ليس بخاف على أحد وفرة الأعمال الدرامية التاريخية، على شاشات التلفزة العربية، في شهر رمضان، وليس بجديد أن يتساءل البعض عن سر تزايد الأعمال في شهر الصيام، لكن اللافت حقاً هو أحادية الرأي في الإجابة، والتباين بين الإجابات. ثمة دوامة تعيشها الدراما: المنتج يبغي الربح، والكاتب يريد تسويق عمله، والعمل يخضع للرقابة، ومحطات التلفزة تحدد الرقيب، والسلطات مالكة لمعظم محطات التلفزة، ونصيب المشاهد من هذه الدوامة هو الدوار فقط! والمرجح أن أبرز تجليات الأزمة، هو إفراطها في التوجه التاريخي النمطي، وكيفيته هي التي تضفي عليه سمة السلبية وتجعل منه تعبيراً عن أزمة، فالتاريخ في العمل الدرامي لا يحضر بصفته مادة للنقد، أو في إطار رؤية تجديدية للماضي، أو باعتباره حال كشف لتناقضات الراهن، إنما يحضر فقط في بعده الدعائي والتقديسي منظوراً اليه كمثال، وما الحاضر والمستقبل إلا ابتعاد من هذا المثال، وهكذا يتحول الموضوع الدرامي عما هو كائن - أي عن المعاصرة - الى ما يجب أن يكون - التاريخ - إذ الهوية في "حال انسجام"، والشخصيات "كائنات سوبرمانية"، مطلقة في الخير والشر، والعبرة شراب محلى يتجرعه المشاهد بمجرد جلوسه أمام الشاشة الصغيرة. وربما كان الكتاب هم الأقدر على تبيان أسباب التوجه الى مثل هذا النوع من الأعمال. سيريس: العودة الى كتابة الرواية يقول الكاتب الروائي نهاد سيريس صاحب "الثريا" و"خان الحرير": "لكل كاتب دوافعه للتوجه الى هذه الأعمال وغيرها. أما عربياً، فيمكن المرء أن يخوض في الفن والرياضة والتجارة والقضايا الاجتماعية، وغيرها، لكن من الأفضل أن يبتعد من السياسة لأنها حكر على السلطات، لذلك فإن أي مسلسل يرصد الواقع المحلي اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً، في شكل حقيقي، هو خوض في السياسة، وإما أن يقدم فيه الكاتب وجهة نظر السلطة، أي يبقى في حدود المألوف، والمسموح، والمتداول، وهذا لا يلائمه، أو أن يقدم وجهة نظر أخرى تخالف السلطة وهذا لا يلائمها، وبالتالي ستقوم بمنعه". ويضيف: "حتى تكتبي، يجب أن تكوني واقعية، لكن ممنوع عليك أن تقدمي شرطياً شريراً، أو قائداً حزبياً فاسداً، أو ضابطاً مستغلاً ومسيئاً، ويجب أن تبحثي عن الشخصية السلبية بين التجار، أو ملاكي الأراضي، أو متعهدي البناء، أو أن تعودي الى التاريخ للكتابة عن المستعمرين الفرنسيين، الأنذال، أو الانكشاريين العثمانيين، وحتى هذا صار الآن ممنوعاً، بعد تحسن العلاقات مع تركيا وفرنسا، لأنه يجب أن نحترم أصدقاءنا الجدد!". "آخر ما تفتقت عنه ذهنية الرقيب، هو منع تصوير أي حادث قتل، أو خطف في شوارعنا، لأن عرضه على الفضائيات سيهرب السياح، من بلادنا! وهكذا تقلصت العناصر والقضايا الدرامية المتوافرة، ولم يعد أمام الكتّاب سوى ارتياد متحف التاريخ، ففضل بعضهم الكتابة عن الصراعات القبلية في الجاهلية، وبعضهم الآخر لجأ الى إعادة تقديم بطولات الزمن الغابر، وصارت الدراما تساهم اليوم في التعتيم على قضايانا، ومشكلاتنا الحقيقية". ويختتم بأنه أصبح يفضل العودة الى كتابة الرواية، لأن "السلطات أقل حساسية تجاهها من الدراما التلفزيونية". خرتش والسقوط في الزمان الكاتب فيصل خرتش، صاحب مسلسل "باب الحديد"، وفيلم "تراب الغرباء"، يرى أن العرب عموماً "يعيشون في الماضي، فالكتب المدرسية تستعيد دوماً سيرة السلف الصالح، والأبطال الذين لا يأكلون ولا يشربون إلا من جثث الأعداء، وفي المنجزات العلمية يعودون الى التاريخ، وفي اللغة العربية وآدابها وفنونها ومذاهبها، يجدون أنفسهم في قاع العصر الجاهلي، انهم يستعيدون كل صفحة يقرأونها، وانتصاراتهم العظيمة مخبأة في المكتبات العامة، وسيحولونها حتماً الى مسلسلات تاريخية، كي يقولوا ان تاريخهم مشرف! "وعندما يلجأ الكاتب الى هذا النوع من الكتابة، فلأن شركات الإنتاج تريد ذلك، ولأنه بحاجة الى مال يسكت أنينه الداخلي والخارجي، وطبعاً الحوار في هذه الأعمال خطابي، وموضوعها، الصراع بين الأشقاء، وينتهي بانتصار الخير أو الشر، وهي مقطوعة الجذور عن الواقع". ويختتم: "إننا أمة تفتح فمها باسترخاء، وهي تتابع العمل التلفزيوني من دون أن تفكر، ومن دون أن تسأل، ومن دون أن يكون لديها رد فعل، أو رأي في ما يقدم لها، وكل ذلك بسبب الجهل". خليفة: السوق هو البداية والمنتهى الروائي خالد خليفة، صاحب "سيرة آل الجلالي"، اختصر رؤيته برفض فرضية وجود من يفكر ويخطط، وان القصة كلها "تتلخص باقتصاد السوق، الذي يفرض الخيارات، وليس رغبة الكتاب، أو مشاريعهم كما افترض زملاؤه". و"أخيراً... إذ يتساءل البعض عن سبب الصدى الواسع الذي تلقاه الدراما التاريخية؟ أقول: ربما كان ذلك بسبب اليأس من الحاضر والمستقبل، وربما بسبب اللامبالاة والفراغ، وعلى الأرجح بسبب العقم الذي تعيشه مشاريعنا الاجتماعية والسياسية، وحتى يأتي زمن يغدو فيه الماضي في المستقبل، وليس العكس، لا بد من أن يفسح المجال لإعادة قراءة التاريخ من زوايا متعددة، بعيداً من التقديس، عندئذ تغدو الأعمال التاريخية ذات طبيعة مختلفة، كمّاً ونوعاً، وتتخذ مكانتها في سياق أنواع درامية تلفزيونية أخرى، وليس على حسابها للهروب من أزمة؟!".