حينما رأت الخريطة الاقليمية أن بعض من يقرأونها يفعلون ذلك بعين واحدة فيها حَوَل، وأن البعض الآخر يقرأ وهو مصاب بعمى الألوان فيقرأ سطراً ويقفز على خمسة أو عشرة أو يعتبر الصديق عدواً والعدو صديقاً لم تطق على ذلك صبراً فتكلمت بصوت مرتفع كالصراخ فهل سمعها؟ وإذا سمعناها فهل نفهمها؟ وإذا فهمناها فهل لنا القدرة على مواجهة ما نقول والإرادة التي تؤثر في مجرى الأحداث؟ لأنه يبدو للمدقق أن إرادتنا سقطت منا في منتصف الطريق! وعلى من يجدها المحافظة عليها رجاءً مع الشكر والامتنان قبل أن تدوسها أقدام الأعداء الكثر الذين يزحفون علينا من كل اتجاه بل انطلق البعض منهم وتمركز وسط الدار. المنطقة تهتز اهتزازاً شديداً بعد الزلزال التي تحدث فيها والتي تبعها توابع متلاحقة قضت على ما تبقى لها من استقرار... كثرت فيها النقاط الساخنة ويعتدى فيها على الشرعية والسيادة في وضح النهار وتستخدم على ساحتها القوة لتزيد الأمور تعقيداً... في البوابة المغربية مشكلة الصحراء، وفي البوابة الشرقية مأساة العراق، وفي الجنوب ويلات الحرب الأهلية في السودان، وفي المركز هناك إسرائيل وفظائعها مع أصحاب الأرض من الزمان السحيق وفي الشمال هناك الأحلام التركية في استرداد كركوك والموصل والأحلام الكردية في انشاء دولة فالحدود مخترقة يجري تعديلها بالطائرات والدبابات. وكما نرى فالأطراف متأرجحة بشدة والقلب غير ثابت يهتز في عنف مما جعل موشيه دايان يكتب "الحديث عن قداسة الحدود في منطقتنا مجرد هراء فلم تحدد الحدود بين سورية وفلسطين إلا عام 1921 ولم تضم الضفة الغربية إلى الأردن إلا بعد مؤتمر أريحا العام 1948 ولم تصبح سيناء ملكاً لمصر إلا بعد الحرب العالمية الأولى فالحدود في منطقتنا ليست مقدسة بل هي دائمة التغيير والتعديل فحينما تتحدث إسرائيل عن تغيرات لا بد من حدوثها فإن هذه التغيرات ستحدث في واقع الحال في كيانات متغيرة وغير ثابتة". وحديث الأعور به صلافة القراصنة وتبجح الغزاة، وغرور من يملك القوة. والعبث بالحدود أفقدها قدسيتها بحيث أصبحت قابلة للاختراق او التغيير باستخدام القوة أو بالاتفاق بضغط من القوة واتخذت هذه التغيرات اسماء غريبة: فهناك الحدود الآمنة التي يجري امامها وخلفها ترتيبات تعتدي على السيادة التي اصبحت هي الأخرى غير مقدسة، وهناك المناطق التي تؤجر للغير لمدد قصيرة أو طويلة، وهناك مناطق منزوعة السلاح أو يحدد فيها حجماً وكيفاً، وهناك حدود يجوز اختراقها بواسطة الجيران وغير الجيران تحت ستار دواعي الأمن أو دواعي إنسانية مما أجازه الأمين العام للأمم المتحدة في أحاديث متعددة، وهناك اختراقات في المياه أو الأجواء الدولية تحت سمع وبصر المنظمات الدولية... الأمثلة على ذلك كثيرة ومتعددة تحدث في منطقتنا من المحيط إلى الخليج، ومعرفتكم بها أكثر من معرفتي إياها. هذه الأوضاع تسهل وتشجع التعديلات المنتظرة والتصدي لها يحتاج الى لجنة من حكماء العرب للوصول الى حلول تجعل النقاط الساخنة نقاطاً باردة حتى يتوقف الاستنزاف الذي يحدث بطريقة مستمرة تحول من دون التركيز على الأخطار والتهديدات التي تتساقط علينا من جميع الاتجاهات. كما تحتاج في الوقت نفسه الى قوات رادعة تحول من دون العدوان علينا بعد التسربل بأسباب لا أصل لها فأصبحنا "ملطشة" لكل من أصبح لديه صاروخ أو دبابة أو طائرة. ويتساءل البعض هل هذا ممكن؟ والسؤال وارد وليس لدي إجابة عليه. لأن الاقتراحات لا بد أن تبنى على معرفة تامة بالعوامل المؤثرة فيها خصوصاً اذا كان الأمر يتعلق بمواضيع الأمن أو بالحرب والسلام: القوة القتالية المتيسرة، القدرة القتالية الواقعية، الإرادة السياسية المتمكنة، القدرة على توجيه الضربة الأولى وإمكان امتصاص الضربة الثانية... إلخ. عوامل ضرورية ليصبح الاقتراح معقولاً وليس مجرد وهم أقرب الى التمني منه الى الواقع. الإجابة عن بعض هذه الأسئلة تدخل في المناطق الرمادية وهي ممنوعة من التداول عن حق لأنها تدخل في نطاق "سري للغاية" أو "سري جداً" ما يجعلنا نحاول أن نحصل على بعض الدلائل التي تضبط الأمور يحول دون الشطط وذلك من المصادر المتاحة التي تتحدث عن نفقات الدفاع ونسبتها من الدخل القومي وعن الأعداد والأحجام التي تقتطع كثيراً مما كان يمكن إنفاقه على رفع مستوى المعيشة للشعوب، فنجد أن النفقات ضخمة والأعداد كبيرة الأمر الذي لا يؤخذ به علمياً على أنه اضافة للقدرة القتالية إذ لها حساباتها الخاصة. وهذا يذكرني بصاحب أغنام تعرض قطيعه لهجمات الذئاب فأشار عليه حكماء قومه بأن يخصص بعض الكلاب لحراسة القطيع واحتاجت الكلاب الحارسة الى طعام فقام الرجل بذبح بعض قطيعه لإطعام كلابه إلا أن الذئاب استمرت رغماً عن ذلك في مهاجمة القطيع لعدم قدرة كلابه الحارسة على الردع واستمر الرجل في مضاعفة عدد الكلاب مما احتاج الى مزيد من الذبائح وكانت النتيجة أن القطيع نفذ عن آخره ولم يبق إلا الكلاب.. نسي الرجل أن الحل ليس في زيادة عدد الكلاب ولكن في زيادة قدرتها وتوفر الإرادة لاستخدامها ولو في العدوان الصغير لأن ردعه يمنع ويحول من دون العدوان الكبير وإلا أصبحت عالة على موارد الدولة ودخلها فتزداد ضعفاً وتصبح عاجزة عن ردع الذئاب. الخريطة تزعق بأعلى صوتها تردد أن دخول الحروب بحثاً عن الأمن ليس كالخروج منها وعندنا مثل يقول "دخول الحمام ليس كالخروج منه" لماذا؟ لا أعرف. وما علينا، فصاحب القوة حتى ولو كانت ضخمة وقادرة يمكنه الدخول في الحرب في الوقت الذي يحدده، وفي المكان الذي يحدده، وبالطريقة التي يحددها ولكن بعد بداية القتال يستحيل عليه أن يخرج من الحرب في الوقت الذي يريده، وفي المكان الذي يحدده، وبالطريقة التي يحددها.. فالعدو الذي يتجاسر ويدخل من بابنا علينا ان نجعله كسيحاً حتى يعجز عن الخروج منه... الولاياتالمتحدة أرسلت جنودها في فيلادلفيا ولوس انجليس وفلوريدا وكانساس ميزوري وألينوي حيث كانوا ينعمون بالرفاهية الى افغانستانوالعراق بحثاً عن اسلحة شديدة التدمير وعن بن لادن وصدام التكريتي من دون جدوى واشعلوا الدار ناراً ولم يحسموا أي موقف! الرئيس بوش الصغير يطالب الكونغرس باعتماد اضافي 87 بليون دولار مما سيرفع عجز ميزانية العام المقبل 525 بليون دولار وأجبرته الظروف على تمديد بقاء قوات الاحتياطي 6 اشهر وجعلته يطالب الآخرين بتعزيز قواته بفرقة كاملة لإعادة الأمن ويزداد الرجل تورطاً في أزمته الثلاثية الانتخابية، والتمويلية، والأمنية وتجعله فريسة لسلبيات التمدد الاستراتيجي ليجعل السياسة الأميركية كلها على المحك. أسمع الخريطة تتساءل بصوت مبحوح: هل في استطاعة مثل هذا الرئيس الغارق الى أذنيه في مستنقعات من فعل حماقته أن ينفذ "خريطة الطريق" التي توصل الى إنشاء دولة فلسطينة عام 2005؟ السؤال مشروع ولا بد له من إجابة.. هذا يضعنا امام احتمالين: الاحتمال الاول انه غير قادر وأنه من بداية الأمر يلعب بالأزمة كغيره ممن سبقوه ثم في الوقت المناسب يتراجع عن وعده لأسباب يرجعها الى "البردعة" وليس الى "الحمار" لأن الحمار "عضاض وقاتل"... البردعة هنا "الفلسطينيون ونحن معهم" والحمار هنا هو شارون. أما الاحتمال الثاني فإن للرئيس بوش قدراته الخفية وأنه صادق فيما وعد وحينئذ لا بد وأن يجد للخريطة التي قدمها آلية تنفذها لأن خريطة من دون آلية تصبح خريطة مع ايقاف التنفيذ تماماً كقرارات جامعتنا العربية التي اصدرت آلاف القرارات من دون تنفيذها... أتصور أن الآلية هنا ستكون دولية.. وصاية دولية على أرض فلسطين عام 1967 أي التي احتلت سخية للنكسة.. عفواً أقصد الهزيمة ثم قوات دولية تحافظ على الأرض لتسلم جزءاً منها الى "تعيس" الحظ من الفلسطينيين. لا تزال الخريطة تتكلم وأمامها ميكروفون حتى يسمع القاصي والداني ما تقول... المنطقة كلها غير مستقرة.. كانت كذلك وستبقى كذلك لمدة طويلة قادمة... لكي تستقر المنطقة استقراراً حقيقياً لا بد وأن يكون هناك استقرار قطري... يعني هياكل سياسية حقيقية وأدوات اقتصادية ثقافية أمينة قادرة... إذا تحقق ذلك يصبح الاستقرار الاقليمي في متناول اليد وتصبح أداته وهي الجامعة العربية معبرة عن إرادات عاقلة لأن الجامعة هي تعبير أمين عن إرادة وقدرة وأمانة أعضائها.. هذا يحتاج الى وقت وإلى ورش عمل على علم وقادرة... ولكن ما الوقت اللازم لذلك؟ طويل طويل طويل... واذا كان الوقت طويلاً فأمثالنا ممن تجاوزوا الثمانينات لن يحضروا هذه المناسبة السعيدة لأنهم سيغادرون إلى هناك. وسكتت الخريطة عن الكلام لنترك لنا فرصة لنستعيد ما قالت ثم لنقرأها من جديد... فقراءتها شيء مهم وتصحيحها شيء أهم. * كاتب، وزير دفاع مصري سابق.