيلية والتغلغل الصهيوني، السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي. فالخيار المطروح أمام الأنظمة: اما ان تغير نفسها ومجتمعاتها في هذا الاتجاه، أو تتعرض للتغيير من الخارج ليؤتى بمن يقبلون بالذهاب بالصهينة الى آخر الشوط. ومن ثم، لا يستطيع باحث جاد منزه عن الغرض، ان يعتمد في تحليله على ادعاءات الادارة الاميركية بدلاً من الحقيقة والمعرفة الدقيقة، ويجب أن يعرف أن كل تغيير مهما كان ديموقراطياً لا يذهب في ذلك الاتجاه لا يرفع السيف الأميركي عن الرقاب. وثمة قضية أخرى كثر تردادها أخيراً، ولكن بدرجة من الذكاء هذه المرة لا السذاجة. وهي اعادة السبب لتعرض بلادنا للعدوان والضغوط الاميركية الهائلة الى سوء أوضاعها وعجز أنظمتها وسلبياتها وقلة مناعتها وما شابه من اسباب فينا، وليست في المعتدي نفسه. فالمشكل هنا في ضعف الفريسة وليس في المفترس ووحشيته لأن هذه "مفروغ منها"، ومن ثم لتخرج من الموضوع وهكذا. أشير اعلاه الى ان الاستراتيجية الاميركية القادمة إلينا بجيوشها وتهديدنا بالتدخل إن لم نستجب لكل قائمة الطلبات، هي الاستراتيجية نفسها التي تواجه كل بلدان العالم بغض النظر عما تمتلك من مناعة وممانعة. لأن هاتين السمتين نسبيتان وقابلتان للتغير. فالإشكال بداية يجب أن يقرأ في عقلية الادارة الاميركية المتطرفة العدوانية ما فوق ليكودية والمقعقعة بالسلاح، وليس في طبيعة العالم، ولا في طبيعة الشعب الاميركي. فاستراتيجية المحافظين الجدد تزيد أضعافاً عما عرف عن الاستراتيجية الاميركية ابان الحرب الباردة من نزعة هيمنية وعدوانية، أو من انحيار للدولة العبرية. تكمن المشكلة في نظرية وضع اللوم على ضعفنا حين نواجه عدوانا عسكريا يشكل ظاهرة عالمية، في كونها لا تخدم تخلصنا من نواقصنا واحداث التغيير في أوضاعنا وأنظمتنا اذا كان هذا هو الهدف من وضع المسؤولية على الضعف، لأنه بداية هروب من مواجهة التحدي الداهم. ثم لأن هذا المنهج يتضمن تبريراً، بشكل أو بآخر، لقانون الغاب، وحق القوي بافتراس الضعيف. وهو المنطق الذي يسوّغ به البعض الاستبداد الداخلي والنهب والفساد ما دام الشعب لا يثور ولا يتحرك. فتصبح المشكلة في الشعب وليس في المستبد. ودعك من الحديث عن الحق والعدل ووضع السياسة والأفعال في ميزانهما. العدوانية الاميركية تنبع من ذاتها ومن طبيعتها أساساً، ثم من تفوقها العسكري. الأمر الذي يفترض ضمنا ان على الدول الأخرى ان تمتلك قوة ردع تضاهيها، أو تمتلك مناعة اجتماعية وديموقراطية لتسقطها، تلقائياً موازين القوى العسكرية. وهذا كله فرضيات وهمية. ولا ينطبق على الدول التي قاومت اميركا وامتنعت عليها. بل لا يتنبه أصحاب تلك الفرضيات الى اننا في آخر قائمة من تحركت الجيوش الأميركية ضدهم، اذ بدأت بأميركا الوسطى والجنوبية والفيليبين وجزر المحيط الهادي والصين واليابان وأوروبا وجنوب شرقي آسيا. فضلاً عمن تساقطوا في أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى بلا مقاومة. ومن ثم لا حاجة الى اختراع نظرية تفسر العدوان باعتباره متعلقاً بنا. أما من جهة أخرى، فعندما يخوض أصحاب هذه النظرة في أسباب ضعفنا التاريخية والمجتمعية والثقافية وعدد ولا تهب فينتهون الى مشروع مستقبلي يتطلب انجازه أجيالاً. ولكن كيف نواجه ما يدهمنا الآن الى جانب مشروعهم العتيد؟ اذا سُكت عن الجواب، أو قيل لا فائدة، فالجواب المتضمن "دعه يفعل ما يشاء بنا فنحن نستأهل أكثر". ولكن إذا تركناه يفعل ما يشاء فماذا يبقى للمشروع المستقبلي ان يفعل!