الاشارة التي اوردها جورج بوش غير مرة عن تطلعه الى سلام مع العرب يشبه السلام الذي حققته الولاياتالمتحدة مع اليابانوألمانياوروسيا، كانت كاشفة عن المشروع الاميركي لمستقبل المنطقة العربية. توالت الاطروحات الاميركية في اعقاب خطاب بوش في 5 نيسان ابريل الماضي لكي تفصل ما اجمله الرئىس الاميركي، فقد صرحت كوندوليزا رايس، مستشارة الرئيس الاميركي لشؤون الامن القومي في 23 ايلول سبتمبر الماضي بأن الولاياتالمتحدة بعد تحرير العراق ستقوم بتحرير الدول الاسلامية من اجل احلال الديموقراطية، ونشر الحرية في المنطقة. وأضافت ان الادارة الاميركية تملك من التفوق ما يمكن استثماره لتوفير محيط تزدهر فيه القيم الاميركية. وفي 13 تشرين الاول اكتوبر الماضي، صرح كولن باول، وزير الخارجية الاميركي، بأن واشنطن تدرس عدداً من النماذج لإدارة العراق بعد إطاحة صدام حسين، منها اقامة سلطة انتقالية في سياق تدخل عسكري يمكن ان يستوحي تجربتي اليابانوألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. وفي 20 تشرين الاول اشار آري فليشر الناطق الصحافي باسم البيت الابيض الى ان القوات الاميركية بقيادة الجنرال فرانكس قد تبقى في العراق لكي تتأكد من أنه سيبقى موحداً ومستقراً، وهذا يتطلب دراسة النموذجين الالماني والياباني. وكانت جريدة "نيويورك تايمز" نشرت تقريراً في اليوم نفسه جاء فيه أن الولاياتالمتحدة تدرس اقامة حكومة عسكرية في العراق يقودها فرانكس، قائد قوات المنطقة المركزية الاميركية، كما اعلن احمد الجلبي احد قادة المعارضة العراقية، أنه قد يقبل ادارة اجنبية موقتة للعراق. وفي 25 تشرين الثاني نوفمبر الماضي، نشرت مجلة "يو إس نيوز اند وورلد ريبورت" الاميركية عن خطة بحثها المسؤولون الاميركيون لحكم العراق بعد انتهاء الحرب تتكون من ثلاث مراحل، في المرحلة الاولى ان يتولى جنرال اميركي حكم العراق لمدة تتراوح من ستة شهور الى عام، بينما يتم تشكيل ادارة مدنية دولية في المرحلة الثانية، تقود الى قيام حكومة نيابية عراقية في المرحلة الثالثة. الاستراتيجية الاميركية إذاً تتبلور تدريجاً، ولكن في شكل مؤكد، وهي باختصار، ان الولاياتالمتحدة تريد أن تحكم العراق بعد هزيمته على غرار حكمها اليابانوألمانيا بعد هزيمتهما في الحرب العالمية الثانية. والمبرر الاميركي لذلك هو أنه بما ان الاحتلال الاخير ادى الى بناء الديموقراطية والازدهار الاقتصادي في الدولتين، فإنه لا بد أن ينتهي الى النتيجة ذاتها مع العراق، وبالتالي مع بقية الدول العربية التي قد تتعرض للمصير ذاته. من الواضح ان الاستراتيجية الاميركية تنهض على فرضية جوهرية وهي امكان حدوث تحول ديموقراطي وتنموي عربي في ظل الاحتلال، فكما أن ذلك حدث مع اليابانوألمانيا، فلماذا لا يحدث ايضاً مع الدول العربية؟ ولعل هذه الفرضية هي التي تفسر تركيز الولاياتالمتحدة على اصلاح السلطة الفلسطينية في ظل الاحتلال الاسرائيلي، وتجاهلها الكامل للاحتلال، فالمشكلة عند المجموعة الحاكمة في واشنطن تكمن في عقليات الفلسطينيين ونظمهم، وليس في احتلال اسرائيل لأراضيهم، فإذا تغيرت العقليات والنظم اصبح التعامل مع الاحتلال يسيراً، لأنه في تلك الحال يمكن للعرب ان يقبلوا الاحتلال باعتباره نعمة، كما قبل به اليابانيون والألمان. من المهم لفهم الاستراتيجية الاميركية المقترحة أن نعرف بالتفصيل ماذا حدث لليابانيين والالمان بعد الحرب العالمية الثانية، ماذا فعل الجنرال ماك آرثر في اليابان، ماذا فعل الجنرال لوسيوس كلاي في منطقة الاحتلال الاميركي في ألمانيا بالضبط. ما فعله قادة الاحتلال في اليابانوألمانيا من ابشع قصص القهر والاذلال الاجتماعي ضد الشعوب طوال القرن العشرين. لقد حكم قادة الاحتلال مباشرة. فهم الذين اصدروا الدستورين الياباني والالماني، وهم الذين حددوا مناهج التعليم، بل مارسوا السخرة البشرية في ألمانيا حيث جلبت فرنسا الى اراضيها 470 ألف عامل الماني للعمل بالسخرة في مختلف نواحي الاقتصاد الفرنسي، وهم الذين حددوا الاحزاب التي يمكن ان تنشأ. باختصار، اتبع الاميركيون السياسات التي تكفل سحق اليابانوألمانيا ومنع صعودهما مرة اخرى لكي لا تتحديا الولاياتالمتحدة في المستقبل. بيد أن هناك جانباً آخر للاستراتيجية الاميركية، وهو انها افضت الى التحول الديموقراطي في اليابانوألمانيا والى تحول الدولتين لكي تكونا ثاني وثالث اكبر اقتصادين في العالم على التوالي. فكيف حدث الصعودان الياباني والالماني على رغم الاستراتيجية الاميركية السالفة؟ وإذا فهمنا سر الصعود في ظل الاحتلال ألا يمكن التجاوز عن مساوئ الاحتلال موقتاً إذا كان ذلك مقدمة للتحول الديموقراطي والتنموي العربي؟ هل يعارض عربي في ان تكون بلاده مثل اليابان أو ألمانيا نتيجة الاستراتيجية الاميركية؟ الاجابة تكون في معرفة لماذا غيرت الولاياتالمتحدة استراتيجيتها ازاء اليابانوألمانيا وسمحت لهما بالصعود الاقتصادي، بل دعمته من خلال برامج المعونة الاميركية مثل مشروع "مارشال" في ألمانيا. السبب الجوهري هو نشوب الحرب الباردة بدءاً من آذار مارس 1947، فقد بدا منذ آخر اجتماع لوزراء خارجية الدول المتحالفة في هذا التاريخ ان التحالف الرباعي في الحرب العالمية الثانية انتهى، وان هناك صراعاً دولياً ينشأ بين الاتحاد السوفياتي من جانب والدول المتحالفة الاخرى من جانب آخر، ومن ثم، رأت الولاياتالمتحدة تخفيف القبضة الحديد على اليابانوألمانيا والسماح لهما بالصعود الاقتصادي والسياسي ليكونا بمثابة حليفين ضد الاتحاد السوفياتي في الحرب الباردة، ونقطتي ارتكاز في استراتيجية الاحتواء، ولم يكن اليابانيون او الالمان في مركز يسمح لهم بمجرد التعقيب على هذا التحول، ومن ثم، فإن وجود منافس استراتيجي للولايات المتحدة هو الذي ادى الى تسهيل الولاياتالمتحدة صعود الدولتين المحتلتين. أما وان النظام العالمي الراهن يتسم بالقطبية الاحادية، ولا وجود لمنافس استراتيجي للولايات المتحدة، فما الذي سيدفعها الى السماح بالصعود الاقتصادي والسياسي العربي الذي يمكن ان يشكل قوة منافسة للولايات المتحدة ذاتها، خصوصاً انها تسعى، كما اعلن جورج بوش في ايلول، لعدم صعود اي قوة اخرى تنافسها في المستقبل. ويتأكد صحة ما نقول بالنظر الى روسيا. لقد سقط الاتحاد السوفياتي سنة 1991، وتحولت روسيا الى التبعية للولايات المتحدة، وحدث ما يمكن ان يشبه الاحتلال المعنوي الاميركي. فما الذي حدث لروسيا طوال السنوات العشر الماضية في ظل نظام القطبية الاحادية؟ عدد سكان روسيا يتناقص نتيجة لتدهور الخدمات الاجتماعية، وتم تهريب 350 بليون دولار من روسيا الى الخارج في اكبر عملية نهب لثرواتها، ويزحف حلف الأطلسي تدريجاً على حدودها لإحاطتها بسياج استراتيجي على رغم انها لم تعد تشكل تهديداً للأطلسي. لقد اشار جورج بوش في خطابه في 5 نيسان الماضي الى حالات اليابانوألمانياوروسيا، لكنه لم يقل لنا لماذا صعدت اليابانوألمانيا، بينما تراجعت روسيا، وما هي دلالات ذلك بالنسبة للمشروع الاميركي للمنطقة العربية. هناك سبب آخر يدفعنا الى القول بأن الحالين اليابانية والالمانية غير قابلتين للتطبيق في المنطقة العربية. يتحصل هذا السبب في ان العداء الغربي مع اليابانوألمانيا ظل دائماً عداءً سياسياً - اقتصادياً، ولم تكن لهذا العداء جذور ثقافية. فالقيم الثقافية الألمانية هي جزء من القيم الغربية، والقيم الثقافية اليابانية لم تشكل ابداً تحدياً للقيم الغربية. أما في العالم العربي، فإن القيم الثقافية الاسلامية مثلت تاريخياً تحدياً للغرب، كما مثلت القيم الغربية تحدياً للعالم الاسلامي لأن كلاً منهما ينطلق من أسس مختلفة، ولهذا يصعب على المسلمين قبول الانضواء تحت لواء دولة غربية سياسياً وثقافياً كما فعلت اليابان حين قبلت ان يصوغ ماك ارثر دستورها، او فعلت ألمانيا حين حدد قادة الاحتلال لإديناور اسس الدستور الذي ينبغي ان تضعه الجمعية التأسيسية الالمانية. وأمامنا التجربة الفرنسية في الجزائر حيث حاولت فرنسا ان تقوم بعملية "فرنسة" للجزائريين اسفرت عن ثورة المليون شهيد. من ناحية اخرى، فإن العلاقات التاريخية العربية - الغربية لم تكن بصفة اجمالية علاقات ايجابية، وإنما يتحصل جوهرياً في سجل الموجات البشرية الفكرية المتتالية من طرف ضد الآخر الفتح العربي لأسبانيا، والتوسع العثماني، والحروب الصليبية، والتكالب الاستعماري. وقد انتج هذا كله ادراكات ثقافية سلبية لا بد أن تطرح اثارها في شكل محاولة غربية لتحقيق الانتصار النهائي في ذلك التناقض الثقافي في شكل السعي لفرض القيم الغربية، وهو ما جاء صراحة في وثيقة "الاستراتيجية المتوسطية للاتحاد الاوروبي" التي وافقت عليها سراً قمة الاتحاد الاوروبي المنعقدة في البرتغال سنة 2000. الصيغة التي تطرحها حكومة واشنطن هي صيغة لصراع حضارات كما توقع هنتنغتون وليست صيغة لنشر الديموقراطية، ولكن، يستطيع صانعو القرار في واشنطن ان يسهموا في تفرغ الشعوب الاسلامية لدعم التحول الديموقراطي اذا قاموا برفع ايديهم عن دعمهم الاستراتيجي الشامل للاحتلال الاسرائيلي للاراضي العربية. كذلك يستطيع صانعو القرار في واشنطن ان يسهموا في تحقيق هدفهم النبيل المعلن إذا توقفوا عن الترويج لشعار تحرير التجارة، وهو الشعار الذي يهدف في النهاية الى الهيمنة على اسواق الدول النامية وتدمير صناعاتها، وان يرفعوا شعار "التنمية التكنولوجية" في الدول النامية ومنها الدول الاسلامية، عندئذ فقط ستشهد المنطقة تحولات جذرية نابعة من ذاتها، فالغرب بدعمه النظام العنصري الاسرائيلي على حساب الشعب الفلسطيني، وسعيه الدائب للهيمنة على اسواق الدول النامية انما يعطل عملية التطور الديموقراطي، لانه يجعل من قضية مواجهة الاحتلال وقضية الحفاظ على لقمة العيش محور الاهتمام. ولا يعني ذلك أن عبء غياب الديموقراطية يقع بالكامل على عاتق الولاياتالمتحدة او اسرائيل. فمن المؤكد ان ممارسات الانظمة العربية خلال نصف القرن الاخير مسؤولة عن التردي السياسي والاقتصادي في الوطن العربي، ولكن المؤكد ايضاً ان المعارك الجانبية التي شغلت بها الدولتان العرب طوال نصف القرن الماضي كانت من العوامل الاساسية لفشل جهود التنمية وانشغال الشعوب العربية عن قضية الديموقراطية. من ناحية اخرى، لا بد من ان نسلم ان قضية التحول الديموقراطي وقضية التنمية التكنولوجية اصبحتا من القضايا العاجلة التي ينبغي ان تهتم بها الانظمة العربية اهتماماً جدياً، فأولى بنا ان نبادر. كاتب مصري. مدير مركز الدراسات الآسيوية في جامعة القاهرة.