بالأمس القريب مرّ سبعة وأربعون عاماً من عمر السودان الحر المستقل. وتعتبر هذه البلاد حديثه التاريخ. ولأجل ذلك كانت تركيبتها الإثنية والدينية والثقافية والجهوية معقدة وفريدة، بالمقارنة مع بقية دول الجوار، لأن تركيبة عبها متعددة ومتباينة من حيث الأعراق والثقافات والديانات مع طوائفها، وهي مترامية الأطراف، ومساحتها شاسعة جداً. فهي أكبر دولة من حيث المساحة في القارة الأفريقية والوطن العربي، وتاسع دولة في العالم. وفيها خمسمئة وثمان وخمسون قبيلة تقريباً، من أصول إفريقية وأصول عربية وإغريقية وتركية وسورية وقبطية ويمنية. ومعظم هذه الأجناس امتزجت بقبائل ذات أصول افريقية، وأصبحت هويتهم هوية سودانية خالصة. ولا يمكن ان تتحقق الوحدة الوطنية المنشودة في مثل هذه البلاد إلا إذا اعترف بواقعها التعددي. ولكن النخبة السياسية في الاحزاب السياسية المبنية على العقائدية والطائفية الدينية والعنصرية العرقية والجهوية، تجاهلت واقعنا التنوعي ثم عملت بدأب لتحقيق الوحدة المنشودة من طريق العنف المسلح، في وقت، وبالقهر السياسي، في وقت آخر. وهذا أقحم الشعب السوداني في حروب مستديمة، من قبل الاستقلال الى يومنا هذا. وحصدت هذه الحروب أكثر من ملايين ونصف مليون مواطن سوداني، وشردت أكثر من أربعة مليون ونصف مليون مواطن الى خارج البلاد، فضلاً عن الهجرات الداخلية الى أماكن آمنة نسبياً، وذلك بدلاً من بناء وطننا الحبيب، تحت مظلة الوحدة الواحدة، وعلى طريق التسامح وقبول الآخر، وإحرام المواطن بحقوقه الطبيعية والمدنية والسياسية. وأفرزت هذه الألاعيب حروباً دينية وعرقية وقبلية وعنصرية وجهوية طاحنة. وأهدرت ثروات البلاد - للأسف - بكل استهتار، في حين نحن أحوج ما نكون إليها للبناء، وتحقيق الوحدة والسلام والاستقرار. ونتساءل: على من تقع المسؤولية المأسوية عن هذا؟ ما مسؤولية جماهير الشعب السوداني؟ وهل مسؤوليتهم تعادل مسؤولية الحكومات السودانية المتعاقبة؟ وما مدى مسؤولية قيادات ورؤساء الأحزاب السياسية السودانية؟ وهل مثقفو المناطق المهمشة براء من هذه المسؤولية؟ أولاً: مسؤولية جماهير الشعب السوداني إن جماهير الشعب السوداني، في مجموعهم، مسؤولون عما وصلنا إليه، فما وصل الشعب، ولا وصلت البلاد الى هذا المستوى إلا لجهلهم قضيتهم الحقيقية، وانحرافهم شيئاً فشيئاً عن وطنيتهم. وفي الحقيقة أَلِفَ الشعب السوداني، منذ فجر الاستقلال، التبعية لتوجهات الغير، والخضوع لأنماط سلوك تحمل في طياتها الأفكار المضللة، وترسخ روح العجز والاتكالية. وبالفعل أصبح شعبنا يرضى كل ذلك، ظناً منه ان هذه الأوضاع لا تخالف الوطنية البتة. بل يظن المواطن ان الوطنية لا تعني محاربة أنماط السلوك المضللة. وطمست بصيرته، وفقد العزة والقوة والكرامة. فالسودانيون تستعبدهم النخبة التسلطية التي تتخذ نيابة عنهم القرارات التي تمس صميم حياتهم، في الحقوق الشخصية الطبيعية والسياسية والمدنية، في البيت والمدرسة ومكان العمل من دون استشارتهم. ثانياً: مسؤولية حكومات البلاد التي تعاقبت منذ الاستقلال الحكومات التي مرت بالسودان، من ديموقراطية وديكتاتورية، تتحمل مسؤولية كبرى عما أصاب البلاد من التفكك، وعما أصاب الشعب من المتاعب والحروب الأهلية العرقية والعنصرية والدينية والطائفية الحزبية التي انحطت بالشعب الى هذا المستوى من الذل والهوان. فهذه الحكومات أبعدت المواطن من شؤون الحياة النبيلة، واختارت له الرذيلة والدمار بواسطة الحروب. واختارت لهم الكوارث المصطنعة، مثل المجاعات، والفقر المدقع، والأمية والتخلف والأمراض المتوطنة الفتاكة المتفشية، من شلل الأطفال والملاريا والحصبة إلى "الإيدز" وغيرها من المصائب التي حلت بالشعب. ولا ننسَ الجفاف والتصحر اللذين ضربا البلاد حتى كادت الأرياف والقرى والمدن الصغيرة، في شمال الإقليم الشمالي، وشمال كردفان وشمال دارفور، تتصحر. وفي كل عام تزحف الصحراء جنوباً كلم واحد على الأقل. وأصبح المواطن على الترحال الدائم، والهجرات الداخلية من القرى والمدن والأرياف التي افتقدت أدنى الخدمات الأساسية. فحكوماتنا، منذ فجر الاستقلال، لم تعط الأمة، بمختلف أعراقها ودياناتها أقل الحرية والمساواة والعدالة في توزيع السلطة والثروة. وفرقت بين هذه الأمة. فمنها مواطنون من الدرجة الأولى، يعيشون ويتمتعون بحقوق السلطة والثروة على حساب الآخرين، وآخرون من الدرجتين الثانية والثالثة. وفقد مواطنو هذا البلد الثقة بينهم، فلا تضامن ولا تراحم بعضهم مع بعض. وأقامت هذا المجتمع على الفساد والإفساد، وأورثت الضعف والذل، وجلبت الفقر، وأشاعت التخلف والأمية، وأغرقت البلد والشعب في الديون الخارجية المعلنة وغير المعلنة. وإذا سألت أي مواطن سوداني عن هذه الديون، لماذا جلبت؟ وفي أي قنوات صرفت؟ لم يستطع الإجابة. فهي لم تنفق في الصحة العامة، لأن بلادنا من أفقر بلاد العالم في مجال الصحة. ولم نستطع ان نقضي على الأمراض المتوطنة في بلادنا. ثالثاً: مسؤولية رؤساء الأحزاب السياسية السودانية التقليدية ورؤساء الأحزاب مسؤولون عما أصاب البلاد من الحروب الدينية والعرقية والانقسامات الجهوية، وعن التنافر والتناثر بين شعب واحد. فهذه النخبة عاشت، وأقامت أحزابها على التضليل، وأضعفت البلاد، وأخَّرت أهلها عن النهوض والتقدم. وخير لها ان تترك القضية والتسوية تتمّان برقابة دولية، وبوساطة دولية، لمصلحة هذه البلاد وشعبها، لأن هذه الزعامة المزعومة هي التي تؤخر التسوية السودانية. ونحن نعلم - للأسف - علماً يقيناً ان كثيراً من أمثال هؤلاء يتحرّكون الآن حثيثاً لإجهاض المفاوضات الجارية بمشاكوس، بجوار العاصمة الكينية، وذلك لأجل خطف السلطة. رابعاً مسؤولية المثقف السوداني إن المثقفين السودانيين يحملون ذنب ما نحن فيه، ووزر ما أصاب هذه البلاد من الهوان والتفكك، لأن المثقف السوداني كان، ولا يزال يظاهر الحكام والحكومات ورؤساء الأحزاب المضللة، ويسكت عن الباطل إرضاءً لهم. وهكذا استمر الشعب على غفلته عما تريد البلاد. وسد المثقفون رمق تطلعاتهم المعيشية والوظيفية. وهم قسمان: المثقف اللامبالي بقضايا المواطنين الذين سلبت حقوقهم، والمثقف خادم الحكومات. والمثقفون، عموماً، أغمضوا أعينهم، وأطبقوا أفواههم ووضعوا أصابعهم في آذانهم، حذر النضال، فناموا على القضية من جيل الى جيل. ألا ترى أن المثقفين، وأنصافهم، وأنصاف متعلميهم، ظلّوا يقومون بقيادة الشعب لأجل استخدامه للتظاهر ضد أحزاب، أو حكومات تختلف عنهم من حيث الأيديولوجيات والطائفية، وظلوا يصدرون البيانات، وتجمعوا، وخطبوا على المنابر وفي المنتديات، وقاموا بالإضرابات والإعتصامات، في مواجهة تلك الايديولوجيات التي لا تتفق معهم في المصالح. القاهرة - أمين حسن عبدالله مسؤول مكتب التحالف الفيدير الي الديموقراطي السوداني [email protected]