يأتي مهرجان "الجنادرية الثامن عشر" هذا العام من دون أن يستطيع إخراج الشعر من مشكلته، مبقياً الحال الهامشية التي سادت الفاعليات الشعرية في المهرجانات السابقة على حالها. فالشعر الذي هو أو كان "ديوان العرب"، بات جزءاً من الهامش، بل نوعاً من التزويق الجمالي في المهرجان، وحضوره يأتي كحاجة كمالية لا تصل الى مستوى الحاجة المعرفية. والشعر هنا، أريد به الشعر العربي "الفصيح"، لا الشعر "الشعبي"، أو "النبطي"، الذي هو على خلاف الأول يمثل جزءاً مهماً من ثقافة المهرجان وبنيته، ومن خلالها يستقطب أعداداً كبيرة من الجمهور تكتظ به قاعة الأمسية الشعبية. هذا الحضور للشعر "الشعبي" والانحسار ل"الفصيح"، يشكلان ثنائية جدلية تتعدى حدود المهرجان لتشمل عمق الثقافة الشعرية للجمهور الشعري في المملكة، ونظرة المثقفين وتحديداً الشعراء والقائمين على الشأن الثقافي أو المسألة "الشعرية". الشعر هنا يحضر بصفته "أيقونة" من أيقونات الذات العربية وتحديداً المتشربة بالثقافة "الشفهية". والثقافة الشفهية هنا تُحيلنا الى المسموع والتطريب والأنا المتضخمة ومفردات تتصل بثقافة الفروسية والقبيلة والصحراء والصيد والنخوة وسواها من ثقافات شفهية تشكل عقلية المتلقي والشاعر الشعبي، وهي بذلك تتقاطع مع ذائقته الطبيعية التي نشأت على ثقافة كهذه. المهرجان في هذا الحقل يعزز الثقافة الشفهية شعرياً، من دون أن يعمل على الارتقاء بها، أي انه يحولها من عقلية التلقي الجمعي الأحادي، الى تلقٍ شعري جمالي. ويمكن المتلقي من خلاله أن يستشعر جماليات النص حتى وإن لم يتوافق النص مع ثقافته، لأن المهم شعرياً جمالية النص لا موضعته. الخلل لا يكمن في شكل الشعر، فالوقوف على شكلانية النص لا تعدو كونها مسألة سطحية، ولا يمكنها أن تتعدى ما تقف عليه. لذا فالإشكال ليس في كون النص "نبطياً/ شعبياً"، بل في الثقافة المنتجة، والثقافة المسوقة، والثقافة المؤسسة من خلال نصوص كهذه. أما الشعر الفصيح، فالملاحظ أن أمسياته لا يعتنى بها كثيراً، ولا يحضرها الجمهور الكبير. وربما يعود ذلك الى حال قطيعة بين القصيدة العربية الحديثة في بعض تمظهراتها وذائقة المتلقي العادي، أو الى المسافة الفاصلة بين ثقافة النص وثقافة المستمع العادي، وربما الى أسباب أخرى. لكن المؤكد أيضاً أن ثمة خللاً يطاول طريقة تعاطي المهرجان مع الشعر "الفصيح". ولو أخذنا مهرجان هذه السنة مثالاً على ذلك، سنجد أن محور المهرجان هو "الإسلام وحقيقته ومشكلاته"، أي أن الموضوع سيكون في منأى عن الشعر، مما يؤكد ان محور المهرجان "متن"، والشعر "هامش". وضمن هذا "الهامش" خصصت أمسيتان للشعر الفصيح، الأولى للشاعر غازي القصيبي، يحييها بمفرده، ولعل هذا الاختيار مصيب لهدفين، الأول في شعبية الشاعر وحضوره الجدلي في الساحة الثقافية، والثاني غيابه الطويل في لندن عن الفاعليات الثقافية. ويمكن القول أن الأمسية ستكون ناجحة جماهرياً، وتعتمد في تعزيز نجاحها شعرياً على القصائد التي سيختارها القصيبي. في مقابل هذه الأمسية، تكتظ الأمسية الثانية بالشعراء، فيجتمع فيها 4 شعراء ضمن توليفة غير متجانسة: قاسم حداد، عبدالرحمن العشماوي، أحمد سويلم، علي الصقلي. والغريب أن ينفرد شاعر بأمسية - وهو يستحق - وأن يُحشر أربعة آخرون في أمسية! والأغرب أن يكون هؤلاء الأربعة ضمن توليفة غير متجانسة. فالشاعر البحريني قاسم حداد ينتمي الى المدرسة الحداثية ويكتب النص النثري، فيما العشماوي ينتمي الى مدرسة الأدب الإسلامي الكلاسيكية، وهي على تضاد بل وتنافر مع المدرسة الحداثية، فيما الشاعران الآخران لا ترقى تجربتهما الى تجربة قاسم حداد. كان في الإمكان أن يضاف الى قاسم حداد، شاعر أو اثنان من شعراء المملكة المتجانسين مع تجربته، ومن الأسماء التي لها حضورها من أمثال: علي الدميني، محمد العلي، سعد الحميدين، محمد جبر الحربي، إبراهيم الحسين، أحمد الملا، محمد الماجد... ممن يمارسون كتابة النص الحديث، من دون الحاجة الى اكتظاظ مماثل. يبقى سؤال الشعر في الجنادرية مفتوحاً، من دون أن يغلق. ولماذا لا تتكرر أمسية مثل الأمسية التي أحياها الجواهري قبل رحيله وكانت غاية في النجاح؟