بعد إعلان مجلس الحكم الانتقالي في العراق خططه لتحرير ملكية المؤسسات الاقتصادية من هيمنة الدولة وفتح القطاعات الاقتصادية كافة باستثناء النفط، أمام الملكية الأجنبية اعتبر عدد كبير من الاقتصاديين العراقيين أن هذه الخطوة لا تزال سابقة لأوانها إذ أنها تشكل تحولاً جذرياً في الإدارة الاقتصادية للبلاد بعد مرور أكثر من أربعة عقود على نهج ملكية القطاع العام. ويُخشى أن لا تتم وفق معايير فنية واضحة أو على أسس الشفافية. ما قد يؤدي إلى سيطرة الأجانب على البنية التحتية للاقتصاد الوطني وشرائهم المؤسسات الاقتصادية بأسعار زهيدة. وجاء الإعلان عن هذه الإصلاحات قبل عقد مؤتمر الدول المانحة للعراق بين مدريد في 23 و24 تشرين الأول اكتوبر للنظر في احتياجات إعادة الإعمار في البلاد، حيث يتوقع الحصول على 56 بليون دولار ترصد للسنوات الأربع المقبلة. وبموجب الإصلاحات التي أعلن عنها سيتم تحرير الاستثمار الأجنبي من القيود كافة وسيحق للأجنبي القيام بالاستثمار في مختلف أنحاء العراق وفي جميع القطاعات باستثناء إنتاج وتكرير النفط، كما سيسمح له بتحويل الأرباح والعائدات إلى الخارج من دون تأخير وستتم معاملة المستثمرين الأجانب والعراقيين بصورة متساوية بموجب القانون. كما تستطيع المصارف الأجنبية فتح فروع لها فورا أو شراء حصص في مؤسسات مالية قائمة مع بقاء ضريبتي الدخل والأرباح على الشركات في حدود لا تتجاوز 15 في المئة. وتسمح القوانين الجديدة لستة مصارف أجنبية بفتح فروع لها في البلاد كما وسيسمح لها بامتلاك كامل للمصارف المحلية خلال فترة خمس سنوات. وسيتم خفض الرسوم الجمركية على السلع المستوردة كافة إلى 5 في المئة من دون فرض أي رسوم على استيراد المأكولات والأدوية والكتب وغيرها من السلع المعيشية الأخرى. ومن المبادرات الأخرى التي أدخلت حديثاً تأسيس بنك مركزي مستقل وطباعة أوراق نقدية جديدة من فئة 5 آلاف و10 آلاف دينار، بالإضافة إلى تأسيس بنك تجاري جديد بمشاركة 13 مصرفاً دولياً وتوافر اعتماد بقيمة 500 مليون دولار من مصرف الاستيراد والتصدير الأميركي. وتبشر كل هذه المبادرات بعودة العراق الى المشاركة في الاقتصاد الدولي في المستقبل المنظور. إلاّ أن هذه القوانين الجديدة تحمل معظمها صفة مشروع قانون بمعنى أنها ستبقى عرضة للتنقيح أو الإقرار أو الاستبدال مستقبلاً من قبل حكومة عراقية منتخبة ومعترف بها دولياً. لا يمكن تحويل العراق من دولة ساد فيها الاقتصاد الاشتراكي الموجه لأربعين عاما إلى دولة ذات اقتصاد حر ومنفتح بالكامل بين ليلة وضحاها. ولا بد من التحضير لذلك عن طريق تكثيف الاستثمار في قطاعات التعليم والصحة والبنية التحتية والإدارة العامة بعد 20 عاماً من الاهمال والفساد وسوء الإدارة. كما ان العراق بحاجة إلى إعادة بناء هياكل الشرطة والجيش ووضع نظام قانوني وقضائي فعال ودستور جديد للبلاد ومع هذا كله أو بعده يأتي الانفتاح والتحرر الاقتصادي. إلا ان الوضع ليس يائسا كما يبدو، فالشعب العراقي متعلم بشكل عام والنساء العراقيات لهن نسبة مشاركة مرتفعة في سوق العمل ويتمتعن بحرية أفضل من غيرهن في عدد كبير من الدول العربية الأخرى. وثروة العراق لا تكمن فقط في احتياط النفط الكبير لديه ومصادر المياه الوافرة، فهناك أيضا حوالي 4 ملايين عراقي يعيشون في الخارج يستطيعون المساهمة بخبراتهم وأموالهم في العراق. وعلى رغم هذه الثروة النفطية والبشرية الكبيرة، إلا ان العراق شهد تراجعاً اقتصادياً منذ عام 1980 جراء خوضه ثلاث حروب و13 عاماً من العقوبات الاقتصادية التي فرضت عليه مما جعل العراق من بين الدول الأقل نموا في المنطقة. فقطاع النفط في حالة مزرية، وبعدما وصل معدل إنتاج العراق من النفط إلى 2.4 مليون برميل في شباط فبراير الماضي أي قبل اندلاع الحرب في آذار مارس 2003 تراجع الإنتاج إلى 300 ألف مليون برميل يومياً في أيار مايو، ثم ما لبث ان ارتفع إلى 500 ألف مليون برميل في حزيران يونيو، وإلى 700 ألف مليون برميل يومياً في تموز يوليو، ليصل إلى ما يزيد على مليون برميل يومياً في آب اغسطس وأيلول سبمبر. ويبلغ معدل الاستهلاك المحلي من النفط نحو 500 ألف برميل يومياً. ومن أهم العوائق التي تقف عائقاً أمام زيادة إنتاج العراق للنفط وتحد من قدرته التصديرية أعمال التخريب وانقطاع التيار الكهربائي المتكرر وعمليات نهب المنشآت النفطية، خصوصاً في الحقول الجنوبية، أضف إلى ذلك عمليات التفجير المتكررة لخطوط أنابيب النفط التصديرية التي تنقل النفط من الحقول الشمالية في كركوك إلى ميناء جيهان في تركيا. وبلغ معدل إنتاج العراق من النفط في الشهور التسعة الأولى من السنة إلى نحو 1.088 مليون برميل يوميا، في حين جاء متوسط سعر برميل خام برنت خلال هذه الفترة عند 28.5 دولار. وإذا افترضنا ان كلفة إنتاج النفط العراقي هي في حدود دولارين للبرميل ومعدل أسعار سلة الخامات العراقية تقل عن سعر خام برنت بنحو 3 دولارات للبرميل، يصبح معدل سعر برميل النفط العراقي السنة الجارية نحو 23.5 دولار وإذا ما حافظت الأسعار ومعدلات الإنتاج على مستوياتها الحالية حتى نهاية السنة يمكن عندها تقدير الناتج المحلي لقطاع النفط العراقي في حدود 9.3 بليون دولار. وبحسب التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام 2001 احتل العراق المرتبة الثالثة بعد السعودية ومصر من حيث اجمالي الناتج المحلي بنحو 81 بليون دولار. غير ان هذا التقرير الذي تعده وتصدره جامعة الدول العربية والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي وصندوق النقد العربي، يستند إلى سعر الصرف الرسمي للدينار عند تحويل قيمة اجمالي الناتج المحلي للقطاعات غير النفطية من الدينار العراقي إلى الدولار الأميركي. وإذا تم اعتماد سعر صرف الدينار في السوق بسعر 2500 دينار مقابل الدولار فلن يتجاوز عندها الناتج المحلي للقطاعات غير النفطية 15 بليون دولار. لذا يقدر أن يصل اجمالي الناتج المحلي السنة الجارية إلى 25 بليون دولار، ودخل الفرد من هذا الإجمالي يكون في حدود ألف دولار وهو المستوى الذي يقع ضمن دائرة الدول الأفقر في العالم. ويرزح العراق تحت عبء ديون خارجية ضخمة، وبحسب تقديرات نادي باريس للدول الدائنة فإن إجمالي مستحقات العراق لحكومات هذه الدول هي في حدود 42 بليون دولار 21 بليون ديون مستحقة و21 بليون دولار فوائد متأخرة. وتعتبر اليابان أكبر مقرض للعراق من بين الدول الأعضاء في نادي باريس بما مجموعه 4.1 بليون دولار، تليها روسيا 3.5 بليون دولار ثم فرنسا 3 بليون دولار ثم الولاياتالمتحدة 2.2 بليون دولار. ولا توجد حتى الآن تقارير رسمية تبين حجم الديون العراقية المستحقة لدائنين آخرين خارج نادي باريس، الا ان هناك مجموعة من الدراسات قدرت هذه الديون نحو 63 بليون دولار بما فيها مستحقات الفوائد المتأخرة ويعود الجزء الأكبر من هذه الديون إلى حكومات دول الخليج. وبالتالي يصل إجمالي الدين الخارجي للعراق إلى نحو 105 بلايين دولار، بالإضافة إلى التعويضات المستحقة على العراق للمتضررين من جراء الغزو العراقي للكويت عام 1990، حيث يقدر ما هو مستحق من هذه التعويضات حتى نهاية أيلول عام 2003 بنحو 28 بليون دولار وبهذا يصل إجمالي الدين الخارجي للعراق إلى 133 بليون دولار. نشر البنك الدولي والأمم المتحدة أخيراً تقريراً مشتركاً قدر الاحتياجات في 14 قطاعاً تحتل الأولوية في إعادة إعمار العراق ب56 بليون دولار على أربع سنوات. وقدر التقرير الاحتياجات المالية للتعليم والصحة وإيجاد الوظائف ب7.19 بليون دولار بين 2004 و2007. من بينها 1.88 بليون دولار خلال السنة المقبلة، ويحتاج إصلاح البنى التحتية أي النقل والاتصالات والكهرباء والمياه وإزالة النفايات والعمران وتحديثها، إلى 24.20 بليون دولار. ويتطلب قطاع الزراعة 3.027 بليون دولار من الاستثمارات وهناك 777 مليون دولار لتطوير القطاع الخاص و234 مليون دولار لبرنامج إزالة الألغام. من جهة أخرى، قدرت احتياجات قطاعات أخرى تشمل الأمن والنفط والخارجية والشباب والثقافة بنحو 19.4 بليون دولار. وفي ظل شبه الغياب لقطاع خاص فعال في البلاد وعدم وجود أسواق رأسمالية يمكن الاعتماد عليها لتوفير ولو جزء من التمويل المطلوب، فإن عبء تحريك النشاط الاقتصادي سيقع بشكل رئيسي على كاهل القطاع العام. وسيبقى الإنفاق الحكومي الممول من عوائد تصدير النفط هو المحرك الرئيسي للنمو الاقتصادي في البلاد في السنوات المقبلة. وعلى رغم قيام عدد من المشاريع التنموية وعمليات إعادة البناء والإعمار في العراق، إلا انه لا يتوقع ان يشعر الشعب العراقي بتحسن كبير في المستوى المعيشي في المدى القريب. وإذا حدث ما هو متوقع وسمح العراق لشركات النفط الأجنبية الدخول في اتفاقات شراكة مع الحكومة لزيادة قدرة البلاد الإنتاجية للنفط إلى مستوى 2.6 مليون برميل يومياً نهاية عام 2004 وإلى 6 ملايين برميل يومياً عام 2010، وبافتراض أن أسعار النفط ستراوح بين 22 و28 دولاراً للبرميل في السنوات الست المقبلة، فإن العجز السنوي في موازنة العراق قد يراوح بين 3 بلايين دولار و9 بلايين دولار، كما أن نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي لا يتوقع له أن يتعدى 4 آلاف دولار خلال هذه الفترة. لا شك في أن تراثاً ثقافياً تبلور في أوساط المجتمع العراقي في العقود الأربعة الماضية عزز الاعتماد الكلي على دور الدولة، ولذلك فإن التحول الى الملكية الخاصة في عدد كبير من المنشآت وتعزيز دور الاستثمارات الأجنبية لا بد أن تواجههما مواقف رافضة، خصوصاً في ظل الفقر والبطالة. ولكي تنجح عملية الإصلاح يجب أن تتدفق أموال كبيرة إلى العراق وتوظف في مختلف المشاريع الهيكلية والمشاريع الاستثمارية وتؤدي إلى خلق فرص عمل تمكن من تحسين مستويات المعيشة في البلاد. وكما حدث في مناطق أخرى من العالم، فمن الأفضل إدخال الانفتاح والتحرير الاقتصادي في العراق بشكل تدرجي على ان يكون مدعوما بعمليات إصلاح واستقرار سياسي. وبالتالي المطلوب من سلطة الائتلاف ان تعيد الأمن والخدمات الأساسية إلى البلاد وتدفع بعمليات إعادة البناء وتسرع في تأليف حكومة عراقية معترف بها دولياً، للانتقال بعد ذلك وإدخال العراق الى المنظمة التجارة الدولية وتطبيق إصلاحات التحرر الاقتصادي المطلوبة. * الرئيس التنفيذي جوردانفست