ليس فقط دهن العود والبخور والرز البسمتي هو ما تبعثه الهند للهضبة النجدية، لكن هناك المنخفض الصيفي الحار، المحمل باللواقح والاتربة وأمسيات خانقة تداهم الأمزجة فتعطبها. يغض أهل نجد الطرف عن هذا الهجير الهندي، بل يحاولون ان يبرروه فيقولون ليس هذا سوى وقود النخيل و"طباخ التمر". ويتندرون في ما بينهم بقصة سليمان باشا التركي، الذي غزا الدرعية في القرن الماضي، وعندما لسعت بشرته البيضاء حرارة القيظ في نجد، ثارت أعصابه التركية النارية وسأل أهلها: لماذا الحر لديكم مهلك هكذا؟ فأجابوه ان هذا "طباخ التمر"، يأتي كي ينضج التمر. فما كان من دماغه التركي العسكري الذي كان يغلي آنذاك الا ان قال: "اذاً لماذا لا تقطعون اشجار النخيل جميعها... حتى يتوقف عن الحضور؟ ويزيد البعض بأنه لربما أصدر "فرماناً" بهذا الخصوص. * ولكن هيفاء مبطنة عن كل هذا، كم من بطانة تشرنق هذه الفتاة الشاحبة ذات الحواجب الجميلة المقوسة، والصوت المنسرب بين شفتيها كتنهيدة ما قبل النوم؟ تطوق أسوار منزلهم الخارجية أشجار الكينا التي تنتظم باستبسال وثبات أمام مردة الغبار التي تباغت نجد في الشهر الخامس من العام، وفي الداخل هناك خادمتان تتابعان ذرات الغبار بدأب آسيوي وانتظام لا يكون سوى لآلة، ولربما نستطيع ان نضيف هنا بطانة السلوك الصحيح المهادن لابنة التاسعة عشرة المسترخية داخل لزوجة شرنقتها، والتي لم تداهم يوماً ما بأسئلة ملحة أو مستفسرة من أم أو نظرة مستريبة من أب، هي لم تتعمد ان تكون كذلك، لكن الجميع يعلم بأن هيفاء تخرجت من الثانوي ولم تصدر عنها تلك الفرقعة التي تصدر عن الفتيات عندما يرتطم بهن نيزك الصبا. فكانت تشعر بأنها فوق خشبة مسرح والجمهور يصفق لها بحماسة على دور لم تؤده، بل انزلقت فيه بسهولة ويسر من دون ان تعرقلها كثيراً لواعج الصبا وتوثبات الشباب. لم يكن والداها متيمين ببعضهما بعضاً كثيراً، ولكن علاقتهما كفلت لها بيتاً هادئاً فاتراً، يحتفل بالاعياد بهدوء والمناسبات بخفر، ومن ثم تنغلق نوافذه المسائية على طمأنينة العادة، تلك الطمأنينة التي تطفر من أرجاء البيت والتي من خلالها لم تحتج هيفاء الى ان تبعث برسالة حائرة الى مجلة سيدتي تقول فيها "أنا فتاة في التاسعة عشرة من عمري، أمي وأبي يتشاجران دائماً... لذا أحببت ابن خالتي". أمها وأبوها لم يكونا سوى أحدى البطانات السميكة التي دثرت هيفاء عن أمزجة الأيام وصفاقة تقلباتها، ولأنها لم تكن الأولى في صفها فلم تصب الأم بالقلق خوفاً من العين والحسد، كانت تكتفي باحتلال احد المراكز العشرة الأولى في القسم العلمي، هيفاء متماسكة لامعة كدمية البورسلان بلا ثقوب أو شروخ أو كدمات يتسلل من خلالها حزن أو قلق أو لربما عشق!! ترتكب هيفاء الواجب كل يوم وتنخرط فيه لعله خيارها الوحيد، أو لعلها لم تجرب ان تقرأ الرسالة من الاخير الى الأول، فقط هيفاء وغرفتها وحقيبتها المدرسية مصففة ومتوائمة كما يجب. * وحين تزوجت لم تتح الظروف لأبيها التكنوقراطي المتعب ذي الدخل المبدد بين عائلة كبيرة ومغامرات عقارية فاشلة، ان يقيم لها زفاف "الكما يجب"، فتداركت الموضوع ام العريس المتصابية التي أصرت على ان يكون زفاف ابنها فاقعاً صاخباً كألوان أرديتها في حفلة الزفاف: فحظيت بزفاف نادر! زين في حصان يوني كورن أبيض وبأجنحة فخمة خلفية المقعد الذي جلست عليه، والمغنية عتاب صدحت في القاعة بحبور وبهجة فرقصت الصبايا والمقاعد وسلال الشوكولا الفاخرة. وفي الفجر امتطت هيفاء وعريسها حصان اليوني كورن وحلقا باتجاه جزر الكناري... وفي القصص تدفع السندريلا الثمن مقدماً من ذل وبؤس ومهانة لتصل الى منزل ابن الملك ولكي يتسنى للنهاية ان تغلق على سعادة مبررة للمتلقين ومدفوعة الثمن، وفي أجندة أقدار هيفاء لم يكن هناك من حيز لهذا، فعندما عادت الى الوطن كان في انتظارها منزل أندلسي مقوس في حي الورود شمال الرياض، وعندما كانت تتعثر في ادارته كانت أمها تنجدها بكل الذي يجب. * ولو ان القصة استدارت على نفسها وعضت على ذنبها كثعبان أو كحلقة، وتغلقت نوافذ بيت الورود على هدوء العادة المطمئنة... لما أصبح لهيفاء قصة ولما رويتها لكم!! ولكن في تلك اللحظة التي هم فيها المساء الخريفي ان يهطل على فيلا الورود، أخذ العريس مجدداً يعبئ جيوبه بمحفظته وجواله ومسبحته ويتأهب للخروج، فسألته بترق وهي لا تزال مضمخة بدلال شهر العسل: إلى أين: أجابها وهو يبدو منهمكاً في مهمته: الى الاستراحة أصرت على نبراتها المرتفعة: ولكن ألم نتفق البارحة على الذهاب الى المطعم الايطالي في شارع التحلية؟ وقفزت وطوقت عنقه، ألصقت وجهها بوجهه، كفكف يديها عن عنقه بهدوء ووثبات وقال: سنؤجل هذا الى نهاية الاسبوع، فهل تودين الذهاب الى منزل أهلك الآن؟ أجابت بفتور: لا فقد زرتهم أمس. ماذا أفعل؟؟ لم تكن هيفاء قد تورطت بسيناريوات اللو في السابق، تلك السيناريوات المشتهاة والتي تملأ نهار الفتيات وجزءاً من ليلهن، لو ان جسدي أكثر نحافة، وأكثر طولاً وشعري أكثر سمكاً، ووالدي برازيلي وأمي ايطالية!! ولكن في تلك الليلة وفي قشعريرة فيلا حي الورود أمضت هيفاء ليلتها وهي تنسج عشرات السيناريوات التي تخرجها من خيبتها... لو كنت أشد بياضاً وشفتاي أكثر امتلاء وعنقي أطول لما امتصت الأبواب الخارجية زوجي كل مساء. تريد ان تتكئ ولكن وقتها مقعد برجل منكسرة!! كيف ترممها؟ وما هي الأدوات التي تستعمل في هذه الحال؟؟ لربما أدواتها لا تفعل شيئاً سوى التشذيب والنمنمة، أشد أسلحتها فتكاً هو مبراة تبري الأقلام وتجعلها رقيقة ومنمنمة. وحدست... أو لربما ألقت الأم الكونية في قاع روحها ان اسلحتك الحالية هزيلة ومضحكة، ومواجهتك تحتاج أنياباً من طراز مختلف. لكنها فضلت ان تنتظره لعله يستدير ويعود كما تستدير جميع الأشياء وتعود اليها، وكما كانت ثيابها المتسخة تستدير وتعود إليها نظيفة ومصففة في خزانتها. * تفترش كل صباح كوابيسها فوق صفحات كتاب تفسير الاحلام لابن سيرين، ولكن كل الجسور والأجوبة تذوب مع لون النهار وقعقعة الأحياء. ذات مساء كانت عضلاتها واهنة وقطيع من الخيول يركض بين غرفات قلبها، وابتدأ طقوس الرحيل... المحفظة تتزلق داخل جيوب ثوبه الجوال والسبحة. هتفت به: هل بدأ الرجل الوطواط ارتداء حلته؟ أجابها بابتسامة نشطة وقد أعجبه التشبيه: نعم أنا ذاهب لنشر العدل في المدينة ومتابعة المجرمين - ولكن ماذا عن الظلم القائم في منزلك؟ - ليس في منزلي سوى نعامة "مدلعة". أشاحت وجهها عنه بسخط ونقمة، عندها تنبهت لمقاعد الصالة الصفراء التي تشاركها وجوهها كل ليلة واكتشفت انها تتشهى ولعابها يقطر بانتظار لحمها لتفترسه في مآدب الوحشة، وازداد قرع الخيول في قلبها فقفزت من مكانها وجرت الى الخارج كأنها تفر من قدر محتوم أو رصاصة طائشة وفتحت باب المنزل الخارجي واستلقت امام سيارته وأخذ جسدها ينتفض في بكاء محموم عجيب! أبيض وجهه... وجفت شفتاه وأسرع اليها قبل ان يبدأ الجيران في مد رؤوسهم المتلصصة، لف يديه حول خصرها وقادها الى الداخل وسجاها برفق على احد المقاعد ومن ثم احتضنها برفق وقبّل جبينها وأخذ يغمغم: هل أنت طفلة؟ لماذا كل هذا؟ هل سيأتي الذئب ويلتهمك في غيابي؟ هل تريدين الذهاب عند أمك؟ ماذا يقصد في قوله هل تريدين الذهاب الى أمك؟ هل يشير الى ذهاب دائم؟ هل يلمح الى شيء ما؟ ومن بين حيرتها ودموعها وتنهداتها لمحته يعاود الانسراب الى الخارج! فعلمت بأنها دفعت ثمناً باهظاً لفستان معطوب لن يغطي وحدتها ذاك المساء. هل هو يسن القوانين الأولى لمنزله؟ ولكن أبي كان يلتئم بنا كل مساء يجلب خبز العشاء! ومن ثم يستغرق في ملاحقة نشرات الاخبار بين التلفاز والمذياع. ابنة عمتها لمياء تقترح تغيير لون شعرها، ولكنه لم يعتده بعد حتى يمله، ولكنها العادة النسوية الراسخة التي تقابل نزق الرجال وطيشهم وغرابتهم بتدابير سريعة لتدارك الشكل والهندام والتكفير عن تقصير محتمل! وفي صالون التجميل كانت غالبية العاملات مغربيات مبتهجات ولامعات كعسل "كازابلانكا" وكانت التي تصفف شعرها مبتسمة دافئة كنجمة البحر، فتشجعت وسألتها: هل صحيح بأنكن أنتن المغربيات تسحرن رجالكن؟ اندهشت المصففة للوهلة الأولى ولكن بنبرة تشوبها بعض السخرية" نعم، نسحرهم في الداخل في المغارة، هنالك في المنجم حيث سطوتك وقوتك، سوقيه الى هناك بدهاء ومهارة وسيصبح خاتماً في يديك طوال العمر. ومن ثم أضافت بما يشبه الهمس: المرأة التي لا تكتشف الأرقام السحرية لمنجمها تظل جداراً قصيراً طول العمر. ولأن هذا الموضوع حتماً ستخجل ان تسأل عنه أمها أو لمياء فقد حاولته وحيدة مستعينة بخيالها وببعض من لقطات الافلام. قميص نوم دانتيل عنابي يتخلله بعض الريش، وسائد مضمخة بدهن العود، سلة فواكه وأكواب مذهبة للعصير بجانب السرير، وعندما عادت من الحمام التركي الذي دلكت به جسدها وزعت هذه الترتيبات الكثيرة على ساعات الليل بطوله... الحصة الأولى للموسيقى... الحصة الثانية لتناول العصير... اما الحصة الاخيرة فستكون للبخور الذي سيفقده رشده امام منجمها. امتص المكيف عطور الغرفة، وتكفل الوقت بامتصاص زهورها وحماستها، وفي الثانية فجراً وعشرين دقيقة هدرت سيارته، لم يتبين التدابير بوضوح فقد كان نعساً فاتراً وتم كل شيء بهدوء وصمت، وقبل ان تغمض عينيها تذكرت جملة قالها الممثل هاريسون فورد لإحدى بطلات أفلامه: "لأنني استغرب تلك التدابير التي تشبه السيرك، والتي تصنعها النساء في اجتذاب الرجل، إن اهم شيء تصنعه الانثى هو ان تحضر فقط، وبعدها ستتكفل الطبيعة بالبقية!"، تنهدت وأحست بأنها كانت الليلة دباً في سيرك مجهد ومكلف... عجينة الوقت التي ترتمي بين يديها كل ضحى لزجة ورخوة وصعبة التشكل، ماذا تفعل بها؟ هل هذه روح المشكلة؟ وعندما اخذت تستحث الذاكرة بحثاً عن صديقات قديمات اكتشفت بأنها لا تمتلك اجندة هاتف! ومن طريق استعلامات الهاتف اخذت تعصر الاسماء والوجوه القديمة بحثاً عن النجوى او الشكوى لو لربما فقط عن ايدٍ تشاركها في عجن عجينة الوقت، لهفتها ووحدتها جعلتاها مقتحمة لأجواء صديقاتها القدامى، ومن دون ان تفكر في توظيف الدهاء الاجتماعي او المناورات المطلوبة، زميلات دراسة لم تستطع عبر مكالمات هاتفية متقطعة ان تستحث شجرة الصداقة ان تورق... ولربما هندسن حياتهن بطريقة لا يوجد حيز بها لعروس وحيدة بحاجة الى ترفيه، وبعد دعوات ومآدب متكررة في منزلها، يختفين خلف الاعتذارات المهذبة واختفاء الهم المشترك الذي توفره حصص اليوم المدرسي في السابق. ولأن الناس لا يقولون لبعضهم البعض صراحة اشياء تتعلق بخفة الظل او الحضور الباهت، فلم تعن هيفاء بهذا! فقط كانت سواقي حديثها تجف سريعاً وترتخي اجواؤها وتبهت هالات الحيوية حول جسدها، تلك الهالات التي منعت تكونها بطانتها المنيعة، ومنعت ايضاً تكون تلك الاجساد الاثيرية التي تشع من بعض البشر فتجعلهم يلتهبون فرحاً او حزناً جموحاً او بالتحديد يلتهبون... حياة! عندما يغفو زوجها تتسلل الى هاتفه الجوال وتستعيد الارقام التي صدرت والتي وردت والتي تكررت اكثر من مرة وعلى الغالب كانت تجد رقمها هو الاكثر وجوداً وإصراراً. تتلطف مع سكرتير مكتبه لعله ينقل لها اخباره اولاً بأول، ويسجل المكالمات التي ترد اليه، ولكن السكرتير يبدو خائفاً متحفظاً، ورفض بعض هداياها وقبل الاخرى على مضض، تراجعت عن هذا، تدابير مبكرة لزوجة باغتت زوجها ازمة منتصف العمر بعد عشرين عاماً من الزواج، وهي التي لم تكمل اسبوعها العشرين بعد. ماذا يريدون؟ الناس تصطف معها فوق مقاعد الصالة الصفراء كل ليلة! ماذا يريدون؟ حلبة وأضواء وفلاشات قوية ولكن ماذا عليّ ان افعل؟ هل ابدأ الملاكمة ام ارقص ام اقدم عرضاً للسيرك؟ آرائك فيلا الورود تطالبها بأن تكون زوجة محبوبة مرغوبة، وهي تود ان تستدير وترجع الى غرفتها حيث تستدير الاشياء وتعود لها مصففة مكوية. قالت امها وخالتها: "عيون الناس حارة، وما تخلي احد، كم تنهيدة حسد وحسرة انطلقت ليلة عرسك؟" - "ولكن يايمة كان في شهر العسل متدلهاً هائماً، اسألي شوارع برشلونة... وشواطئها، لم يكن يمشي بجانبي بل كان يمشي امامي ويعطي العالم ظهره، كان يقول لا اريد ان ارى من هذا العالم سوى وجهك". وارتجفت لهذه الذكرى وشمت رائحة البحر ومقاهي برشلونة، وانخرطت في بكاء عميق...