قال الرئيس جورج بوش خلال اجتماع في المكتب البيضاوي مع شخصيات عراقية معارضة انه يفضل انتقالاً شاملاً الى الديموقراطية في العراق مع احتلال عسكري قصير الأمد اثر اطاحة صدام حسين. واذ اعرب المعارضون العراقيون عن الارتياح لموقف الرئيس أكدوا في الوقت نفسه أهمية اقامة شراكة سياسية عراقية مع الولاياتالمتحدة قبل الاطاحة. لكن يبدو أن الادارة الأميركية لا تشارك المعارضة العراقية في تلهفها الى تمكين العراقيين من حكم أنفسهم. فقد بينت تسريبات واسعة الى الاعلام الأميركي أن الخطط التي تعمل عليها الادارة للسيطرة على العراق والتحول الى الديموقراطية لا تعطي العراقيين في الداخل أو الخارج سوى دور ثانوي. وتبين هذه الخطط ان الدور الرئيسي في ادارة البلاد سيقع على العسكريين الأميركيين، لفترة سنة ونصف السنة على الأقل، يمارس خلالها قائد عسكري أميركي السيطرة التامة. ولا يشمل هذا التصور تسليم السلطة الى حكومة عراقية الا بعد سنوات على ذلك. والواضع أن الادارة لا تثق كثيرا بقدرة العراقيين على التكاتف وتكوين نظام سياسي تمثيلي فاعل بعد تحريرهم. بالمقابل، سيسعى المسؤولون الأميركيون الى طمأنة مخاوف العرب من استعمار أميركي للعراق عن طريق تشكيل ادارة دولية، وليس عراقية، قد تتولى الأممالمتحدة تعيينها. لكن هل هذا السبيل الأفضل لاقناع العراقيين والعرب أن الولاياتالمتحدة لا تريد "اخضاعهم" أو "السيطرة" على مواردهم النفطية؟ كيف يمكن للولايات المتحدة تحويل العراق الى الديموقراطية دون قيادة العراقيين أنفسهم لهذه العملية؟ ماذا نستشفه من هذا الموقف عن عقلية المتشددين في ادارة الرئيس بوش الذين يشكلون القوة الدافعة لسياسة أميركا تجاه العراق؟ وهل تدرك الادارة عمق الرفض داخل العراق لخططها؟ هذه ليست أسئلة أكاديمية لأن لها تداعياتها المباشرة ليس فقط في ما يخص الجهد العسكري - السياسي الأميركي لاعادة اعمار العراق بعد صدام حسين، بل أيضا لادعاءات وتأكيدات صانعي السياسة الأميركية على عزمهم على اقامة نموذج ديموقراطي في ذلك البلد تهتدي به الدول العربية الأخرى. وكان محمد باقر الحكيم، زعيم "المجلس الاعلى للثورة الاسلامية في العراق"، التنظيم العراقي المدعوم من ايران، صريحاً في الرد على التصور الأميركي عندما قال: "اننا نرفض تعيين حاكم عسكري أجنبي على العراق، بل نرفض أي حاكم، حتى لو كان عراقياً، تعينه قوة أجنبية". وأكد أن احتلال العراق سيواجه "مقاومة قوية"، وان لتنظيمه قوة عسكرية قادرة على التدخل. انه تحذير لا بد من أخذه مأخذ الجد. لأن الأرجح أن الكثيرين من شيعة العراق، بشعورهم الوطني القوي واستلهامهم الثورة الايرانية، سيعارضون اي ترتيب أميركي موقت يستبعدهم ويعطي السلطة للأميركيين. واذا حصل ذلك فان ايران ستعمل على تأجيج ودعم ثورتهم، وهو ما سيحبط واحدا من أهم أهداف الادارة كما توضحها الخطط الأميركية، أي "منع أي تدخل أجنبي معرقِل، عسكريا كان أم غير عسكري" في شؤون العراق الداخلية. ان على أي جهد أميركي، لكي يكتسب الشرعية في نظر العراقيين والعرب عموما، أن يعامل العراقيين كشركاء ويعطيهم دورا جوهريا في اعادة اعمار بلدهم، خصوصاً ادارة صناعة النفط، وما لذلك من أهمية حاسمة لبلد يملك ثاني احتياطي نفطي في العالم 112 بليون برميل بعد المملكة العربية السعودية. يعرف الأميركيون أن هناك اقتناع واسع في الخارج بأن السيطرة النفط - وليس نزع السلاح - هي الدافع الرئيسي لسياستهم تجاه العراق. لكن خططهم لا تكتفي، حسب التقارير، باستعمال عائدات النفط لاعادة اعمار العراق بل تشمل مواجهة قسم من كلفة الاحتلال العسكري. وقد تحدث كبار مسؤولي الادارة الأميركية عن استعمال النفط العراقي لصالح شعب العراق. لكن الأرجح ان مخططاتهم تشمل استعماله أيضا لدفع تكاليف الادارة والسيطرة. ولا شك أن خطوة كهذه ستدعم اتهامات العالم الاسلامي الى اميركا بالامبريالية، وتثير غضب الكثير من العراقيين الذين سينظرون الى اميركا باعتبارها قوة للارتزاق وليس التحرير، زارعة بذلك بذور سوء التفاهم وامكان المقاومة. الظاهر أن المسؤولين الأميركيين لا يدركون أن ليس بامكان أي قوة خارجية جلب الديموقراطية الى العراق، وان للعراقيين وحدهم، بمساعدة دولية، القيام بذلك. ورغم بعض الخطوات المترددة لدعم المعارضة العراقية من بينها البدء بالتدريب العسكري لبعض العناصر المعارضة لا تبدو الادارة الأميركية راغبة في تشكيل حكومة عراقية موقتة ذات سلطة حقيقية. وهكذا لا يتجاوز الخطاب الأميركي حول جلب الديموقراطية الى العراق أن يكون غطاء لسياسة لا تتوخى سوى السيطرة. من الأمثلة على ذلك خيبة الأمل المريرة لدى المعارضين العراقيين أخيرا عندما قررت الادارة عدم ضمان الأمن لاجتماعهم الذي كان يفترض عقده في شمال العراق في 22 كانون الثاني يناير. واعتبر عدد من المعارضين أن القرار يلقي الشكوك على التزام الادارة قيام معارضة مستقلة بدور مهم في عراق ما بعد صدام حسين. الخلافات في صفوف الادارة الأميركية، وتفكك الحياة السياسية العراقية تحت حكم صدام حسين القاسي، ساهما في الحيلولة دون تشكيل معارضة موحدة داخل وخارج العراق. مع ذلك فقد تمكنت المعارضة رغم الخلافات التي برزت في مؤتمرها الأخير في لندن من التوصل الى تسويات وأصدرت قرارات تؤكد على تقاسم السلطة واشراك كل الفئات. وانتخب الحضور ال600 في المؤتمر هيئة للتسيير من 65 مندوباً كان يفترض لها الاجتماع في شمال العراق بعد 15 كانون الثاني يناير لتعيين لجنة مصغرة تساهم في قيادة عملية الانتقال الى الديموقراطية بعد ذهاب الرئيس العراقي. ويتوقع لهذا الاجتماع المؤجل، عندما ينعقد على الأراضي العراقية، أن يوجه رسالة قوية الى شعب العراق بأن المعارضين ليسوا مجرد محاسيب لأميركا بل هم وطنيون عراقيون مخلصون. ويمكن للولايات المتحدة بالتعاون مع الأممالمتحدة والاتحاد الأوروبي ودول الجوار العراقي، خصوصا الجوار العربي، تسهيل ولادة عراق جديد، من خلال مساعدة المجموعات المعارضة على تعميق تعاونها واقامة التحالفات مع مختلف التكتلات في الداخل، من ضمنها العشائر والقوات المسلحة. ان هذا ليس من قبيل التمني الفارغ. فقد أدت التطورات الأخيرة كما يبدو الى ارباك النظام وكشفت للشعب مدى ضعفه. ولا بد للأزمة المتصاعدة من أن تشجع الضباط وشيوخ العشائرعلى السعي لتجنيب بلدهم أهوال الحرب المزمعة وافشال خطط متشددي واشنطن المصممين على مهاجمة العراق واحتلاله. واذا لم يستطع المجتمع العراقي النهوض لوحده فقد يميل قادته الى التحالف مع معارضة نشيطة معبئة في الخارج، تحظى بدعم علني من المجتمع الدولي، من ضمنه الدول العربية، لازاحة صدام حسين عن السلطة. ولتحالف مهم كهذا أن يشكل القاعدة المطلوبة لحكومة عراقية ديموقراطية جديدة. آن الأوان لادارة بوش لتبرهن، بالافعال وليس مجرد الأقوال، على التزامها مساعدة العراقيين - وليس الاعتماد الاحادي على القوة العسكرية الأميركية - على قيادة المسيرة نحو اعادة الاعمار والديموقراطية. ذلك أن القضية الجوهرية هنا هي مستقبل العراقيين ومصيرهم ومسؤوليتهم. * استاذ في دراسات الشرق الأوسط والشؤون الدولية في جامعة ساره لورنس في نيويورك.