تخيلوا في هذه الأيام، مثلاً، ان يصبح جان - ماري لوبان، زعيم اليمين المتطرف الفرنسي ورئيس "الجبهة الوطنية"، رئيساً للحكومة الفرنسية، ومن دون ان يستتبع ذلك أية ردود فعل غاضبة في طول فرنسا وعرضها، اذا استثنينا اعلان حفنة من المثقفين غضبهم، وانتفاضة الشيوعيين الذين باتوا بلا قوة فعلية. مثل هذا الأمر قد يكون من شأنه، لو حدث، ان يثير زوبعة من الخوف والسخرية من فرنسا، خصوصاً وانه بالنسبة الى العالم أمر لا يصدق: لا يصدق العالم ان فرنسا الثورة وحقوق الانسان والتنوير وديغول يمكنها ان تهبط الى الجحيم على تلك الشاكلة. كذلك، في تلك الازمان، لم يصدق العالم ان المانيا العقل المطلق، المانيا غوته وكانت وهيغل وبيتهوفن وبريخت، كان يمكنها ان تهبط ذلك الهبوط. لكنها فعلت. وتحديداً في اليوم الرابع عشر من تموز يوليو 1933، حين انتهت فترة الشهور الخمسة التي استغرقها وصول هتلر الى السلطة وانفراده بها. ففي ذلك اليوم أفاقت أوروبا - والعالم كله - مصدومة، وقد اضحى الزعيم النازي، الذي كان يثير رعب البعض وسخرية الكثيرين قبل ذلك زعيماً وحيداً، لدولة لم يعد فيها سوى حزب واحد هو الحزب النازي. والأدهى ان هتلر لم يصل الى السلطة، كما قد يخيل اليوم الى الكثيرين، عن طريق انقلاب عسكري، او ثورة عنيفة، بل عن طريق الديموقراطية، والديموقراطية الانتخابية تحديداً. ولعل هذا الامر هو الذي ارعب الأوروبيين في ذلك الحين اكثر من أي امر آخر. لقد وصل هتلر وانفرد، وحزبه، بالسلطة عن طريق اصوات اكثرية الشعب الألماني التي منحته ثقتها ومكنته من ان يقضي على خصومه بالتدريج. والشهور السبعة بدأت بعد عام من حصول ادولف هتلر على الجنسية الألمانية فهو، كما نعرف، نمسوي الأصل. كان حصوله عليها اوائل العام 1932، وهو العام الذي سيشهد سلسلة احداث وتطورات كانت مذهلة في سرعتها، لكنها - والحق يقال - لم تدهش اولئك الذين كانوا يحذّرون من مغبة الامعان في اذلال الشعب الألماني من قبل الحلفاء. وفي تموز يوليو 1932، فاز النازيون في الانتخابات ليصبح حزبهم اقوى حزب في المانيا. ومع نهاية الشهر الأول من العام التالي 1933، اعلن النازيون الألمان بدء تحركهم الكبير عبر تظاهرات هائلة في برلين، ولم يلبث هتلر ان وجه ضربته الأولى الى الشيوعيين حين اتهمهم باحراق الريخشتاغ البرلمان الألماني، وكان الرئيس فون هندنبرغ، عين الزعيم النازي مستشاراً رئيساً للحكومة يوم التظاهرات البرلينية، غير ان الحكومة التي شكلها هتلر يومذاك كانت ائتلافية ولم تضم سوى نازيين: شرطي سابق اصبح وزيراً للداخلية فلهلم فرايك وغورنغ الذي عين وزيراً بلا وزارة. ولم يخدع ذلك "التواضع" احداً. في المانيا خصوصاً ان هتلر، ما ان شكل تلك الحكومة، حتى ضرب للمسيحيين المؤمنين على الوتر الحساس، اذ اعلن عن اعادة القيم العائلية والمسيحية وعن بدء حملة للتصدي للالحاد والفساد والانحطاط في الفنون والثقافة والتربية. امام ذلك التحرر انقسم الشعب الألماني - باستثناء فئة صغيرة متمردة منه - الى ثلاث فئات: فئة متحمسة كل الحماس لهتلر وحزبه، فئة تبدي بعض الشك لكنها تفضل الانتظار، وفئة ثالثة وجدت نفسها تتبع خطى النازيين، عن خوف على الأقل. في نهاية الأمر، عرف هتلر كيف يضرب ضرباته تباعاً، فهو اذ أمن اكثرية شعبية ساحقة الى جانبه، استغل مسألة "حريق الرايخشتاغ" ليضرب الشيوعيين ومن لفّ لفهم، ثم وجه ضربة قاسمة الى حرية الصحافة، ومنع الصحف وفرض الرقابة. وفي الوقت الذي كان فيه مساعده هملر يفتتح معسكر داشو لكي يحشد فيه المعارضين بالمئات، خوفاً منهم على الدين والاخلاق العامة - كان هتلر يعطي لنفسه صلاحيات سياسية تنفيذية كاملة وشاملة. وكانت خطاباته صارخة صاخبة تحشد من حوله عشرات الألوف من المستمعين المتحمسين، كيف لا وهتلر كان يأتي في كل خطاب من خطاباته على المسائل الثلاث التي كان يعرف ان من شأنها ان تلف الناس من حوله: التنديد بمعاهدة فرساي التي كانت اذلت الشعب الألماني الخارج مهزوماً من الحرب العالمية الأولى، مهاجمة اليهود في عبارات وممارسات لاسامية متهماً اياهم بتدبير المؤامرات على الصعيد العالمي، مع الرأسماليين والبولشفيين لاذلال الشعب الألماني، وأخيراً تمجيد العرق الآري الذي ينتمي الالمان اليه. وهكذا، حين حل يوم 14 تموز يوليو، وأعلن هتلر فيه منع الاحزاب كافة باستثناء حزبه النازي، كان اتم مساره للوصول الى الحكم، وبالكاد وجد من يعترض عليه في المانيا الصورة: هتلر في رسم كاريكاتوري معاد له، يعود الى تلك المرحلة.