إنها حقاً مجازفة ان نضع انتفاضة الأقصى في الميزان وهي لا تزال مستمرة، لكننا نرى من الضروري، في الوقت نفسه، أن نقدم على ذلك من دون تردد حتى نحدد بالضبط أين تقف الآن؟ وهل تسير في الطريق الصحيح؟ علينا في البداية أن نحدد ظواهر عدة تساعدنا في تقويم الأمور: فالانتفاضة استخدام للقوة في المستوى الأدنى أمام عدو يستخدم التسليح التقليدي الذي يبدأ بالبندقية والغاز المسيّل للدموع وينتهي بالدبابة والمدفعية والطائرة. والانتفاضة بذلك هي ثورة شعبية لا يجوز تقويمها بمقاييس الحروب التي اعتدنا عليها. والانتفاضة تعمل في مناخ عربي لا يعطي إلا "بالقطَّارة" وفي ظل شرعية دولية انتقائية. وفوق كل ذلك فهي تتحرك تحت حصار لا يرحم براً وبحراً يريد أن يخنق شعباً بأكمله، أو على الأقل يدفعه إلى الموت البطيء جوعاً. ولا أظن أن أحداً يختلف مع هذا التصور. وإذا كان الأمر كذلك فإنه لا معنى لانتقاد البعض القابع على بُعد آلاف الأميال لكل ما يجري في مسارح العمليات من دون أن يقدم البدائل العملية ومن دون أن يعرف حقيقة الأمور على الطبيعة ومن دون أن يجرؤ على زيارة الأهل في الداخل ليرى بنفسه كيف يعيشون ويلمس بنفسه كيف يضحون بكرم وسخاء، ويعاني معهم المعاناة نفسها ويشاركهم دفن موتاهم من الشهداء ويواسي جرحاهم ونساءهم الثكالى. النقد للتصحيح جائز ومطلوب، أما النقد للتجريح والهدم من دون قدرة على إيجاد البديل الأفضل مع مراعاة الظروف الصعبة القائمة، فمرفوض ولا حاجة لنا به. ولكن ما هو المعيار الذي نقدّر به ما يحدث تقديراً أقرب الى الدقة؟ الغرض من استخدام القوة هو صوغ حقائق سياسية على الأرض لأن الصراع لا يستخدم القوة لمجرد القتل والتدمير، أو للقهر - كما تفعل إسرائيل - فهذا استخدام عشوائي للقوة ولكن يبقى الغرض الذي يظل ماثلاً أمامنا هو تغيير الحال إلى واقع أفضل. فحتى الحروب -واستخدام القوة لا يعني الحرب - الغرض منها هو الانتقال الى حالة سلم أفضل، فهذا هو الثمن الذي يضحي الشهداء بأرواحهم من أجله. هذا المعيار نضعه في إحدى كفتي الميزان، وما نجم عن الانتفاضة حتى الآن نضعه في الكفة الأخرى ونقرأ ما أمامنا بالضبط. وحذارِ أن نخطىء في القراءة تماماً كما يحدث في السوق التجارية، حيث توزن الأمور بما في الجيب من عملة نقدية. وحذارِ أن يستلم الشاري بضاعة أقل مما يستحق أو بضاعة فاسدة وتكون مصيبة كبرى لو أخذ الطرف الآخر ما في الجيب من نقود ولم يسلم شيئاً. الانتفاضة غيرت من نوع الأزمة فانتقلت من مجرد نقطة باردة إلى نقطة ساخنة، والنقط الباردة على ساحة الصراع لا تثير اهتمام أحد بصفة جدية. قد يتدخل هذا وقد يشترك ذاك، ولكن أيدي المتدخلين في المياه الباردة، إذ أنهم يعرضون عروضاً مهينة ويلقون بالفتات من دون خجل، ويتجاهلون الحقوق التاريخية. أما النقط الساخنة في ساحة الصراع فإنها تذيب الأمر الواقع، وهذا يلعب دوراً كبيراً في الصراع، إذ أنه يدور بين محاولة فرضه بالقوة ورفضه بالقوة أيضاً. ولعلنا نذكر أن الانتفاضة قامت أساساً رافضة أمراً واقعاً مهيناً وظالماً، عرضه الوكيل الاميركي على لسان العدو الصهيوني في كامب ديفيد، فسارع الوسطاء الى شرم الشيخ يحاولون إطفاءها، إلا أن أبطال الانتفاضة فهموا الرسالة، فرفضوها من دون أن يفضوها، لأن قرارات شرم الشيخ لم تفهم رسالة الانتفاضة بأن نقطة تحول خطيرة حدثت في قواعد اللعبة، ربما لأن درجة حراراتها لم تكن بالقدر الكافي لتؤتي ثمارها، وربما لأنهم ركنوا على عامل الوقت لتفتر درجة حرارة النقطة الساخنة وتعود الأمور كما كانت عليه من قبل. إلا أن ثورة الشارع العربي من المحيط إلى الخليج مع استمرار التضحيات السخية التي أعطتها الانتفاضة، أدخلت نوعاً من التوازن على المستوى العالمي المتخاذل وعلى المستوى العربي الرسمي المتردد. فكانت الاتصالات والتحركات الاميركية لتعديل بعض المواقف، وكانت التصريحات الأوروبية المتخاذلة، ثم كانت اجتماعات مؤتمر القمة ثم المؤتمر الإسلامي والتي صدر عنها بعض القرارات مع وقف التنفيذ فلم تضف شيئاً إلى قدرات الانتفاضة. وكان هذا يعني استمرار الانتفاضة حتى تفهم الأطراف كافة أن قواعد اللعبة التي وضعت في أوسلو ثم في شبردز تاون، ثم في كامب ديفيد تغير، وأن على الانتفاضة أن تعتمد على نفسها في مشوارها الطويل الشاق. تأجج الانتفاضة واستمرارها طوال هذه المدة أثبت فشل استراتيجية الردع الإسرائيلية. والردع هو استخدام وسائل القتال لمنع القتال حتى يتم فرض الأمر الواقع المطلوب باستغلال التفوق في توازن القوى لتنفيذه ومنع الفلسطينيين من رفضه. وللردع معادلته التي نكررها دائماً وهي: توفر إمكانات الردع " تبليغ ذلك إلى الطرف الآخر " إذعان الطرف الآخر وتصديقه = الردع. وكما نرى فإن إمكانات الروادع الإسرائيلية قائمة على المستويات كافة وهذا معروف لدى الفلسطينيين وغيرهم ممن يهمهم الأمر ولكن لم يتم فرض الطرف الثالث من المعادلة، لأن الفلسطينيين لم يصدقوا ولم يذعنوا وبذلك لم يتحقق الردع، لأننا نعتقد أنه يمكن للرادع الأصغر ردع الرادع الأكبر. وكل الثورات الشعبية، وآخرها ما جرى بواسطة قوات حزب الله في جنوبلبنان، تؤكد ذلك وتدعمه. وعلينا أن نلاحظ شيئاً مهماً، وهو أن توقف - ولا نقول إيقاف - القتال لا يعني القضاء عليه، فالتوقف قابل للانفجار مرة أخرى. فقد حدثت الانتفاضة السابقة في أواخر الثمانينات، وهي انتفاضة الحجارة، ثم توقفت لتتفجر مرة أخرى تحت اسم انتفاضة الأقصى، وليس هناك ما يمنع أن تنفجر مرة أخرى في المستقبل إن لم يتغير الوضع. وبين الانتفاضتين حدثت تطورات خطيرة في الموقف الإسرائيلي. فبعد أن كانوا ينادون بعدم وجود دولة ثانية بين البحر المتوسط ونهر الأردن، تراجعوا لينادوا بعدم وجود جيش بين البحر والنهر، ثم عادوا الآن ليعترفوا بإقامة الدولة. وتفاصيل ذلك هي محور الحوار الذي يدور بالكلمة على طاولة المفاوضات في كامب ديفيد وواشنطن وشرم الشيخ، وبالطلقة والحجارة في غزة والخليل والقدس وبيت لحم ورام الله، وسط جنازات الشهداء ودويَّ المدافع وأزيز الطائرات. أصبحت الانتفاضة الآن مأزقاً للجميع بعدما كانت مأزقاً للفلسطينيين شرق الخط الأخضر وحدهم. وأصبح أبو عمار ورقة مؤثرة في المسرح، له جيش بالآلاف من الشرطة وفصائل وجماعات "التنظيم"، وجيش من أولاد الحجارة. فأجبرت الانتفاضة أيهود باراك على الاستقالة وأدخلت إسرائيل في متاهات سياسية تمس نظام الحكم من أساسه وكشفت عن عورات الأحزاب وعن نيات زعماء المافيا الحاكمة وهزّت الكيان الإسرائيلي بعدما دخل الفلسطينيون غرب الخط الأخضر إلى الملعب مع فريقهم الأصلي وأثبتوا بذلك أن الزيت لا يمكن أن يختلط بالماء. والأهم من كل ذلك هو أن الانتفاضة وضعت الإرادة العربية في الميزان وجعلت الشارع العربي يتساءل عن سبب تراجع القدرات العربية الدائم في وقت تتزايد نفقات الدفاع ببلايين الدولارات خصوصاً بعدما اصبح نقل السلاح والتكنولوجيا تجارة أكثر منه سياسة. ثم كشفت الانتفاضة عن دور الوسيط الذي تورط فأصبح شريكاً يريد أن يبيع للفلسطينيين بضاعة فاسدة. وكشفت كذلك دور الاتحاد الأوروبي الذي كلما كثر عدد أعضائه قلّ تأثيره في مسرح السياسة العالمية. تسببت هذه الخطوات الإيجابية في تحرك "عسكري" الانتفاضة على رقعة الشطرنج ليصبح كتحرك "الفيل" و"الطابية"، فبعدما كانت مفعولاً فيها أصبحت فاعلاً فيهم تؤثر في موقفهم وتسبب للجميع أرقاً يحفزهم على الاقتراب رويداً من حل عادل متوازن حتى لا يبقوا طويلاً في المأزق الذي دفعوا إليه! الانتفاضة وعمودها الفقري "التنظيم" بأعماله المكشوفة والسرية يثير قلقهم، فله دوره في "تسخين" الانتفاضة وله دوره الاجتماعي وكذلك دوره في العمليات السرية، ولكن علينا أن ننبه إلى خطر قاتل يهدد دوره الحالي إذ يكرر نفسه، وكذلك فإنه يتحمل خسائر كبيرة، وهذا جائز، ولكن عليه أن يوقع بالعدو الخسائر التي تجعله يعيد حساباته. والوسائل لتحقيق ذلك كثيرة ومتعددة تحتاج إلى الخيال والحنكة. ولا يجوز والحال كذلك تجاهل العامل النفسي الذي يثير رعب الرأي العام وينقل المبادأة إلى أيدينا مثل حرب الاشاعات وطبع منشورات التحذير والتهديد ولصقها في أماكن متفرقة واستخدام الرسائل الشخصية التي ترسل إلى العائلات في المنازل وإطلاق صيحات الذئاب والبوم والكلاب في الأماكن المظلمة ونزع لافتات الشوارع وتغيير اسمائها بلافتات جديدة وتغيير علامات الاتجاه إلى اتجاهات معاكسة مع عدم تجاهل مخاطبة الرأي العام العربي والعالمي. والسؤال الحاسم هو: هل غيّرت الانتفاضة الأمر الواقع إلى الأفضل؟ الإجابة وبدقة في ما وصلت إليه الأمور في قاعدة بولينغ الجوية قرب واشنطن وفي شرم الشيخ، إذ لا يزال أبو عمار ينادي بضرورة تنفيذ قرارات 242 و338 و191 وبأن القدس عاصمة دولة فلسطين، شاء من شاء وأبى من أبى، وما زال بارك يعترف بسيادة فلسطينية على سطح الحرم الشريف فقط، أما ما تحت السطح فالسيادة لهم لعمق سحيق غير محدد. ويعني ذلك أن الأمر الواقع ما زال كما كان وعلى الانتفاضة أن تستمر حتى يتغير مع التوصية باتباع تكتيكات جديدة ينفذها "التنظيم" وباستراتيجية عربية فاعلة لأنه حرام أن يبقى العرب على حالهم التي نراها. وفي أي حال فقد رمى بيل كلينتون بالقضية إلى ملعب جورج بوش الابن سواء وقّع على الورقة أم لا، كما سبق له أن استلمها من جورج بوش الأب. فهل يا ترى ستبقى الكرة في الملعب حتى يستلمها جورج بوش الحفيد؟! لا أعلم ولا أريد أن أعلم لأنني لن أكون موجوداً حينئذ على قيد الحياة. * كاتب، وزير دفاع مصري سابق.