لم تكن الوجوه الحاضرة في الصور المعلقة على الجدران تعرف أهمية الصورة الملتقطة، ولم تكن الشخصيات المتحركة في الصور التذكارية تعرف أنها، ومن خلال احتفاظها بالذكرى، ستثَبت لحظات مهمة وترصد حركة حياة اجتماعية وسياسية أساسية. فمعرض "فلسطين قبل 1948" مرآة عاكسة للحياة الاجتماعية والثقافية لفلسطين، قبل قيام دولة إسرائيل، ودخول الشعب الفلسطيني في رحلة النزوح والشتات الطويلة. وجوه فرحة لم تكن تعرف بعد ما ينتظرها، وأخرى بدأت تستشعر الخطر المحدق، فيما بدت بعض الوجوه قلقة من مستقبل مخيف ترسمه أيدي عدو "مجهول" جاء يحتل الأرض ويسلب الأحلام والذكريات والذاكرة... تلميذات المدرسة في زيهن الموحد، رحلات إلى البحر الميت، نزهات السيارات، الحفلات التنكرية، رحلات الصيد، الاجتماعات العائلية... صور من حياة اجتماعية هادئة مفعمة بالفرح والسكينة كان يعيشها الفلسطينيون قبل دخول الغزاة. معرض "فلسطين قبل 1948" الذي يستضيفه المركز الثقافي الفرنسي في بيروت، يضمّ صوراً اختارها اكرم زعتري من مجموعة "المؤسسة العربية للصورة" هي وحدها دليل كاف لدحض الحجة التي استندت إليها إسرائيل في اختيار فلسطين، تلك "الأرض القَفْرَة التي يقيم عليها عدد قليل من السكان وتفتقر إلى الحياة الاجتماعية، وإلى التمدن" بحسب الأسطورة الاسرائيلية. وتشكل الصور المعروضة في المركز الثقافي الفرنسي وثيقة تاريخية صادقة لا تكذب عن الحضارة المدنية التي كانت موجودة في نابلس ورام الله ويافا... صور تسلط الضوء على تطور فن التصوير في المنطقة واستعمال الصور بعيداً من الهدف السياحي، كجزء من ممارسة تنتمي الى الحياة المدنيّة. كما يسلط المعرض الضوء على أول مختبر تصوير في فلسطين كان يديره ايساي غارابيديان عام 1859، وتروي الصور التي التقطها غارابيد كريكوريان وابنه يوحنا الحياة الجميلة التي كانت تعيشها العائلة. وتشير صور هشام عبد الهادي إلى الحياة في أريحا والقدس، وإلى مناخ الحرية الذي كان سائداً ذلك الوقت، اذ كان الناس يستقلون سياراتهم ويذهبون بالرحلات إلى ضهر البيدر ويعودون مساء... وتخبر الصور التي احتفظت بها سامية سكر سلفيتي عن الحفلات التنكرية التي كان يقيمها جدها الفرد روك في يافا. وتشهد الوثيقة التي أعدها زعتري أيضاً على بساتين عبد الرحمن التاج المترامية في الرملة حيث كان الحاكم البريطاني يدعو زواره لكي يمتعوا ناظريهم بالمناظر الخلابة... "نعم، كانوا يغنون ويرقصون ويقيمون الحفلات"، تقول عايدة يوحنا كريكوريان في الفيلم التسجيلي المرافق للمعرض. وتؤكد فيه ان الأهالي الذين غادروا فلسطين تركوا الكثير من أغراضهم وذكرياتهم في البيوت، ظناً منهم ان الرحلة ستكون موقتة وانهم سيعودون قريباً للعيش من جديد في جنتهم القديمة... "فلسطين قبل 1948"، ذاكرة فلسطينية حية وعلامة تدل إلى أهمية عمل المؤسسة العربية للصورة، وما يسعى إليه الأعضاء في تجميع التراث الفوتوغرافي المتناثر في كل البلاد العربية والفرصة التي يتيحونها للجمهور والباحثين للاطلاع عليها من خلال المعارض والمتاحف، معززين بذلك قيمة الصورة الفوتوغرافية وحجم تأثيرها في الثقافة والوعي والذاكرة العربية. يدرج المعرض ضمن نشاطات "صور وذكريات من الشرق" الذي تقيمه البعثة الثقافية الفرنسية في لبنان ويستمر طيلة شهر تشرين الأول أكتوبر في المركز الثقافي الفرنسي في بيروت.