قد ينقاد بعض المراقبين الى حمل ما قاله الرئيس العراقي صدام حسين في انتصار "العراق" المستمر منذ عقد من السنين، على هذيان مستمر ومقيم. فالرجل لم يتردد في الاستدلال بدخول قواته الكويت وإطباق قوات الحلفاء عليها من كل جهة قبل التمثيل فيها، على إرادة إلهية لا راد لها. ومذذاك نجا صدام حسين، ورهطه وعشيرته، من محاولات قتل لا تحصى، وهو لا يزال حياً، ولا يزال ورهطه في سدة السلطة، والعراق في حدوده الدولية ما زال العراق عينه، وأثر هذا العراق في سوق النفط ما زال بالغاً، وأثبتت السلطة أن الحصار المضروب على العراق ظالم وجائر، ولم يؤد الى إضعاف أهل السلطان، بل أحرج كل من ضلع فيه ولو بالسكوت عنه أو القبول به أهون الشرور... ومهما كان الرأي في تمكُّن الرجل، وفي أسبابه وملابساته الكثيرة من غير ريب، فهو لم ينفك منذ عدوانه على إيران في آخر صيف 1980 ثم منذ ربيع 1990، وكان يعد العدة للعدوان على الدولة العربية الجارة، يربط ربطاً وثيقاً بين معاركه وحروبه وبين المعنى الفلسطيني العربي. فجعل عبادان طريقاً الى فلسطين قبل أن يتهدد الدولة العبرية بحرق نصفها بالسلاح الكيمياوي. وفي كلا الحالين كانت عين من عينيه، وهي العين الحقيقية، تنظر الى موضع آخر ومعنى آخر: إلى شيعة العراق وجنوبه في الحال الأول، وإلى أسعار النفط وديون العراق في الحال الآخر. ولا يضعف نظرُ العين الحقيقية إلى غير المعنى الفلسطيني العربي من دلالة هذا المعنى، ولا من مكانته في السياسات العربية ودوره في رسم طرقها ونهجها. فيضطلع هذا المعنى بتسويغ نهج "حربي" قاطع يُصْلي جماعات الداخل ودول المحيط الإقليمي والدول الغربية الكبيرة العداء، ويسعى في تسلط جامح على جماعات الداخل ودول المحيط الإقليمي. ويؤيد الفلسطينيون أو معظمهم اضطلاع المعنى الفلسطيني بالدورين العربي والدولي وبالدور الداخلي الذي ينسب إليه إليهم ويحمل عليه وعليهم. وهم بادلوا، أو كثرة منهم، الهوى العراقي الصدامي بهوى مثله. ويقتفي الرئيس العراقي، اليوم، خطاه بالأمس حين يقول إن العرب المجاهدين والمناضلين لا يمكن أن يشعروا بالخوف بعد أم المعارك الخالدة وبعد أن واجه أطفال وشباب وشيوخ فلسطين سلاح اميركا والصهيونية بالحجارة إلى ألف أو آلاف السنين". واختباره قوة العراق، وبرهانه القاطع على هذه القوة بإعلانه "استعداد" العراق لقصف إسرائيل "ستة أشهر متواصلة" وتحرير أراضي 1967 "في مرحلة أولى" توخياً للدقة وقطعاً للاسترسال مع الأوهام الهاذية، من الطينة نفسها أو من الحبر نفسه. فالمعنى الفلسطيني "مشجب" تعلق عليه التيارات السياسية العربية - المعارضة والحاكمة، المعتدلة والمتطرفة، العروبية والإسلامية، النخبوية والجماهيرية - سياساتها وبرامجها ونوازعها كلها. وتتوسل التيارات هذه بالمشجب الفلسطيني الى تعريف نفسها، وتقوية هوياتها المدعاة أو المرجوة من طريق الانتساب إلى الصلب الشريف والعالي. فإذا تصور الصلب هذا في صورة أولاد يرمون الحجارة، ويتسابقون على الموت، ويحوطون أصدقاءهم ورفاقهم وهم مسجون أو محمولون على الأكف، صلح الصلب مرجعاً لا يعلوه مرجع آخر، واختصر الأماني والآمال والسياسة والثقافة والاجتماع من أدناها الى أقصاها. وعلى مثال السيد صدام حسين، وقبله وبعده، زعمت سياسات عربية أخرى وإسلامية لنفسها ضلعاً في الأحوال الفلسطينية القائمة منذ أواخر أيلول سبتمبر من العام الفائت. فإذا جمع الرئيس العراقي حرب الفلسطينيين على "أميركا والصهيونية" الى "أم معاركه"، وهن "أمهات"، جمعت الدعاوة السورية الناشطة "انتفاضة الأقصى" الى "الصمود" السوري منذ ثلاثة عقود، وإلى آخر فصول العقود الثلاثة هذه المسمى فصل "الإصلاح والتحديث الوطني"، كناية عن إجراءات السيد بشار الأسد الاقتصادية المزمعة وعن تركه بعض الكتابات والبيانات من غير مصادرة وكتابها من غير اعتقال. فكتب السيد طيب تيزيني، الكاتب ومؤرخ الفلسفة السوري، في معرض نصيحة ومشورة، "أن الحفاظ على سورية الإصلاح والتحديث الوطني وحماية الانتفاضة المجيدة يمثلان - في اللحظة المشخصة - وجهين لموقف واحد". والكاتب السيد تيزيني، البعيد من صدام حسين على أوجه ومعانٍ كثيرة، يجد نفسه مسوقاً إلى تعليق إصلاحه وتحديثه على المشجب العتيد. وإصلاحه وتحديثه يتحدران، تاريخاً وسياسة وإدارة وطاقماً حاكماً، من مصادر مختلفة وقد تلتقي المصادر السورية والمصادر الفلسطينية ولكن في مواقع يحرص التأريخ السوري المعروف على السكوت عنها، وتجاريه التأريخ الفلسطيني على سكوته في معظم الأوقات. فأحكام النسبة والإحالة أقوى بكثير من أحكام التمييز والفصل. أما الدعاوة السورية المأذونة فذهبت الى تغيير معالم الساحات الكبيرة بدمشق وربما بغيرها، على ما وصف مراسل "الحياة" في العاصمة السورية، فأنزلت شعارات ورفعت أخرى، وطردت صوراً ونصبت محلها تلك التي تجهر على الملأ "نبض الشارع العربي" وقلبه "السوري - الفلسطيني". وأرخت أجهزة سورية وحزب اللهية لبنانيةوإيرانية وقائع "الانتفاضة" الثانية، إذا صدقت نسبة هذه الى الأولى، فحملتها على حلقتين سابقتين ومتصلتين هما "سورية" أو المعنى السوري: الصمود والأفق القومي... و"حزب الله" أو المعنى الحزب اللهي: المقاومة، الانتصار على إسرائيل.... والحلقة الثانية، الوسيطة بين الأولى، السورية، وبين الحلقة الفلسطينية والأخيرة، فرع من فروع الأولى. وقد يجمع بين الحلقة السورية وبين إيران الخمينية جمع توأمة، وقد يقتصر على الحلقة السورية، على ما يؤثر ألسنة هذه. ولكن الثابت في التأريخ، وفي النسب، هو تعيين الأصل والمصدر في السياسة أو القيادة السورية المستمرة والواحدة منذ فصلها الأول الى آخر فصولها. وترك "حزب الله" اللبناني العنان، في الأسابيع الأولى من حوادث الحرب الفلسطينية والإسرائيلية، لانتشائه بالجلاء الإسرائيلي عن الأراضي اللبنانية أو عن "أراضٍ لبنانية"، إلحاقاً بالقرار 242، وببسط سلطته وحده على الأرض التي جلا عنها الاحتلال، وتمكين هذه السلطة على السكان المقيمين. فبدت الحوادث الفلسطينية الأولى في مرآة دعاوة الحزب الخميني فصلاً من فصول "المقاومة الإسلامية"، وعملاً من أعمالها. وأدرجت السياسة الحزب اللهية أسرها الجنود الإسرائيليين الثلاثة بمزارع شبعا، ثم استدراجها التاجر ورجل الأمن الإسرائيلي المتقاعد الى بيروت، رافداً من روافد انتفاضة الأقصى. وتحفظت عن الإدراج، من وجه آخر، من غير حرج ولا نقض. وتذرعت برافدها هذا، وهو صفق له وانتشى به بعض الكتّاب الفلسطينيين، الى مراقبة الحوادث الفلسطينية وسياستها. ونصبت نفسها، بالأصالة والنيابة والوكالة، حسيباً على هذه السياسة وناظراً حازماً عليها. والحق أن المراقبة والحسبة والنظارة، على أعمال وسياسة فلسطينية على الخصوص، ليست دعوى ينفرد بها "حزب الله" اللبناني، بل هي دعوى الكل وحقهم الثابت المزعوم. ويترتب الحق هذا على "قومية" المسألة الفلسطينية، أو على إسلاميتها"، أو على النسبتين معاً" ويترتب على دَيْن الفلسطينيين الى أولياء حركاتهم أو "انتصاراتهم". وهؤلاء الأولياء ليسوا فلسطينيين، ولا ينبغي لهم أن يكونوا فلسطينيين إلا من طريق ولائهم العروبي أو الإسلامي السياسي. وينسب الفلسطينيون الى الانحراف أو الى الخيانة إذا هم انتسبوا الى وطنية فلسطينية مباشرة، ولم يوسطوا لها العروبة السورية أو العراقية أو الليبية من قبل أو الإسلام السياسي الإيراني في معظم الأحيان. ولا يماري فلسطينيون كثر في صحة هذا الشرط عليهم، ويأخذون به ويشترطونه على أنفسهم. فيحسب السيد أكرم هنية، رئيس تحرير صحيفة "الأيام" ومستشار الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، أن "قدرة" القضية الفلسطينية "الهائلة" "على التأثير في الشعوب العربية" هي ما يخول السلطة الفلسطينية وقيادة منظمة التحرير دعوة واشنطن و"عقول موضوعية فيها" إلى استخلاص "هذا الدرس وهي أي العقول الموضوعية ترى على مدى الشهور الماضية السفارات الأميركية وهي تغلق في عدد من العواصم العربية والإسلامية" "الحياة" في 21 كانون الثاني/ يناير. فميزان الانتصار في السياسة العربية، أكانت سياسة دولة عريقة ومستقرة أم سياسة حركة، أهلية عسكرية وأمنية، واحد وهو "مواجهة سلاح أميركا والصهيونية"، على قول السيد صدام حسين، ولو اقتصرت المواجهة على الخطابة. ولعل مكانة المسألة الفلسطينية، على صورة "الدم الفلسطيني" خصوصاً، مصدرها وقوف الفلسطينيين، اضطراراً، بإزاء الإسرائيليين "الصهيونية" أو "اليهود" من غير واسطة ولا حاجز. وينتاب الضعف "القضية" الفلسطينية، وسياسة الفلسطينيين، إذا لم يلقِ هؤلاء بأنفسهم الى الموت بيد القوات الإسرائيلية. ويصيب الوهن السياسات والأنظمة العربية إذا هي حملت العلاقات بين البلدان العربية وبين إسرائيل على محمل العلاقات الدولية أي بين دول، وعزفت عن الحرب، ميزاناً لهذه العلاقات ومعياراً. ومعظم السياسات والأنظمة هذه إما تحدر مباشرة من "الرفض" العربي للدولة العبرية، أو نَسَب نفسه وعلته إلى معالجة ذيول "التخلف" والتبعية الاستعمارية السابقة ثم وحَّد نشأة الدولة العبرية بهذه الذيول وجعل النشأة ذيلاً من ذيول التبعية والتخلف. فألحقت هذه الحال سياسة الداخل الوطني بالغايات الإقليمية التي تقدمت الغايات الداخلية، وسوغت هذا التقدم بالحرب الوشيكة والشاملة، والآتية لا محالة. فاختصر الإعداد للحرب السياسات العربية، وخصوصاً المشرقية، وأوجبت السياسة استمراراً للحرب في الداخل والخارج، وأُحل الأمر ومراتبه وآلاته العرفية والأمنية محل السياسة ومنازعاتها وتحكيمها وكثرة عواملها ومصادرها ومراجعها. ونجم عن إيجاب السياسة استمراراً للحرب في الداخل، وعلى الداخل، كما في الخارج وعلى الخارج، ربطُ الحربين واحدتهما بالأخرى. فلم ينفك الحكم والقيام به حرباً أهلية ينفخ فيها الخارج، أي العدو "المطلق" العداء والعدوان والشر. فلم يجوِّز ذلك الأحكام العرفية والاستثنائية وإلغاء القضاء وجمع السلطات والقيادات كلها في يد واحدة، وحسب، فجوَّز إليها، إصلاء الداخل حرباً "مطلقة" بدورها، غايتها المعلنة سحق عدو الداخل و"استئصاله"، والحؤول بين الخارج، "الأميركي الصهيوني"، و"الاستشراقي" على قول المستشار هنية، وبين استعماله قوة الداخل، وتحريكها، وإحباط النهوض من طريقها وبواسطتها. ومثَّلت "انتفاضة الأقصى"، وفروعها العربية والإسلامية، الشعبية والرسمية، على الآراء والأحكام هذه خير تمثيل. وكانت المقدمة التي رسا عليها هذا التمثيل، واستمدها قوته قبل أن تؤدي به الى الأفول والتخبط الحاليين، حماية وقائع "الانتفاضة" من المراقبة والمحاسبة، وتحصينها من النظر الى تركيبها الداخلي وإلى أبنية سياستها وقواها وأعمالها وقيمها. وعلى مثال معروف ومجرَّب قيست الانتصارات المزعومة بالخسائر البشرية والاجتماعية والمادية، وبالخراب الذي أنزلته الحرب "المطلقة" في المتحاربين، وقيست ب"الوحدة الوطنية" التي جمعت بين القتلى من غير أن تقرّب بين الأحياء وجماعاتهم وأحزابهم إلا على مضض وريبة كبيرين. وأطلقت الحرب أيدي أهل النفوذ، من حكام وقادة منظمات ميدانيين وموظفين امنيين، في حياة الناس وموتهم، وفي سياسة الكيان الناشئ، فوق ما كانت أيديهم مطلقة وغير مقيدة. وكثرت شبكات النفوذ، واستقل بعضها عن بعض. وكثرت شبكات المصالح، وتفرقت كتلها. فإذا بلاجئي 1948 في الضفة الغربية كتلة قائمة بنفسها على شاكلة "المهاجرين" الى باكستان من مسلمي الهند قبل الانفصال. وانتحى جيل الانتفاضة الأولى ناحيةً على حدة. وجمع بين تلامذة المدارس، والصفوف المتوسطة على وجه أخص، قاسم مشترك ينفردون به، الخ. وزعمت هذه الجماعات لنفسها سياسة داخلية مستقلة، وسياسة عسكرية، وسياسة إقليمية، وعلاقات بالجوار الإقليمي وبأقطابه، خاصة ويعود الى كل جماعة أمر إقرارها والبت فيها. وسعت كل شبكة في منافسة الشبكات الأخرى ليس من طريق الإسهام في بناء سياسة مشتركة أو في توسيع الإطار السياسي الذي ترعاه السلطة الفلسطينية المنتخبة وهي منتخبة من غير طريق وتتعهده، وتتعهد تبعاته ومترتباته الداخلية والخارجية. فاتجه هذا السعي صوب إحراج الشبكات بعضها بعضاً، وتطويقها والالتفاف عليها، وحملها على ما لا يتفق مع التزاماتها السابقة، وبعض هذه الالتزامات يلزم بعض الشبكات. وسائق المنافسة المحمومة والمدمرة هذه الخروج على الموازنات القائمة من قَبل بذريعة أن هذه الموازنات "تخدم" السياسة الإسرائيلية، وتثبت ميزان القوى المائل الى المصالح الإسرائيلية. أما السبيل الى ميزان عدل فهو إخراج العلاقات الإسرائيلية والعربية برمتها من إطار السياسة والعلاقات الدولية، وإحراج المتمسكين بهذا الإطار، والتلويح بمطاليب تقصم ميزان المفاوضة وتنقض بعض مقدمات التفاوض مثل إدخال القرار 194 في مراجع المفاوضة، ومثل الجمع بين الإقرار بدولتين منفصلتين وبين طلب الحق في الغلبة السكانية على الدولة الأخرى. ويشفع كل فعل من الأفعال الآيلة الى هذه الغايات بإهراق دمٍ متطوع أو بنحر عدو. وينبغي أن يحتسب هذا حجة لا ترد على سواء السبيل الى الغايات هذه. فيرسي هذا الضرب من الأفعال خطاً وسياسة، اختبرا وقتاً طويلاً في لبنان من قبل وما زال لبنان الى اليوم مختبرهما. ويقوم الخط والسياسة هذان على توريط الجزء السياسي الكلَّ، مهما كانت آراء الأجزاء والجماعات الأخرى ومهما كان دور الجزء المورِّط ضعيفاً في الحياة العامة. فيقود الجزء، جماعة أو حزباً أو شلة، الكلَّ الى تحمل تبعات أفعاله و"حربه" من طريق الإحراج وإيجاب شروط سياسة على حافة الهاوية. فلا يبقى ملجأ للجماعة التي لا ترى رأي الشبكة المنافسة إلا الاغتيال والإرهاب، على مثال سياسة العدو نفسه. وتحتفل الجماهير ب"الانتصارات" التي تتوج مثل هذه السياسات بعد أن خبرت الشعوب ما آلت إليه هذه السياسات عندما استولت على الدول المشرقية التي استولت عليها، وتتسلط عليها منذ جيل كامل. فالثمرات المسمومة التي يزعم "الإصلاح والتحديث" استبدالها بثمرات تؤكل، ولو ضامرة وجافة، إنما هي نتاج هذه الشجرة التي رواها الدم ولم يكف عن ريِّها. * كاتب لبناني.