تميزت تجربة الروائي السوري نهاد سيريس التي بدأها عام 1978 في رواية "السرطان" بأبعاد متعددة وثرية فاجأت الحياة الثقافية اليومية في سورية، وأثارت في بعض قطاعاتها الحيوية جدلاً شفهياً وكتابياً كثيفاً، طال نوعيتها ومصادرها وعوالمها ورهاناتها الفنية والدلالية. واتخذ هذا الجدل أحياناً أشكالاً سجالية صاخبة كرست فعلياً الاهتمام بهذه التجربة بقدر ما عبرت عن الهيمنة المتزايدة للنوع الروائي على الحقل الأدبي السوري في العقدين الأخيرين. فقد فاجأ هذا الروائي الطالع للتو من قطاع الهندسة ورجال الأعمال تلك الحياة الثقافية بنوع من رهان روائي يدعي اعادة النظر في ريفية الرواية السورية وأسلوبيتها "الإنشائية" البلاغية المهيمنة، واعادة بنائها على أساس المجاز البنائي الذي يتصل بالأفعال وليس على المجاز البلاغي الذي يتصل بألق الكلمات. وساهمت أعمال سيريس ولا سيما منها "رياح الشمال - سوق الصغير" 1989 في تعزيز علاقة السرد الروائي بالتاريخ السوري القريب في القرن العشرين، وانتاج مستوى مهيمن من مستويات بنية رواية تاريخية في السرد السوري، والاسترجاع النوستالجي للفضاءات الشعبية المدينية وألوانها المحلية البيئية، ومواجهة عملية تزييف المدينة وتحقيرها عبر رؤية جديدة للمدينة تتخطى الموقف "الشعبوي" الفلاحي الراديكالي منها والذي ميز في شكل خاص المضامين الدلالية للشعر السوري الحديث في الستينيات. واندرجت في هذا السياق رواية سيريس "الدرامية" الكبيرة المسلسلة الموسومة ب"خان الحرير" والتي مكنته من أن يسهم باقتراح نوعية روائية جديدة تقوم على محاولة الدمج ما بين تقنيات الرواية والتقنيات الدرامية التلفزيونية في إطار ما يمكن أن يعرف مبدئياً ب"رواية تلفزيونية". غير أن سيريس في روايته الجديدة "حالة شغف" دار عطية يحاول أن يتخطى هنا تجربته الروائية ويغنيها بأساليب وتقنيات سردية مغايرة ومختلفة. وإذا كان قد حاول في تلك التجربة أن يضطلع ببعض وظائف المؤرخ السوسيولوجي لمدينته حلب وفضاءاتها وعلاقاتها وأنظمتها الرمزية وتطورها الاجتماعي والسياسي، فإن المحتوى الحكائي هنا في "حالة شغف" يرتكز على تصوير عوالم اجتماعية "باطنية" في المدينة، هي على وجه التحديد عوالم "بنات العشرة" والمثلية النسوية في مرحلة زمنية محددة هي مرحلة الثلاثينيات والأربعينيات. ويستمد هذا المحتوى جاذبيته "السيميوتيقية" من ارتباطه بخصوصية تلك العوالم وتاريخها "السري" المكبوت والمستعاد، الذي يعكس نسقه الخاص علاقات السيطرة - الخضوع وتراتبيات السلطة والثروة والمكانة الاجتماعية في تلك المرحلة. فيحاول على غرار طريقته الوصفية السردية السابقة التغلغل في تلك العوالم ومتابعة فضاءاتها وأنماط علاقاتها ونظمها الرمزية بشكل يبدو فيه العالم التخييلي الروائي ذا صفات مرجعية إحالية الى واقع كان قائماً بالفعل، ويوفر بالتالي معقولية باحتماليته ومقروئيته. ولعل سيريس قد انفرد عن سائر الروائيين السوريين المهمومين بالفضاء المديني بتغلغله في هذا الفضاء النسوي الخاص، الذي يمثل على المستوى السوسيولوجي أحد الفضاءات الأساسية في التاريخ النسوي للحريم المديني. وعلى رغم أن المحتوى الحكائي يكتسب هنا جاذبية خاصة، فإن أدبيته تتخطاه وترتبط الى حد بعيد بالصيغة الروائية التي يقدم فيها. فالمادة الحكائية إذا ما استعيدت لن تكون إلا مادة محدودة وفقيرة، يمثل فيها فضاء الحريم وليس الشخصيات البطل الأساسي. فتأخذ تلك المادة شكل مغامرة حكائية لموظف في مصرف زراعي تنقطع به السبل فجأة في احدى الليالي العاصفة في الريف، فيلجأ الى أول بصيص ضوء، ليس في حقيقته إلا فيلا ريفية منقطعة ومفاجئة، ولا يستطيع الراوي أن يستعيد موقعها أو يتعرف عليه، مما يسبغ على المغامرة منذ البداية اختلاطات الحلم بالحقيقة ويثريها تخييلياً. وفي هذه الفيلا المنقطعة التي يقطن فيها الشيخ نافع وخادمه الشاب إسماعيل، يقيم الراوي خمس ليالٍ. يجري خلالها سرد الحكاية التي تتوقف عند نقطة غامضة تتعلق بصلة الخادم إسماعيل بها. ويستنتجها الراوي من خلال القرائن بتنوير لغزها في أن الخادم لم يكن إلا الإبن غير الشرعي للشيخ من حبيبته "بنت العشرة"، ويتم من خلال ذلك السرد تصوير عوالم الحريم التقليدي. ان "الحدوتة" هنا بسيطة للغاية، وأضعف بكثير من عوالمها. في كلام آخر يبدو واضحاً أن رواية سيريس لا ترتكز على اشكالية ايديولوجية أو سياسية أو اجتماعية أو تاريخية من نوع الإشكاليات التمثيلية التي نعرفها في تجربته الروائية بقدر ما ترتكز هنا على ذاتها، أي على الصيغة أو الخطاب، الذي تتحول فيه حالة الشغف بالمحتوى الحكائي نفسه الى حالة شغف بطريقة حكيه وتقديمه. ربما يكمن هنا رهانها الأساسي، الذي يحضر في شكلٍ خاص مميز له هو الشكل الحكائي الشعبي. وإذا كان هذا الشكل قد غدا مألوفاً ومتواتراً في الأساليب السردية العربية المعاصرة المهمومة بتجسير تفاعلها مع التراث السردي العربي وتقنياته، ضمن طموحات "تعريب" الرواية و"توطينها". فإن سيريس يحول هنا الحكاية الى رواية. انه يحاكيها بقدر ما يحولها، فتتخطى نوعية هذا التحويل الموضوع أو المحتوى الحكائي الى طريقة البناء أو الخطاب. تبرز في طبيعة الحال هيمنة المستوى الحكائي الذي يضمن الراوي من خلاله معارفه ومداركه. وتظهر هذه الهيمنة بوضوح عبر السلوك النصي اللغوي الذي يضطلع فيه الراوي ببعض وظائف "الحكواتي" القديم، الذي يتنكر هنا في صورة راوٍ "اعتيادي" لا يعرف تقنيات الكتابة الأدبية. ويدعو الى كتابة ما يرويه. يبدو سيريس في سياق ذلك وكأنه يستعيد على نحو ما شكلاً من أشكال البناء في ألف ليلة وليلة، محدداً ليالي حكايته بخمس ليالٍ قضاها الراوي في الفيلا المنعزلة وهو يستمع الى الحكاية أولاً بأول، ووفق زمن سردي عمودي أو خطي يقطعه الراوي ويقحم فيه حكايات أخرى. تظهر الحكاية المروية هنا على غرار ألف ليلة وليلة مثل كرة الثلج التي تكبر وتتسع تدريجياً لتذوب في لحظة "التنوير" وكشف "اللغز" المشوق. وهي تتميز تبعاً لذلك بتوالديتها المستمرة، أي أن الشخصية تولد شخصية والحالة تولد حالة في حركة ذات طابع دوراني متصل. الراوي هو في الأصل مروي له وغير مشارك في القصة، ويظل على مدى الخطاب مروياً له بشكلٍ مباشر. فالشيخ يحكي للراوي والراوي يحكي لنا. الشيخ محور الحكاية بقدر ما أن الراوي هو العامل المساعد على إطلاقها والخادم إسماعيل هو العامل المعيق والمقيد لها. ويظهر الحوار ما بين الشيخ والراوي أحياناً في شكل "ثقافوي" أخباري. إلا أن سيريس يغطي بساطة ذلك وثغراته باستثماره الخلاق للتقنيات العميقة في السرد الحكائي الشعبي. فتمثل الانتقالات الفجائية التي تواجهنا باستمرار في مجرى الحكاية ونموها جزءاً لا يتجزأ من طبيعة ذلك السرد. إذ تنبني الحكاية على سلسلة من المصادفات غير الاعتيادية في الزمان والمكان، فالكل يلتقي بالكل مصادفة وبشكل غير اعتيادي. يعزز سيريس ذلك من خلال سلسلة متواترة من الإطنابات والملاحقات والألغاز، ويحاول إغناءها باستثمار تقنية الإسناد المألوفة في السرد التاريخي العربي. وتشكل تلك السلسلة علاقات محور "التشويق" المستمر في الرواية، الذي يبرع سيريس في الاشتغال عليه، وفي الحفاظ على وتيرة الجذب والتشوف المستمرين. وينفتح تقنياً في هذا المحور على تقنية سرد التقرير أو المحضر ونصوص الصحافة والصور والأشياء والتحف والكتب التي تتخطى الوظيفة "الديكورية" الى وظيفة بنيوية في نسيج الرواية، كما ينفتح بشكل خاص على تقنية الحبكة البوليسية بما فيها من مطاردات ومغامرات وملاحقات ومفاجآت ومؤامرات. وتغدو هذه التقنيات برمتها موظفة لصنع رواية مرتكزة على ذاتها وليس على اشكالية فكرية أو سياسية أو إيديولوجية، وتطمح من خلال تضافر طريقتها الروائية مع جاذبية المحتوى الحكائي وخصوصيته لأن تكون نوعاً من رواية العوالم العميقة والخصوصية لحياة المدينة.