في رائعته الخالدة "الرجل الذي فقد ظله" يقول الروائي الراحل فتحي غانم على لسان محمد ناجي بطل الرواية ورئيس تحرير الصحيفة التي تجري فيها الاحداث، صحيفة "الايام": "أحياناً ينتابني احساس مرير بأني فقدت كل شيء، فقدت نفسي، اضعتها. ذلك عندما تخرج اسئلة الشك من قلبي، تتهمني في كل ما افعل، عندئذ تدهمني وحدة قاسية، ولا يدهشني اذا تلفتّ ورائي فلم اجد ظلي. وانا صغير كنت اخرج الى الشارع والهو مع ظلي، اراقبه وهو يتمدد ويطول ساعات الغروب، عملاقاً على الارض، فيملأني الزهو، واحلم بالسنوات القادمة، عندما اكبر واصبح في طول ظلي، في ساعات الظهيرة، كنت اقف في فناء المدرسة فوق ظلي اراه قزماً صغيراً، واسخر منه، واشعر اني اكبر منه، الآن لا اظن اني سأجد ظلي لا طويلاً، ولا قصيراً، لا يملأني بالزهو او السخرية، ما الذي يبقيه معي، وقد هجرتني نفسي.. نعم انا الرجل الذي فقد ظله". اتأمل المشهد الثقافي العربي الآن، سواء على مستوى علاقة المثقف بالسلطة او المثقف بالمثقف او علاقته بقضايا امته، فأجده في اغلبه قد انسحبت عليه توصيفات فتحي غانم. اجده، محمد ناجي، وقد فقد ظله، ويحاول كي لا نراه عارياً ان يفقدنا ظلنا نحن ايضاً! ولنتأمل، وعلى سبيل المثال، ذلك النفر ممن نحسبهم من المثقفين الذي يدّعون وصلاً بالأمة، وهمومها، لنتأمل موقفهم من "الحالة العراقية" الراهنة، ولنتابع ديماغوجيتهم فيما يكتبون او يتخذون من مواقف، لنرى حجم المرض الذي لا شفاء منه الذي يجعلهم ينحازون وبلا تفكير الى خيار الدفاع عن المستبد الحاكم في بغداد، او المستبد القادم من واشنطن، وكأن لا خيار امامهم سوى ذلك، كأن الامة ستنقرض ان لم يدافع عنها المهيب الركن القاتل لعشرات الألوف من شعبه ومن المسلمين والعرب، او كأن الديموقراطية الاميركية وقيمها لن تسري في هذه الامة الا على اجساد الابرياء في بغداد. أي نفاق هذا يحمله هؤلاء المثقفون، ويبشرون به، وأي قدرة لديهم على قلب الحقائق والتعامل مع الباطل دون ان تبان لهم سوءاتهم. واذا ما قدر لك ان تقف ناقداً هذا المشهد العجيب الملئ بالعشرات من امثال محمد ناجي، فإن قتلك معنوياً، امر مُعدّ وجاهز، فإنت اما ان تُحسب على "المخابرات العراقية" او "المخابرات الاميركية"، وفي الحالتين انت مدان. والطريف في كل هذا المناخ الفاسد الذي فقد فيه المثقف والسياسي ظلهما، ان تجد مشاهد عبثية. فهذا هو "الاسلامي" وقد اصطف الى جوار اليساري الاممي، ليدافعا عن المستبد الذي تفنن في ذبح الاسلاميين وخصاء اليساريين. فإذا كان من المفهوم ان بعض القوميين يؤيدون هذا المستبد لمواقف تبدو قومية او لخطاب بعثي يتبناه باسم القومية، فإن من غير المفهوم ان يقف هؤلاء الاسلاميون واليساريون نفس الموقف تحت دعوى مواجهة الهيمنة الاميركية القادمة وكأن مواجهة الهيمنة الاميركية تحتاج منهما الى ان يقفا حين يتحدثا او يتظاهرا على ارض الاستبداد، وإن التحفت عباءات فارغة لا معنى لها. الا يمكن لمحمد ناجي الاسلامي، او اليساري، ان ينطق ضد الاثنين معاً: الاستبداد، والهيمنة، ام ان في الفم ماء كثيراً، وربما ما هو أكثر! ويبقى سؤال: هل يجوز، بعد كل هذا النفاق، السياسي الثقافي، الذي نعيشه، ان نلوم الحاكم، أي حاكم، في اوطاننا، إن هو خرج عارياً، ممسكاً بسيف المعز، دون ذهبه، داهساً هذا "الشارع العربي" بقدميه، دون ان يستوقفه احد من المثقفين الذين هم المعادل الموضوعي لكلمة "الضمير" ليقول له: اني أرى الملك عارياً؟!