قيل إنّ أكبر ظلم تعرض له الكاتب البريطاني كريستوفر مارلو هو أنه عاش في الفترة ذاتها التي شهدت ظهور شكسبير. يمكن واحدنا أن يأخذ هذا القول إلى الكاتب الإيطالي دينو بوزاتي. لقد عاش في فترة كانت شهدت ظهور فرانز كافكا. قبل وفاته بقليل قال بوزاتي: مذ شرعت في الكتابة كان كافكا بمثابة صليبي. لو لم يكن كافكا ظهر وشيّد ذلك العالم الروائي المذهل لكان دينو بوزاتي أضحى "كافكا العصر". كان لنا أن نتحدث آنذاك عن المناخ البوزاتي. موهبة بوزاتي تحول دون الاعتقاد لحظة واحدة أن مسيرة الروائي كانت مشياً على خطى كافكا أو تقليداً له. التركة القصصية والروائية لبوزاتي تتمتع بقدر كبير من الأصالة والعمق. وإذا كان الشرط الإنساني، العبثي في هذا العالم، هاجساً يتقاسمه مع كافكا، ولكن مع آخرين كثر، فإن في طريقته للنظر في ذلك الشرط ما يتركه وحده مع صوته الخاص. ثمة رابطة قوية تجمعه مع ما هو يومي الأماكن، العادات، الأحداث الجارية وهذا أمر يمنح مناخه الكتابي "صدقية" واقعية وقواماً محسوساً. يبدو كل شيء وكأنه يجري هنا، في ضوء النهار وأمام أعيننا. مناخات ضائعة في عوالم غامضة وموحشة بعيدة منّا ولكن في سياق قريب من نبرتنا الخاصة. في عالم يبدو كل شيء عبثاً يصعب على الفرد أن يدرك التناقضات التي تلفه وتدفعه إلى اليأس. يتأمل بوزاتي وضع الكائن من زاوية معتمة تتيح رؤية الصحراء القاحلة مكشوفة أمام ضوء الخارج. في وسع القارئ أن يمسك بمفتاح العالم القصصي لبوزاتي ويدخل إليه من جوانب مختلفة: واقعية، رمزية، تراجيدية. اللغة الدقيقة تدفع القارئ إلى التورط في النص. يلقى نفسه وكأنه شريك في السرد الذي يندفع بسلاسة تأخذ القارئ في اللجّة. كثافة اللغة وقوتها التعبيرية تحوّلان الواقعي إلى تخييلي كما أنهما تفعلان العكس. واعتماد النص على خصوبته الداخلية يحرره من الحاجة إلى الحشو والزوائد الشكلية. إنها طريقة لصنع عالم متكامل من بضعة أسطر. الكتابة تمتحن رشاقتها. كانت هذه نظرة بوزاتي: أن تكون الكتابة مختصرة ورشيقة. أن يكون في وسعها التأرجح بين الواقع والخيال. لم يكن بوزاتي ينظّر للكتابة. كان يكتب وحسب. لم يشرح أدبه بل كان يخوض فيه نحو الأعماق، غارقاً في الضباب والظلال. في قصصه، وبوزاتي قاص قبل كل شيء، ينفتح النص على الحدث من فوره. ليس ثمة فراغ يمكن حشوه بممرات منطقية أو شرح عقلاني. الحدث يقع وكفى. يمضي السرد بعيداً. يكون الوقت فات على القارئ لطرح السؤال. فهو، إذ ينجرف مع النص، يجد نفسه وكأنه عاد طفلاً مدفوعاً بالفضول والدهشة. ثمة أسلوب يتبع منطقه الداخلي الخاص: صلب، محشو بوقائع، واقعية أو تخييلية. ثمة دقة صحافية. كان بوزاتي صحافياً ورساماً. "صحراء التتر" روايته الثالثة. أصدرها عام 1940. كانت أوروبا تئن تحت جحيم الحرب العالمية الثانية. وكان بوزاتي مراسلاً حربياً لصحيفة كوريير ديلاسييرا. يصل البطل الشاب جيوفاني دروغو إلى قلعة باستياني. عمره 21 سنة. القلعة موقع عسكري أمامي يطل على الصحراء. في ما مضى كانت مسرحاً لهجمات متكررة ومدمرة من جانب التتار. القلعة رائعة تسحر قاطنيها وتمنعهم من التخلي عنها. كأنها مصيدة لهم. أو كأنها تفقدهم الرشد وتجعلهم أسرى بهائها. الجنود المتحمسون الذين يسكنون القلعة ويمنحونها الحياة مهووسون بأمل واحد، يغدو المبرر الوحيد لبقائهم أن يأتي التتر حتى يقوموا بصدهم ويتكللوا بالمجد والشرف ويصيروا من ثم أبطالاً. يصير الانتظار عادةً عقيمة تتخشب في نفوسهم. هم يصيرون أسرى لوهمهم ونوع العيش الذي اختاروه. يصل جيوفاني دروغو القلعة واثقاً من نفسه، مغروراً، متوهماً أنه سيغادرها سريعاً حال قضائه على التتر. هو يقول انه في مقتبل العمر وأن الحياة كلها أمامه وفي وسعه أن يتصرف بها كما يشاء. إنه فقط ينتظر الحدث العظيم. يعتاد جيوفاني بدوره على الحياة في القلعة. يرضخ للانضباط العسكري هناك. تصير حياته مجموعة من القواعد والنظم والامتثالات. إنه يتروض. تمر السنوات، هكذا، مملة، بطيئة، قبل أن يدرك جيوفاني، مثل غيره، أن شبابه انطفأ وأن الزمن أثقل عليه. منذ هذا الإدراك تتبدل وتيرة الحياة وكذلك وتيرة الكتابة، ها هنا تتغير سرعة السرد تغيراً تاماً. حين يهجم التتار فعلاً يكون جيوفاني مريضاً، عاجزاً، وبدلاً من مواجهة التتار ينقلونه إلى خارج القلعة ليموت، وحيداً، في مكان مجهول، في المدينة. ثمة وجه شبه كبير مع رواية القلعة لكافكا. في الحالين هناك ذلك الانتظار المدمر لشيء لن يتحقق. أو أنه حين يتحقق بالفعل يكون الزمن صادر بهجة الوصول. في قصص دينو بوزاتي ينتشر القلق. قلق وجودي يكمن في الأعماق. لا شيء يستطيع تبديده. لا يعرف المرء ما الذي يدفعه إلى العيش وما الذي يبتغيه حقاً. حين يزول سوء التفاهم، في ما يتعلق بالمصير الفردي الغامض، يكون الوقت انقضى وصار متأخراً تعويض ما فات. في كل لحظة يمكن الإنسان أن يقع في الحفرة التي حفرها لنفسه بضعفه وتردده وكسله وإدمانه العادة. العادة شبكة مميتة توقع الكائن وتعصر لبَّه. تسرق منه الحقيقة والجمال والأشواق الرقيقة. يكتب دينو بوزاتي عن اليأس الذي يختبأ في النفس. ولكنه يفعل ذلك ببرود. الانتظار، ترقب الوقت وهو ينقضي، الإحساس بدنو الأجل، الأوهام وانقشاعها، الفراغ والسعي لتجنبه، العزلة التي تطبق على الإنسان وتهشّم روحه. هذه أوجه من كتابة دينو بوزاتي. تتجرد الكتابة من انحياز العاطفة. يبدو الروائي كما لو أنه يكتب بحثاً في الفيزياء. ينبغي أن تكون الفانتازيا قريبة من الصحافة، هذه كانت مقولة دينو بوزاتي.