منذ أحداث 11 أيلول سبتمبر عام 2001، عدلّت الولاياتالمتحدة العديد من توجهاتها الجغرا - استراتيجية، خصوصاً في مجالي النفط والغاز. إذ بدأت بالتركيز الواضح على الدول النفطية الافريقية، وبالتالي الاهتمام الملفت بمشاكل هذه القارة من كل نواحيها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والصحية. وباتت واشنطن منذ ذلك التاريخ "محجاً" للرؤساء الأفارقة، تستقبلهم وتفرش لهم البساط الأحمر، كما توفد مسؤوليها، الواحد تلو الآخر، تدفع بالمستثمرين الأميركيين وتشجعهم على الذهاب لافريقيا، تزيد من حجم المبادلات التجارية بشكل منتظم، كذلك، انشاء الهيئات وصناديق الدعم المختلفة. من أبرز مؤشرات هذا التوجه - القرار لدى الإدارة الأميركية، عقد اجتماعات "المجلس حول افريقيا" سي سي آي يومي 19 و20 تشرين الثاني نوفمبر الماضي في هيوستن - تكساس، الذي حضره العديد من المسؤولين الأفارقة إلى جانب رؤساء مجالس إدارة الشركات النفطية الأميركية، كذلك "أسبوع الطاقة" الذي نظمته "الشركة الوطنية الجزائرية" سوناطراك بدءاً من 15 كانون الأول ديسمبر الماضي في فندق "هيلتون" في العامصة الجزائرية، الذي بدا واضحاً من خلال الحضور الأميركي المكثف، وفوق العادة، بأنه يستهدف أولاً وأخيراً، افهام من يهمه الأمر، بأن اهتمام الجزائر وتعديل قوانينها لناحية فتح أبواب الاستثمار في قطاع النفط والغاز خصوصاً، يصب في القناة الأميركية الذاهبة حتى النهاية في تطبيق استراتيجيتها الهادفة لايجاد بدائل لمصادر استيرادها للهيدروكربورات. افريقيا، البديل الرابح في الخطاب الذي ألقاه في السابع من شهر تشرين الثاني الماضي خلال انعقاد الطاولة المستديرة للمستثمرين في مقر وزارة الخارجية الأميركية حول "قانون النمو والإمكانات الاقتصادية في افريقيا"، قال وزير الخزانة المستقيل بول أونيل إن هذه القارة تقدم فرصاً هائلة للاستثمار. ولم يتردد هذا الأخير بتعداد أمثلة حول الاستثمار المنتج الذي لمسه خلال جولته الأخيرة على أربع بلدان افريقية غانا واوغندا واثيوبيا وجزر موريشيوس، قبل أن ينتقل بحديثه للأساس: الاستثمار الأميركي في قطاع الهيدروكربورات، في تطوير الخدمات التي تقدمها الصناعات الالكترونية المتقدمة مثل تصميم وتنفيذ البرامج المتعلقة بهذا الشأن. ضمن التوجه نفسه، وبعيداً عن مجاملة ديبلوماسية، جاءت مداخلة وزير الخارجية كولن باول الذي أشار فيها إلى أن بلاده اختارت طريق الالتزام بافريقيا، وبأنها سترصد ما ستستلزمه حاجات هذه القارة التي "أهملها الأوروبيون طويلاً"، حتى تصبح حليفاً "بكل معنى الكلمة للولايات المتحدة. وفي الوقت نفسه تعمد المسؤول الأميركي التأكيد خلال حديثه في كواليس الندوة مع أحد الخبراء النفطيين بأن "افريقيا هي الرهان والبديل الرابح لأميركا على المديين القصير والمتوسط، لأنها لا تشكل بديلاً لمصادر الطاقة فحسب، بل ستكون الاحتياط الاستراتيجي المضمون في كل شيء" فبغض النظر عن تضاعف عدد الاتفاقات - الإطار، الموقعة في السنتين المنصرمتين في مجالات التجارة والاستثمارات مع الدول الافريقية مثل نيجيريا وجنوب افريقيا وغانا و"الكوميسا" السوق المشتركة في غرب افريقيا، كذلك "الاتحاد الاقتصادي والنقدي الغرب - افريقي"، فإن النفط كالسلاح، يبقيان الهدف الأساسي في الاستراتيجية الأميركية الجديدة، الهادفة للسيطرة على العالم. فالمصلحة الافريقية المتنامية بشكل ملفت، تترافق مع المنطق التقديري لاثنين من صقور الإدارة الأميركية، وزير الدفاع دونالد رامسفيلد والآخر بول وولفوفيتز. ويعتبر هذان الاخيران بأن نفط افريقيا يشكل جزءاً من النظرية القائلة بأن "أميركا يجب أن تتوقع وتحسب حسابات المفاجآت التي يمكن أن تأتي من أي مكان". على أية حال، تجدر الاشارة إلى أن الأهمية الخاصة المعطاة لافريقيا، والتي يدعمها بدون حدود اللوبي النفطي الأميركي، لم تعد تتردد بالظهور للعلن، خصوصاً بعد أن قام عمالقة الصناعة النفطية والغازية مثل "ايكسون - موبيل" و"شيفرون" و"شل" و"بي بي" و"هالليبورن" و"أمارادا هاس" و"أنا نداركو" بالوجود عبر فروعها في خليج غينيا، وفي الغابونوتشادوالجزائر وغيرها. في هذا الإطار، يؤكد الخبير اللبناني الأصل جورج فارس، المستشار الحالي لرئيس دولتين افريقيتين تنتج النفط، بأن "الأميركيين، خلافاً لكل التحليلات والتصريحات الصادرة عن بعض المسؤولين، قد ركزوا على الثروات النفطية والغازية قبل 11 أيلول بسنوات، أي بعد قليل من وصول الرئيس الديموقراطي بيل كلينتون إلى البيت الأبيض". فهدف أميركا، برأي هذا الخبير، يكمن بصورة رئيسية بضرورة تنويع مصادر تموينها، فهي تأمل الوصول من خلال الآبار الافريقية وبمشاركة مباشرة من قبل كبرى شركاتها في الانتاج إلى توفير نحو من 55 في المئة من مجمل استهلاكها المحلي للطاقة، ما سيخفف من ضغط وحجم تبعيتها لمصادر أخرى في طليعتها الشرق الأوسط. من جهة أخرى، فإذا كانت افريقيا تملك حتى الآن حوالى ستة في المئة من الاحتياطات العالمية المؤكدة من النفط، إلا أنه ينبغي التذكير بأن سبعة بلايين من البراميل المكتشفة عام 2001 في جميع أنحاء العالم موجودة في أعالي البحار الافريقية وذلك سبب كافٍ كي تتوجه الولاياتالمتحدة أكثر فأكثر نحو هذه القارة وتراهن عليها. ولهذا السبب أيضاً، استقبل الرئيس الأميركي منذ ثلاثة شهور تقريباً في نيويورك، بعد يومين فقط من زيارة وزير خارجيته كولن باول لكل من أنغولاوالغابون، ثلاثة عشر رئيس دولة افريقية ليثني بشيء من الاطراء بحضورهم على "جهود السلام التي يبذلونها واستثمارهم في رأس المال البشري في بلادهم، وتشجيعهم على السير قدماً على طريق الحرية الاقتصادية". وعلى رغم هذا الاستقبال المميز الذي تم عشية جولة والتر كانستينر، نائب وزير الدولة للشؤون الافريقية، أكد ديبلوماسي أميركي يعمل في باريس أن "حملة دعم افريقيا في الفترة الحالية ليست لها أية علاقة بالنفط ولا بالحرب الممكنة مع العراق". جواب ديبلوماسي يبقى بعيداً عن حقيقة ما تمثله افريقيا اليوم بالنسبة للمصالح الجغرا - استراتيجية للدولة الأعظم في العالم. هذا ما دلّ عليه بوضوح مضمون البيان الصادر عن ندوة هيوستن، الذي ذكر بأن واشنطن تهتم أكثر فأكثر بنفط وغاز منطقة غرب افريقيا التي لا توفر لها مصادر طاقة جديد فحسب، بل ستعمل على خفض تبعيتها حيال المنتجات النفطية الشرق أوسطية. ولم تتوقف الندوة التي نظمها "المجلس حول افريقيا" عند هذا الحد من التصورات، إذ نشرت عبر ملحق لبيانها الختامي الاحصاءات التي تظهر أهمية الثروات الافريقية من الهيدروكربورات على النحو التالي: - تصل احتياطات افريقيا من النفط والغاز إلى نحو من 90 بليون برميل، ما يوازي 1.9 في المئة من الاجمالي العام. - توفر القارة أكثر من 11 في المئة من الانتاج العالمي للنفط، في حين تلحظ الدراسات معدل نمو لهذا الانتاج بحدود 57 في المئة خلال السنوات الخمس المقبلة. إلى ذلك، فإنه منذ 1997 تجاوزت اكتشافات الآبار الجديدة في افريقيا كل ما عداها في العالم. - كما ويقدر الخبراء حجم الاستثمارات الأميركية في قطاع الهيدروكربورات بغرب افريقيا وحدها ب35 بليون دولار من الآن وحتى 2007. فمن أجل تحقيق هدفها بوضع احتياطات النفط والغاز الافريقية المقدرة بنحو ثمانية في المئة عالمياً تحت مراقبتها، أي هيمنتها، انشأت واشنطن بدءاً من عام 1992 "المجلس الاستشاري حول افريقيا. مؤسسة مستقلة انتسبت اليها 160 شركة اميركية مهتمة بتعزيز الروابط بين الولاياتالمتحدة الاميركية وافريقيا. ويدور الحديث اليوم عن ان استثمارات هذا المجلس تمثل 85 في المئة من مجموع استثمارات القطاع الخاص الاميركي في افريقيا. كما واكدت ندوة هيوستن من جانبها تصميم مراكز القرار في اميركا، على كافة اتجهاتها وانتماءاتها السياسية على الاستبدال التدرجي لمصادر الطاقة التي تلبي حالياً الاحتياجات من منطقة الشرق الاوسط بتلك التي ستوفرها افريقيا مستقبلاً بما في ذلك دول المغرب العربي. من هنا، يمكن تفسير الاهتمام والتركيز المتزايد من قبل الادارة الاميركية على بلد كالجزائر والاستثمار المتزايد من قبل عمالقة الطاقة الاميركية لتطوير قدراتها الغازية والنفطية. كذلك دعمها سياسياً ومساعدتها فنياً لتحرير اقتصادها ودفع برامج التخصيص التي وضعتها الحكومة ضمن اهداف اطلاق الاقتصاد الذي اعلن عنه الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة منذ نحو عام والذي يصادف مصاعب ومعارضة من قبل قوى اساسية في البلاد. الى ذلك يضاف الدور الهادئ والضاغط في آن معاً، الذي تلعبه واشنطن لاحداث تقارب مع المغرب وتأمين لقاء قمة بين الملك محمد السادس وجاره رئيس الجزائر قريباً. ما سيزيل العوائق امام تنشيط اتحاد دول المغرب العربي الذي يضم في عداده نحو 70 مليون مستهلك. فزيادة الاستثمار الملحوظ في عام 2002 من قبل الشركات الاميركية في الجزائر في طليعتها "بي بي" التي ضخت 1.5بليون دولار خلال الشهور الستة الاخيرة في قطاع الغاز الجزائري والتي ستزيدها الى اربعة بلايين دولار في السنوات الاربع المقبلة كذلك رفع انتاج النفط الى مليوني برميل يومياً وتصدير 65 بليون متر مكعب من الغاز الطبيعي سنة 2005 و85 بليون في 2010، كل هذه التحولات ستضع البلد في رأس الاهتمامات الاميركية وتجعل منه رهاناً مستقبلياً ضمن اطار الاستراتيجية الداعية للاستبدال التدريجي لمصادر الطاقة في منطقة الشرق الاوسط. ولم يتردد مدير عام شركة "بي بي" في الجزائر، كذلك سفيرة اميركا هناك، جانيت ساندرسون، التأكيد بأن الفرص المتاحة ستؤدي من دون ادنى شك الى احداث قفزة نوعية على صعيد جذب الاستثمارات الاميركية لقطاع الطاقة بدءاً من سنة 2003، واذا كان الحديث يتركز على الجزائر فان ذلك لم يمنع بعض المسؤولين الاميركيين المشاركين في "اسبوع الطاقة الجزائري"، التذكير بأن ليبيا هي الاخرى تشكل جزءاً لا يتجزأ من القارة الافريقية. الا انهم استدركوا بالقول ان المسألة تعود في النهاية الى القرار السياسي المتخذ بهذا الشأن. عندها نحن على استعداد للتحرك، وبسرعة". وكان قد سبق لجين فان ديك رئيس شركة "فانكو اينرجي" المختصة بالتنقيب عن النفط في البحر، والاولى بالوجود في غرب افريقيا ان كشف بأنهم قد بدأوا بالعمل في ثماني دول: المغرب، السنغال، ساحل العاج، غانا، غينيا الاستوائية، الغابون، ناميبيا ومدغشقر، وبأنهم يعدون الدراسات اللازمة للدخول الى ليبيا في الوقت المناسب. الاختراقات في جميع الاتجاهات في الثالث من كانون الاول الماضي توجه الوزير المساعد للشؤون التجارية المكلف بالطاقة والبيئة كيفن مورفي للصحافيين المشاركين في ندوة لاوندا حول "البترول والغاز في انغولا" بالاشارة الى الاهمية التي يتمتع بها هذا البلد على صعيد الطاقة، كونه شريكاً استراتيجياً للولايات المتحدة، فمنذ ان وضعت انغولا حداً لعشرات السنين من الحرب الاهلية، واهتمت حكومتها بتطوير قطاع الهيدروكربورات فيها، بحيث شكل 80 في المئة من عائدات الدولة، وصلت احتياطاتها من النفط الى سبعة بلايين برميل. فالانتاج الحالي بدوره مقدّر ب900 الف برميل يومياً، من بينها 325 الفاً تشتريها الولاياتالمتحدة كما من المنتظر ان تزيد هذه الكمية لتصل الى 1.5 بليون برميل يومياً من هنا وحتى سنة 2005 ما سيضاعف حكماً استيراد اميركا. وتفيد المعلومات بأن هذه الاخيرة تشتري حالياً 10 في المئة من حاجاتها النفطية من نيجيريا و3.5 في المئة من انغولا. ومن المتوقع ان يصل حجم الاستيراد النفطي من القارة الافريقية الى 25 في المئة في 2015 مقابل 15 في المئة حالياً فالاستراتيجية الوطنية الاميركية التي اعلنتها ادارة بوش في ايلول عام 2002، اشارت الى ان واشنطن بحاجة لتعزيز امنها في مجال الطاقة، بالتعاون مع حلفائها الشركاء التجاريين والمنتجين بهدف مضاعفة المصادر العالمية خصوصاً في القارتين الاميركية والافريقية. من جهة اخرى، وفي سياق الاختراقات القائمة تلعب الولاياتالمتحدة دور الوسيط في نزاعات بعض الدول الافريقية، فواشنطن هي التي ساعدت نيجيريا المصدّر الاول لها من النفط وسابع منتج عالمي على حل مشاكله الحدودية مع كل من ساوتومي في سنة 2000 وغينيا الاستوائية في 2002، خصوصاً اذا ما علمنا بأن هذا البلد الاخير الذي تتواجد فيه بكثافة شركات اميركية تسيطر على غالبية قطاعه النفطي يمكن ان تنتج 600 ألف برميل يومياً سنة 2007. ما يمثل اكثر من ثلث ما تنتجه نيجيريا. وبشكل مواز يتابع المراقبون باهتمام بالغ التقارب التدرجي بين اميركا والنظام الاسلامي في السودان، ذلك على رغم العقوبات التي تفرضها اميركا على هذا البلد العربي، المتهم بدعم الارهاب على غرار ليبيا. مع ذلك، تضع واشنطن ثقلها في المفاوضات الجارية بين حكومة الخرطوم والمتمردين في الجنوب، لأنها تأمل في حال التوصل إلى السلام بأن تتضاعف الاحتياطات النفطية للسودان والمقدرة حالياً ب25.1 بليون برميل بسرعة كبيرة. إلى جانب ذلك، تنفذ الولاياتالمتحدة مشروعاً نفطياً بقيمة 7.3 بليون دولار في تشاد والكاميرون، الاستثمار الأهم من نوعه في افريقيا. إضافة لذلك، خصصت واشنطن 72 في المئة من عائدات هذا المشروع لتحسين قطاعات التعليم والصحة والبنيات التحتية التي ستتولاها من دون شك شركاتها المختصة. لكن هذا الاستثمار الموازي يشكل اليوم جزءاً أساسياً من التوجهات الجديدة المعتمدة حيال القارة الافريقية والمختلفة عن تلك التي استحدثتها أوروبا وفرنسا بالتحديد طوال عقود طويلة ولم تأت بنتائج ايجابية، بل جلبت "الويلات" على القارة السوداء، حسب تعبير المسؤولين الأميركيين. * اقتصادي لبناني.