تزامنت بداية التصوير الفوتوغرافيّ في الدول العربية مع احتكاك المنطقة المتزايد مع الغرب، ويعود الفضل في ذلك إلى استحداث وسائل النقل السريع كالقطارات والسفن الحديثة، مما سهل عملية السفر لعدد كبير من الناس. نذكر هنا سفر بعثات الاستكشاف والتصوير الأوروبية إلى مصر وفلسطين ابتداء من العام 1839، كما نذكر سفر بطريرك الأرمن في القدس بيسايي غرابديان إلى أوروبا حوالى العام 1860، وتعلمه تقنيات التصوير الفوتوغرافي هناك، تمهيداً لإنشاء أول محترف للتصوير في الشرق داخل دير الأرمن في القدس. جاء كل هذا ضمن مشروع حداثي واسع، طال ميادين عدة، فمن الناحية المدينية تم تنفيذ مخططات تتلاءم مع وسائل النقل الحديثة مثل القطار والسيارة والطائرة، ما أدى إلى إفراد أنماط جديدة للإنتاج، ومن ثم خلق طبقات اجتماعية لم تكن معروفة سابقاً على الصعيد الاجتماعي أيضاً. ومع كثرة السفر والاختلاط برزت حركات تحرير المرأة، ونجحت هذه في رفع الحجاب في مصر العام 1922. وفي المجالين الثقافي والسياسي أدى نهوض الحركات القومية ضد الاستعمار الى تعزيز الوعي السياسي الذي أفضى الى إعادة رسم خرائط المنطقة، وصارت تشكل مسألة الهوية قضية أساسية، برع فن التصوير الفوتوغرافي في إبرازها. من هنا، يستمد معرض "المركبة.. تصوير لحظات الانتقال والتحول في مجتمع الحداثة"، الذي أقامته "المؤسسة العربية للصورة" أخيراً في غاليري "Townhouse" في وسط القاهرة ضمن مهرجان النطاق الأول للفنون في وسط البلد، أهميته الشديدة إذ يتطرق الى موضوع المركبة في كل أشكالها، كعنصر أساسي من عناصر المشهد الحداثي، له دلالته على رؤية المجتمع العربي لنفسه. تستعرض هذه الصور - ومعظمها صور عائلية - إبراز وسيلة التنقل، سواء كانت حصاناً، سيارة، قطاراً، طائرة، في صور الناس لأنفسهم، وكأنهم أحياناً فرد من أفراد العائلة، للإيحاء بصورة التنقل والسفر، أو بفكرة السرعة والقوة، أو حب الاكتشاف، وهي كلها صور ومفاهيم ذات قيمة مهمة في سعيها نحو الحداثة. ضم المعرض الذي أعدّه الفنان اللبناني أكرم زعتري وكان أصدره في كتاب صوراً عائلية من لبنان والأردن وفلسطين وسورية ومصر، تعود الى الفترة الممتدة من أوائل القرن العشرين الى الستينات من القرن نفسه. وصاحبت الصور المعروضة شهادات لعدد من أصحابها، زخرت بالمفاهيم الوثيقة الصلة بالموضوع أو بالفترة الزمنية المعنية. والمعروف أن "المؤسسة العربية للصورة" تأسست باسم "مؤسسة الحفاظ على التراث العربي المصور" سنة 1997، وهدفها المحافظة على تراث التصوير الفوتوغرافي في لبنان والعالم العربي، تمهيداً لافتتاح متحف خاص بالتصوير العربي في "باب إدريس" العام 2001. ومن هذا المنطلق تقوم المؤسسة منذ أكثر من عام ونصف بجمع الصور الفوتوغرافية ذات الأهمية التاريخية والفنية في مركزها في بيروت، وتحاول من خلال المعارض والنشرات التي تقوم بها، ترويج هذه المجموعات للتعريف بتاريخ التصوير الفوتوغرافي في العالم العربي. وفي هذا الإطار نظمت المؤسسة معارض عدة خارج لبنان، كان أولها معرض "شهداء قانا" في مهرجان "آرل" الدولي في فرنسا العام 1997، ونظمت كذلك معرض العالم العربي في "آرل" أيضاً العام 1998، ثم معرض "لبنان العابر" لمصور لبنان المعاصر فؤاد الخوري ومعرض "صور حميمة" الذي استعرض تاريخ التصوير في لبنان بين 1860 - 1960 في معهد العالم العربي في باريس في تشرين الثاني نوفمبر 1998، كما تضمنت أنشطة المؤسسة إنتاج فيلم قصير بعنوان "أيام هادئة في فلسطين" من خلال صور ما قبل 1948، بالتعاون مع قناة التلفزيون الفرنسي الألماني ARTE، وفي تشرين الثاني 1999 افتتحت المؤسسة معرض فلسطين قبل 1948 في صالة FNAC في مدينة "نانت" الفرنسية، ومن المقرر انتقاله الى باريس في أيلول سبتمبر 2000. وعلى رغم أن معظم الصور كانت مجهولة المصور، إلا أن واحدة منها لم تخل من ذكر أسماء الاشخاص الذين يظهرون فيها، أو أماكن التقاطها، وزمن التقاطها، ومالك هذه الصورة، ومن ثم نجد صور المعرض قد أخذت من مجموعات بعض اللبنانيين والأردنيين والفلسطينيين والسوريين والمصريين، ومنهم: روز كتّانة واسترا أبو جمرة ونبيل حمدان وسامية محمود ونازك مولوي وهشام عبدالهادي وجورج خياط وربيحة الدجاني وألبير فرعون وإميه كتّانة وهدى النعماني وأحمد البطراوي وشادية نجار وإسماعيل رشيد وعلي الاتاسي وأسامة القفاش ونعوم حمصي. في إحدى هذه الصور نرى سكينة مؤيد العظيم خلال رحلة سيدات شاميات إلى لبنان سنة 1931، وفي أخرى نرى مصطفى محمود راشد طفلاً في مشهد من فيلم "مصطفى .. أو الساحر الصغير" إخراج والده محمود خليل راشد في القاهرة سنة 1927، ومن تصوير شخص مجهول نشاهد فيكتور وندى حمصي وطفلهما نعوم في منطقة أهرامات الجيزة في مصر سنة 1923، ونشاهد عدداً من افراد عائلة الدجاني في بيروت سنة 1945 وفي صورة أخرى نرى هشام عبدالهادي داخل سيارته الMG أمام الكنيسة الجسمانية في القدس في فلسطين سنة 1955. وعلى رغم كثرة الشهادات التي رافقت صور هذا المعرض المهم في القاهرة تستمد شهادة هاشم المدني أهمية خاصة، إذ أنه مصور فوتوغرافي من صيدا، ويتحدث فيها عن أيام عمله في التصوير المتجول في شوارع لبنان أثناء مناسبات الأعياد والاحتفالات الشعبية، إضافة إلى أنه يتحدث فيها عن أهمية السيارة في تلك الفترة للناس البسطاء. يقول هاشم المدني في شهادته: "يلبس الصغار والكبار ثياباً جديدة أيام العيد، وينزلون للتنزه واللعب على البحر قرب مرفأ الصيادين فيما يسمى "بحر العيد" وكان الأطفال يتسلقون لانش "الترياقي" بعد أخذ الإذن منه، ويطلبون مني أن أصورهم واحداً تلو الآخر واقفين على المركب، كان المارة يتوقفون ويحذون حذوهم، وكنت أصور بالتالي 20 أو 25 صورة في بضع دقائق، كان هذا اللانش هو الوحيد في صيدا، وكان الترياقي يستعمله لتموين السفن الراسية في المرفأ بالبضائع التي يطلبونها من طعام إلى خمرة ودخان، وحتى ألعاب وهدايا يطلبونها للعودة بها إلى بلادهم كانت السيارات نادرة جداً في الماضي، وعددها قليل لا يتجاوز العشرة أو الإحدى عشرة سيارة في صيدا، وكان البعض يوقفون سياراتهم "البلاي موث" أو "الديزوتو" للتنزه في منطقة "عين الحلوة"، فكان الشبان ينتهزون هذه الفرصة للتوقف وأخذ الصور أمام السيارة. من امتلك سيارة في هذه الفترة كان كمن امتلك سفينة، ومن امتلك سفينة كان يعتبر مليونيراً. كنت أذهب إلى "عين الحلوة" ثلاث مرات في الاسبوع، فأجد المتنزهين متعطشين للصور، خصوصاً على جسر الاسمنت الجديد الذي بناه الانكليز على نهر البرغوت، يتمشون لابسين قبعات أو يركبون العجلات أو يستعيرونها من بعضهم، أو مني أنا، لأجل التقاط الصورة، كانوا يفضلون الجسر لأن الاراضي المحيطة به كانت مزروعة قمحاً، وكانت موحلة في معظم الأحيان، لذلك اعتبروا الجسر المخرج الوحيد الى السكة الحديد. كانوا يتنزهون على خط السكة الحديد الذي توقف سنة 1958 وكنت أصادفهم فيطلبون مني تصويرهم في السكة، خصوصاً في الربيع والأرض خضراء مزهرة". وتعليقاً على صورة أخرى التقطها مصور يدعى نيلتشيان يظهر فيها كميل شمعون مع زوجته زلفا ودوري ونايلة شمعون في "براك التل" في لبنان سنة 1956. يقول نبيل حمدان الذي كان يعمل سائقاً للسيارات في السابق: "الرئيس كميل شمعون وزوجته زلفا يجلسان من سيارة "ناش" وهي سيارة والدي، ودوري وزوجته يجلسان في سياراتهما "الألفا"، كان ذلك قبيل تناول الغداء، في الفترة المخصصة عادة للسياحة. كان الرئيس ينام قليلا بعد الغداء حتى الساعة الرابعة موعد الصيد، ويحب المشي كثيراً، وفي آخر الرحلة كنا نصل إلى السيارة الموضوع عليها الطعام فنأكل حولها. كان الناس يهتمون بسياراتهم، وينظفونها بأنفسهم، وكانت السيارة تعبر عن شخصية صاحبها. "الرينو" مثلاً تمثل الناس العاديين، بينما تمثل "البيجو" اساتذة المدارس، أما "اللوتس" فكانت للمجانين، لذلك كنا نبحث عن سيارة فريدة، كي يمكننا القول إننا وحدنا نمتلك مثلها، عندما اشتريت اللوتس، كنت الوحيد الذي يمتلك مثلها، وكانت حمراء وصغيرة جداً". وفي شهادة أخرى يحلل نبيل حمدان ولع الشباب بالسيارات آنذاك، فيقول "تبدأ العلاقة مع السيارة بالمنع، يطلب الشاب من أهله قيادة السيارة فيواجه بالرفض، أو لصغر سنه، أو حرصاً عليه من الأخطار، لذلك يلجأ الشاب الى سرقة السيارة أو استئجارها لفترة وجيزة، فيحرص على الاستفادة منها أقصى الاستفادة في وقت قصير. من هنا يأتي مفهوم السرعة، كنا نجن بالسيارة، نذهب بها الى الأرز ونعود في فترة وجيزة، كنا نلف المنعطف بأقصى سرعة ممكنة، ثم تعلمنا أن نشد فرامل اليد في الوقت نفسه لإحداث دوران عنيف، كنت ألف منعطف الكورنيش مثلاً بسرعة مئة كيلو متر في الساعة بسيارة صغيرة الحجم، وكنت أطلب من أحد الاصدقاء تصوير السيارة لدى اجتيازها منعطف لتبيان مدى ارتفاع العجل الخلفي عن الأرض". وتعليقاً على صورة ابنها "مازن" في يوم عيد ميلاده الثالث عام 1940، تقول ربة منزل من عمان تدعى سمية خيري إن والدها الشيخ عبدالرحمن التاجي بنى بيتهم في وادي حنين بين عامي 1922 و1923، وتضيف "ومازلت أذكر كيف خرجتُ منه يوم زفافي سنة 1937، اقتنع والدي بعد أن خسر الألمان الحرب بأن فلسطين ستكون لليهود، فاشترى أراضي في مصر، وسجلها باسم العائلة، قال "على الأقل إذا خسرنا فلسطين فلن يعيش أولادي بالقلة". وفعلاً عاش أولاده جميعاً من أملاكنا في مصر. خسرنا كل ما كان لنا في فلسطين، وانتقلت ملكيته لليهود. أذكر خروجنا من "الرملة" في منتصف آيار مايو 1948. أجبرنا اليهود على ركوب حافلة وقالوا: "أذهبوا الى اميركم"، لم يكن عبدالله بعد ملكاً، وبقي حماي وحماتي في "الرملة" لأن الباص كان صغيراً، انزلونا في قرية ما وقالوا "طريقكم من هنا"، مشينا في السهول المحاذية للرملة من الصباح حتى غياب الشمس، وكان بعضنا صائماً، لكننا وجدنا زوج ابنة أخي واقفاً في انتظارنا مع سيارته، كنا إثني عشر شخصاً في سيارة فولكس صغيرة ... ويقال عن الملك عبدالله إنه قال لأخيه الوزير: "توفي الشيخ مصطفى الخيري وهو غاضب، لقد وعدته أن أعيد "الرملة" وأن أتغدى عنده في بيته، ولم أفعل". وتستطرد السيدة سمية الخيري قائلة: كان البيت محطة رئيسية للزوار الأجانب، ودأب المندوب السامي على دعوة الزوار البريطانيين إليه قائلا: "تعالوا أريكم الجنة". جاءت الأميرة ماري وجاء ملك الدانمارك، وأمراء العراق، كان والدي يطلع زواره على تعبئة البرتقال، ويجلب لهم العمال الى البيت كي لا يتكلفوا عناء النزول الى البساتين، كان برتقالنا يحمل اسم "ملكة يافا" ويصدر في شكل خاص الى ألمانيا، وكانت راهبات "مار يوسف" يصررن على ايصالي بأنفسهن في عطلة الميلاد، ويقلن "سوف نشرب الشاي عند عبدالرحمن بك، ونشم رائحة البرتقال". إن مشاهدة هذا المعرض، بصوره التي تردك الى ماض جميل ورائق، تجعلنا نقف على الانجاز الحقيقي للمؤسسة العربية للصورة، وهو التوثيق الفوتوغرافي لبلدان العالم العربي منذ بداية القرن العشرين، وربما قبله، إذ تضمن المعرض صورة التقطها المصور "ستروميروهايمان" سنة 1885 لصياد مصري يدعى سعيد أحمد شكري، إضافة إلى عدد من اللقطات الفوتوغرافية عن الفيديو لبعض العواصم العربية للمصور اللبناني اكرم زعتري الذي أعد صور المعرض. فتحية لهذه المؤسسة، ولمجهوداتها الجبارة.