حددت إسرائيل شهر تموز يوليو المقبل موعداً لسحب قواتها من جنوبلبنان ضمن إطار اتفاق سلام مع سورية ولبنان أو من دون اتفاق. وأشار قرار الحكومة الإسرائيلية الى احتمال انسحاب من طرف واحد في حال تعثر الوصول الى اتفاق مع دمشق حتى حينه. كثرت التكهنات حول الإجراءات التي ستتخذها إسرائيل في حال انسحابها لحفظ سلامة مستعمراتها الشمالية أو جنودها الذين قد يبقى بعضهم في مواقع داخل الحدود اللبنانية للمساهمة في حماية عناصر ميليشيا "جيش لبنانالجنوبي". وأكدت تصريحات مختلف المسؤولين الإسرائيليين، المعتدلين منهم والمتشددين، على أن أي هجوم على شمال إسرائيل بعد الانسحاب يجب الرد عليه بقسوة، وشددت على أن البنية التحتية اللبنانية "ستحرق" رداً على أي هجوم ضد المستعمرات. وضمن هذه الأصوات الإسرائيلية الداعية للانتقام الرادع تسربت بعض التصريحات التي دعت الى مهاجمة أهداف سورية داخل لبنان، مدعية أن دمشق تقف خلف تسليح المقاومة وتسهيل عملياتها... وعليه يجب معاقبتها. لم تأت هذه التصريحات لضرب سورية من فراغ. بل هي صدرت من داخل المؤسسة العسكرية التي يخشى "صقورها" اهتزاز هيبة الردع التي يعتقدون أنها "تتداعى" بسبب عملية السلام التي أجبرت عليها وهم يريدون أن توجه إسرائيل ضربات ضد القوات السورية لتذكير العرب بقوتها الرادعة. لم تتوقف الكتابات عن سيناريوهات لحرب إسرائيلية - عربية في المستقبل على رغم مرور تسعة أعوام على بدء المفاوضات. وتوقعت غالبية التحاليل اندلاع حرب إسرائيلية - سورية ضمن احتمالين: الأول هجوم سوري ومباغت ومحدود لتحرير الجولان المحتل، والثاني تدهور الوضع في جنوبلبنان والبقاع الغربي نتيجة المواجهات بين المقاومة وإسرائيل الى حد اندلاع مواجهات عسكرية مباشرة بين الجيشين السوري والإسرائيلي. ومع تأزم الوضع في جنوبلبنان والتهديدات التي توجه الى سورية، يبدو أن الاحتمال الثاني هو أقرب للواقع، خصوصاً بعد تصريحات القيادة اللبنانية بإمكان استمرار عمليات المقاومة ضد إسرائيل في حال لم يأت الانسحاب ضمن اتفاقات سلام شاملة. ضربات وقائية أو استباقية هناك سابقة للمواجهة العسكرية بين سورية وإسرائيل على الأراضي اللبنانية خلال اجتياح لبنان عام 1982. يومها شنت إسرائيل ضربات وقائية ضد قواعد صواريخ السام السورية مستخدمة تكنولوجيا الصواريخ الموجهة ومعدات متطورة للتشويش الإلكتروني. ونجحت إسرائيل في شل الدفاعات وتدمير صواريخ السام ما أمن سيطرة جوية لطائراتها فوق أرض المعركة. ويقول المحلل العسكري الإسرائيلي شيمون نافيه "إن إسرائيل كانت تخطط منذ فترة طويلة لضرب صواريخ السام السورية في البقاع وذلك في إطار عقيدتها الهجومية المبنية على الضربات الوقائية". ويضيف نافيه، وهو جنرال إسرائيلي متقاعد، أن إسرائيل كانت تراقب بقلق "نمو القدرات العسكرية السورية منذ حرب 73 ولذلك سعت لتدمير إمكانات سورية الدفاعية لحرمانها من شن هجوم مباغت على الدولة العبرية على غرار حرب الغفران". إلا أن الأوضاع السياسية والعسكرية اليوم تختلف كثيراً عما كانت عليه عام 82. آنذاك كانت الحرب الباردة بين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتي في أوجها، بينما اليوم تعتبر أميركا هي القوة العظمى الوحيدة، كما أن نوعية الأسلحة تغيرت بشكل راديكالي. ويشير الباحثان في الشؤون الاستراتيجية هيرش غودمان وسيث كاروس الى أن موسكو عوضت سورية خسائرها في مواجهة عام 82 وزودتها بصواريخ سام-5 التي يصل مداها الى داخل الأجواء الإسرائيلية. وحصلت كذلك على صواريخ سام-14 وهي نموذج محسن لصواريخ سام-7 المحمولة على الكتف. وأثبت هذا الصاروخ فعاليته في حرب البوسنة عام 96 عندما أسقط أكثر من طائرة لقوات حلف شمال الأطلسي. كما زودت موسكودمشق بطائرات ميغ-29 وسوخوي-24 ودبابات حديثة. وأشارت مصادر صحافية الى حصول سورية على الصواريخ الروسية المضادة للدروع التي توجه باللايزر من طراز كورنيت. وقالت مجلة "جينس" الدفاعية إن سورية تسعى للحصول على المزيد من الأسلحة الروسية، وخصوصاً في مجال الصواريخ المضادة للطائرات وذلك بعد أن كشفت حرب الخليج الثانية ومعركة كوسوفو عن تراجع فعالية صواريخ السام ضد تكنولوجيا الطائرات الحديثة. لا يتوقع المراقبون أن تعمد إسرائيل الى شن حرب برية لاحتلال أي أراض في لبنان أو سورية تجنباً لمواجهة حرب عصابات. ويرسم المراقبون في حال تردي الأوضاع سيناريو مواجهة يخطط له المعسكر المتشدد بعد أن هيمن على قرارات حكومة تل أبيب. ويفترض السيناريو المقترح أن تعمد إسرائيل إلى توجيه ضربات جوية ضد سورية بشكل مباشر. وستكون هذه الضربات شبيهة بتلك التي شنتها طائرات الأطلسي ضد القوات الصربية العام الماضي، وستحاول الطائرات الإسرائيلية أولاً تدمير الرادارات والدفاعات الجوية السورية، ومن ثم ستعمد الى ضرب مراكز القيادة والسيطرة لتشتيت الوحدات السورية وقطع اتصالاتها عن قيادتها. ويضيف المراقبون أن طائرات أف-16 وأف-15 والفانتوم الإسرائيلية ستقوم بعد تأمين السيطرة الجوية الشاملة على تركيز ضرباتها على قواعد صواريخ السكود السورية لمنع دمشق من استخدامها كسلاح رادع. ويذكر أن إسرائيل نشرت حديثاً صواريخ حيتس-2 المضادة للصواريخ الباليستية. وسيشكل نظام حيتس الى جانب صواريخ باترويت الأميركية شبكة دفاع متطورة ضد الصواريخ الباليستية العربية. ويقول المحللون ستركز إسرائيل في مرحلة ثانية هجومها على تدمير أهداف حيوية مثل محطات توليد الطاقة والمياه والمصانع والجسور وغيرها من بنى تحتية. وقد تستهدف الغارات المراكز الحكومية والحزبية والثكنات في محاولة لتطبيق ما يقترحه بعض الباحثين الغربيين أمثال ديفيد رودمان "استهداف النظام". يعتبر رودمان غالبية الأنظمة العربية أنظمة مركزية تعتمد على مرجعية الحزب الأوحد. وعليه، يضيف رودمان، أن استهداف المؤسسات والقاعدة الحزبية سيؤدي الى تداعي وسقوط الحكومة. إلا أن هذه الاستراتيجية أثبتت فشلها عندما حاول التحالف الغربي تطبيقها ضد العراق، كما أنها فشلت ضد النظام اليوغسلافي أيضاً، لذلك سيقتصر الهدف الاستراتيجي من هذه الحرب المتخيلة على إضعاف القوات السورية والضغط على سورية ولبنان في المفاوضات وإجبارها على وقف عمليات المقاومة في جنوبلبنان. عواقب هجوم إسرائيلي أجرت إسرائيل في مستهل العام الجاري مناورات وهمية استعرضت فيها سيناريوهات لمواجهة هجوم سوري مباغت لاسترجاع الجولان. وخلصت القيادة الإسرائيلية الى أن سورية ستتمكن من تحقيق انتصارات أولية، "إلا أن إسرائيل ستتمكن من استعادة زمام المبادرة وإلحاق هزيمة ضد القوات المهاجمة وتدمير الآلة العسكرية والبنية التحتية خلال أسبوعين من الزمن". وقدرت القيادة الإسرائيلية الخسائر في صفوف قواتها بين 2500 و4000 بين قتيل وجريح، ثلثهم من المدنيين في حال لجأت سورية الى استخدام صواريخ سكود. هذه التوقعات المتفائلة جداً من الجانب الإسرائيلي مبنية على اقتناع مسبق بأن سورية ستستسلم بسرعة وأن الحرب ستكون قصيرة. فالتقديرات المذكورة لم تأخذ في حسابها أن سورية قد تكون أكثر مقدرة على الدخول في حرب استنزاف طويلة ومكلفة جداً. وتعترف أجهزة الاستخبارات الغربية بأن هناك الكثير مما لا تعرفه عن مقدرات سورية الدفاعية مما يعرض أي حسابات إسرائيلية للخطأ. إلى هذا لا يزال صاروخ حيتس-2 الجديد في مرحلة تجربة على رغم إدخاله الخدمة الفعلية. لذلك فإن فعالية دفاعات إسرائيل ضد الصواريخ الباليستية السورية ليست مضمونة. كما أنها لم تأخذ في حسابها أبعاد أي هجوم واسع على سورية على العملية السلمية التي ستنهار تلقائياً، وقد يجبر الجوار على دخول المعركة، وهذا بدوره سيوسع دائرة المواجهة ويزيد من خطورتها. السيناريو الأخير والأكثر احتمالاً في حال تدهور الأوضاع في جنوبلبنان هو أن تحصر إسرائيل عملياتها داخل الأراضي اللبنانية. وتشمل لائحة العدوان توجيه ضربات للقواعد السورية في البقاع والشمال، إلا أنها لن تتخطى الحدود داخل الأراضي السورية وذلك في مسعى للإبقاء على مسيرة السلام. وأشار الى ذلك بعض الباحثين العسكريين الإسرائيليين ومنهم مدير مركز الدراسات الاستراتيجية في جامعة بار إيلان أفرام انبار، وهو يعتقد أن على إسرائيل أن تتجنب مهاجمة سورية بشكل مباشر داخل أراضيها والاكتفاء بمعاقبة قواتها في لبنان. وسيكون هدف إسرائيل في أي هجوم مستقبلي على لبنان هو وقف عمليات المقاومة الى جانب توجيه ضربات موجعة لهز النظام اللبناني وتهديد وحدة المسارين السوري واللبناني. في هذه الحال على إسرائيل الاستعداد لمواجهة صواريخ الكاتيوشا مجدداً والدخول في دوامة عنف لن تؤدي الى نتيجة عملية في حال قررت عدم التجاوب مع القرارات الدولية. فالخيار الوحيد الذي سيبقى أمامها في النهاية هو قبول عملية السلام ضمن معادلة مدريد. * باحث في الشؤون العسكرية.