العالم العربي في هذه المرحلة مأخوذ بسلسلة كبيرة من القضايا التي يبحث فيها عن حل. ففي كل مجتمع عربي هناك الهم المحلي وهناك الهم الاقليمي وهناك البعد القطري وهناك الأبعاد القومية، وهناك دور الدين وهناك دور الفرد. الحالة العربية الآن تعيش أخطر مراحلها. والأخطر أن تشعر أمة بأنها ولدت لتهزم وولدت لتخسر وولدت لتكتشف أن حساباتها تنتهي في معظم الأحيان إلى سلسلة من المغامرات. الأمة العربية تعيش منذ عقود حال ترد حول كل شعار رفعته وكل قضية تبنتها وكل محاولة سعت إليها. فهل الخطأ في القضايا التي تبنتها الأمة، أم في القادة الذين حركوا الأمة، أم في الوسائل المتبعة من قبل الأمة، أم في الظروف القاهرة أو في سوء التقدير، أم ضعف طرق التفكير، أم هو خليط من كل هذا؟ ولو دققنا في الوضع العربي لوجدنا قدرات كثيرة مهدورة، ولوجدنا طاقات عظيمة بلا استغلال حقيقي، ولوجدنا إمكانات بلا مؤسسات، ولوجدنا مؤسسات بلا قيادات بناءة. الحال العربية مليئة بالمتعلمين والقادرين ومليئة بالمثقفين والمفكرين ومليئة بالتنوع والخبرات، ولكنها قلما توجه هذه الطاقات بالاتجاه الصائب والسليم. وينكشف الوضع العربي بصفته وضعاً لم يتهيأ لمواجهة الأوضاع الجديدة، ولم يتهيأ لمواجهة صراع القوة مع دول العالم، ولم يتهيأ بأسباب العلم وإدارة الأزمات. الوضع العربي في شكله العام أم في ظل أقطاره العديدة لم يتهيأ بأسباب المقدرة السياسية والإدارية والعلمية التي تسمح له إلا باستثناءات قليلة بمواجهة المرحلة الراهنة أو المقبلة. في نهاية جرد العقد الماضي تراجع العرب في مؤشرات شاملة وتقدم غيرهم، وبينما يصعب أن نردد هذه المقولة من دون البحث عن بدائل، إلا أنه من الضروري أن ننطلق من واقع يقول بأن الهجوم الأميركي الموسع على منطقة الشرق الأوسط أكان ذلك من خلال تغيير النظام العراقي بوسائل القوة العسكرية أم عدم الالتفات للقضية الفلسطينية على رغم تفجرها، يعكس الشكل الذي تعيشه الحال العربية وتناقضاتها. ويمر العالم العربي اليوم بواحدة من مراحل غضبه على "الآخر". فهذا الغضب العميق الصادر من أعماق العالم العربي هو استمرار للغضب الذي يصدر عن العالم العربي في كل عقد. فعلاقة العالم العربي مع الغرب كانت دائماً علاقة ندية في أبعادها المتناقضة. ولكن هذا العالم الغربي الآخر صدمنا المرة تلو الأخرى بتفوقه. فهو صدمنا من خلال تفوقه علينا عندما عرفنا ذلك في القرن التاسع عشر، ثم صدمنا عندما استعمرنا وهزم دولتنا العثمانية، وصدمنا عندما أقام إسرائيل في نهاية الحقبة البريطانية، ثم صدمنا عندما هزمنا عام 1948 و1956 و1967 وغيرها. وكانت صدمة قطاع كبير من العرب عندما تدخلت الولاياتالمتحدة عسكرياً لتحرير الكويت، وجاءت الصدمة الأكبر في اكتشاف العالم العربي أن الولاياتالمتحدة على وشك تغيير نظام عربي بعدما غيرت النظام الأفغاني، وان الولاياتالمتحدة غضت النظر عن ارييل شارون في إعادة احتلاله للأراضي الفلسطينية. بل ربما كانت الفرحة الواسعة في العالم العربي بأحداث 11 أيلول سبتمبر انعكاساً عميقاً لشكل العلاقة ولشعور العرب بالضعف أمام الحال الغربية وتفوقها العسكري والسياسي والثقافي والإداري. وقد لا نجد جواباً وافياً على مسببات التراجع العربي. فمن جهة هناك قضايا وطنية تبرر لنا الصدام والمواجهة مع الآخرين، اذ لدينا حقوق اخذت ولدينا قضايا تمس مصيرنا ولدينا قضية فلسطينية على قدر كبير من المركزية. ولكن من جهة اخرى لدينا واقع قيادي ينقصه تقدير الموقف والرؤية المستقبلية والمقدرة على التخطيط والتفعيل والتعامل بما يساعدنا على حماية مصالحنا وقضايانا الوطنية. لهذا فقضايانا الوطنية تخسر بسبب ضعف تقدير الموقف لدى الكثير من قادتنا، وقضايانا تخسر نتيجة سواد الحماسة والعاطفة في شارعنا العربي وبين طلائعنا السياسية والثقافية مما يحجب عنا الحقيقة والواقعية التي تؤثر في خططنا وتوجهاتنا. ان حماسة العاطفة العربية والاسلامية التي تطفو على السطح في جميع الحروب والأزمات هي التي كثيراً ما تجعلنا غير قادرين على رؤية ما يراه الصينيون أو الروس أو الألمان أو اليابان أو الأوروبيون أو غيرهم في صراعاتهم مع الآخر الاميركي أو العالمي. فبينما تعلمت تلك الشعوب والدول لجم العاطفة وتحكيم العقل والخطة نجد اننا ما زلنا نعيش في المرحلة اليابانية والألمانية ما قبل الحرب العالمية الثانية. هذا الإشكال حجب عنا ويحجب عنا اليوم المقدرة على فهم الأوضاع وتقدير المواقف وخط السياسات الجديدة. وتعتبر عملية "لوم الآخر" على أوضاعنا واحدة من اكثر درجات التخلي عن المسؤولية واكثرها ضرراً بأوضاعنا. فقد سبق لاميركا اللاتينية ان مرت بهذه المرحلة، اذ لامت الولاياتالمتحدة على مدى عقود طويلة عملية التخلف والتراجع والضعف والديكتاتورية. وقد تحول هذا اللوم مع الوقت الى أحد مسببات التخلف والتخلي عن المسؤولية الذاتية وتبرير الفشل من قبل الحكومات ومن قبل الاحزاب والحركات المعارضة. ولكن ما ان قررت شعوب ودول تلك القارة التوقف عن لوم "الآخر" في التسعينات من القرن الماضي وبالتالي اخذ زمام الأمر بيدها في مجال التنمية والتطوير والتحديث والعلم والثقافة والديموقراطية والسلوك إلا وتغير حالها لصالح النمو. هكذا انقلب الوضع في اميركا اللاتينية من حال تطرف تقوم على لوم الآخر في ظل بروز منظمات هدفها ضرب مصالح الولاياتالمتحدة، الى حال تأقلم مع النظام الدولي في ظل تنمية وتغير داخلي لصالح الديموقراطية. ان السؤال الأساسي الذي يجب ان نسأله نحن العرب هو: كيف وصلنا الى هذه الحال؟ ما هو دورنا في الوصول الى ما وصلنا اليه؟ وكيف نخرج من الحال التي نعيشها وبأية وسائل؟ السؤال الأساسي يجب ان لا يرتبط مسؤولية الآخرين تجاهنا، وذلك لأن الآخرين أكانوا في الغرب أم في الشرق ليسوا مسؤولين عن حالنا بقدر ما كنا مسؤولين عن حالهم في العصور الوسطى. وما الضرر من ان تمارس الدول العربية انفتاحاً داخلياً على شعوبها وعلى قطاعها الخاص من خلال قوانين واضحة؟ وما الضرر من ان تعطى المرأة حقوقها السياسية، ويعطى المواطن حقوقاً مدنية ويتم تطوير الثقافة الاسلامية وقدرتها على الانفتاح على العالم؟ ما الضرر في ان نتحول الى دول تحترم كلمتها، والى مجتمعات تتمتع بحريات والى شعوب تسير نحو التنمية والتقدم، والى قيادات تنشر الفضيلة وتمارس العدل وتحمي ثروات البلاد وتتغير بين الحين والآخر؟ بمعنى آخر ما الضرر من ان نتحول الى أمة وسط، تقوم رسالتها على الصدق والعطاء في الداخل والخارج وفي كل مكان؟ أوليست التنمية عطاء، وأليس الصدق هو إسلام. أوليست الديموقراطية شورى القرن الجديد، أليست طريقة معاملتنا لمواطنينا هي انعكاس لطريقة تعاملنا مع العالم أو الطريقة التي نريد من العالم أن يعاملنا بها؟ إن بعث فسحة من الأمل في الواقع العربي المقبل هو المطلوب في هذه المرحلة. ولكن بناء فسحة الأمل وسط آفاق الحرب ووسط الركام المقبل لن يكون أمراً سهلاً. بل من الأسهل أن تغوص الأمة في حالة من الألم والشعور بالإحباط والشعور بالهزيمة الذي كثيراً ما ساد عوالم العرب منذ أوائل القرن الماضي حتى اليوم. لهذا فالسؤال أمامنا، كيف ننجح في التعامل مع الوضع العربي المقبل والراهن بروحية عملية تساعد على الخروج من حال الضيق التي تكتنف الآن معظم العرب؟ وقد لا نجد مدخلاً طبيعياً لاستعادة الذات إلا من خلال الاعتراف بأن واقعنا بحاجة الى اصلاح حقيقي، وان مجتمعاتنا بحاجة الى تغيرات في أساليب نظم الحكم وفي المناخ الثقافي والسياسي للمجتمع. الاعتراف بالخطأ والاعتراف بأننا جنحنا نحو الاتجاه الخاطئ هو المدخل، كما أن الاعتراف بأننا لم نأخذ مستقبلنا على محمل الجد هو الآخر مدخل أساسي وبأننا غالينا بالدين وخلطناه بالسياسة وغالينا بقمع الحريات. بل ربما نستطيع أن نقول بأنه آن الأوان لتستعيد الأمة ذاتها من خلال إعادة قراءة تاريخها، وإعادة تفسير حالها وإعادة بناء قدراتها على أسس واقعية وديموقراطية. كيف نفوت الفرصة على من يريدون بنا الضرر ولا يهتمون بمصيرنا، وكيف نغير أوضاعنا، وكيف نحمي أنفسنا ونتحمل مسؤولية مستقبلنا، وكيف نحقق الجديد لبلادنا، وكيف نرد على اتهام الآخرين لنا بالفساد ونهب الأموال العامة وتدمير الطبقات الوسطى وسرقة بلادنا، وممارسة الإرهاب، واضطهاد الأقليات، والحد من الحريات وتكفير المثقفين؟ أليس جزء من الرد هو أن نغير نهجنا الراهن وذلك لكي تكون الحقيقة لصالحنا قبل أن تكون الدعاية من أجلنا؟ أليس الطريق لتغير صورتنا هو الطريق لتغير علاقاتنا ببعضنا بعضاً في مجتمعاتنا وبين دولنا؟ أليس انفتاحنا الداخلي وتنمية بلادنا هو الرد الأبلغ على التهم كافة التي يرمى بها عالم العرب والمسلمين؟ * رئيس مركز الدراسات الاستراتيجية والمستقبلية في جامعة الكويت، وأستاذ العلوم السياسية.