النفس البشرية شديدة الغنى والثراء، غنى بالعناصر وثراء في الأفكار. ولا علاقة لهذا التوصيف بالجانب الأخلاقي. فالنفس قد تكون غنية بالخير، كما يمكن، وبالقدْر نفسه، أن تكون ثريَّة بعناصر الشر. أسوق هذا في سياق التقديم لمجموعة القاص يوسف ضمرة "أشجار دائمة العري" منشورات وزارة الثقافة - عمان، وهي المجموعة التي سبقتها سبع مجموعات قصصية، بدءاً ب"العربات" 1979، ومروراً ب"نجمة والأشجار"، و"المكاتيب لا تصل أمي"، و"اليوم الثالث في الغياب"، و"ذلك المساء"، و"مدارات لكوكب وحيد"، وصولاً إلى "عنقود حامض" 1993، ولا ننسى الإشارة إلى روايته اليتيمة "سحب الفوضى" 1990. وفي حين شكلت المجموعات الأولى لضمرة غوصاً على مستويين، الوطني/ الفلسطيني متشابكاً مع، أو مستقلاً عن الهمّ الإنساني الخاص، أعني هموم الإنسان الفرد، فقد جاءت قصصه الجديدة لتغوص في هموم المستوى الثاني هذا وحسب، وتبتعد من هموم المستوى الأول. وليوسف ضمرة ولع خاص واشتغال كبير وعميق بالبشر "المهجوسين" بحسب عبارته. هؤلاء البشر يحيون بذوات غريبة ومدهشة وتنطوي على الكثير من الفنتازيا البسيطة النابعة من الداخل، لا الفنتازيا المختَلَقة والمصنَّعة. لعل كتابة ضمرة القصصية، وتجربته الكتابية عموماً، هي من أكثر التجارب سعياً للحفر واكتشاف مناطق جديدة في الإنسان، مناطق قد تكون غائرة في الأعماق، أو قد تكون محجوبة بسواتر مختلفة. والإنسان المقصود هنا هو الفرد في علاقاته المتعددة، بدءاً من علاقته مع نفسه وانتهاء بعلاقاته مع العالم من حوله. لكن ذلك السعي وهذا الحفر قد يوسِّعان دائرة البحث، فنذهب معه إلى هموم كبرى تخص العام، وقد تضيِّق الدائرة فنغوص في رقعة صغيرة جداً من النفس البشرية. وفي كل الأحوال فنحن أمام نماذج معذَّبة أو معذِّبة بفتح الذال ثم كسرها، يعمل يوسف على رفعها من واقعيتها إلى مستوى الأسطورة حيناً، أو إلى صعيد التراجيديا الإنسانية التي نجدها في نماذج ديستويفسكي وتشيخوف وكافكا حيناً آخر. قصص ضمرة الجديدة تضعنا أمام عري الإنسان، فيما هي تحكي عن عري الأشجار. عن عري دائم للبشر. وربما كان السؤال الذي كتبه في إهداء كتابه لي: "هل كانت هذه الأشجار هكذا دائماً؟" وإجابته: "لا أعرف"... ربما كان هذان السؤال والجواب في صلب عمله وصنيعه الإبداعي المتجسد قصصاً. فلو كان يعرف لما كتب. كما أن السؤال هذا حاضر في جسد القصص وفي روحها، عبر محاولتها الكشف عما اعترى العالم والكائن من تغيُّرات. أشجار عارية سبق ورأينا شبيهاً لها في قصص ضمرة. لكن العري هنا أشد قسوة وحدَّة. عري ينسجم مع مرور الزمن على الكائن. عري واقعيّ حيناً ورمزي أحياناً، ماديّ ومعنوي ونفسيّ/ بسيكولوجيّ وروحيّ. عريٌ ينطوي على التشظي والتمزق و.. الموت في داخل الإنسان. لكنه الموت المعنوي الذي قرأناه في شخصية "يوسف" الممزقة إلى عدد من الشخصيات "اليوسفين" في رواية "سحب الفوضى"، وسنراها في انفصام يوسف بطل قصة "أشجار دائمة العري" في هذا الكتاب إلى عدد من "اليوسفين"، تعبيراً عن ذلك التمزق القاتل والصراع العنيف داخل الشخصية. سمات غريبة في قصص الكتاب الست عشرة، وأطولها القصة التي تحمل المجموعة اسمها، نجد نماذج بشرية ذات ملامح وسمات غريبة حد الشذوذ. في القصة الأولى ثمة الرجل الذي يتعرى ويقف أمام المرآة، فتتحول إلى امرأة "ترمقني باشتهاء"، وثمة امرأة "لا تستقرُّ على هيئة واحدة، ولا تفعل الشيء نفسه في شكل واحد مرتين"، أي بقول آخر هي امرأة مبدعة، تقف أمام المرآة المغبرّة وتأخذ تمسحها "كأنها تدعك جسدها تحت الماء". وأيُّ امرأة تقف أمام المرآة تتحول إلى امرأة ترمق الرجل باشتهاء، ما يجعله يتعامل مع المرآة بصفتها ذئباً، ويحيلنا إلى ما تختزنه من حالات الشبق والمتع التي مرّت في حياة الرجل الشهوانيّ الكثير النساء... فالمرآة تصير جسداً، بل أجساداً وشهوات، بقدر ما يمكن الجسد أن يكون مرآة للروح وشهواتها. من النماذج الأساسية، رجل مهجوس بالانفصام، وآخر مسكون بهاجس القتل، وثالث يكاد يموت من الضجر، وهناك المرأة التي تعتقد أن ما تحدس به سيكون حقيقة، والزوجان اللذان يعيشان تحت سقف واحد، ولكلّ منهما عالمه ومشاغله، وساعة الجدار التي "يؤنسنها" الكاتب فيجعلها تفقد النبض في غرفة الرجل الذي غادرته زوجته، ويجعل القاص من القناع شخصاً يبكي لأن صاحبه لا يرتديه إلا أمام الناس فيطلب منه أن يرتديه في خلوته، وحين يجرب الرجل ارتداءه يقول: "لم أعد أحس بغبار الخارج يندفع إلى أعماقي". وهناك الرجل المطارد بطيف زوج امرأة يحبها، لكنه في الواقع مطارد بأسئلة روحه القلقة. وهناك العجوز الذي اعتاد على الجلوس في مقعد في حديقة كان التقى فيه حبيبته للمرة الأولى، وحين يتأخر العجوز يوماً عن مقعده، يأتي ليكتشف أن الناس اعتقدوا أنه مات، وحين يرونه يشعرون بالخذلان، كأنما أرادوا أن يصدقوا ظنونهم عنه. ونماذج أخرى كثيرة تصب في الهاجس نفسه، أو في هواجس تجمع الخوف والسخرية في آن. تبدأ قصص ضمرة من الواقع، وقد تنطلق من واقعة معيّنة، من حادثة بسيطة، وقد تبدأ بفكرة واقعية الحدوث، لكن ما يتبع ذلك من تطورات في شكل القصة وتفاصيلها هي أمور تنتمي إلى عالم الغرابة والغربة والتغريب. فشخوص القصص دائماً هم غير عاديين، ويكون تركيز القاص على غرابتهم وعلى التفاصيل الصغيرة في سلوكهم أو تفكيرهم، وعلى شعورهم بالغربة والعزلة والوحدة والتفرد. وهذه علامات شقاء وتعاسة، وليست سبباً للتميّز والسعادة. وما يميّز قصص ضمرة أيضاً، هذه الضربات العنيفة، عبر الجمل الفعلية القصيرة غالباً، في الموقع نفسه المتمثل في العلاقة بين الرجل والمرأة. فالعلاقة هذه تحتل موقعاً ومساحة متقدمين في عمله. ودائماً ثمة هذه الأزمة وهذا القلق الجحيميّ. وقد تبدو الأزمة في كثير من الأحيان أزمة عابرة، لكن طبيعة الشخص، الرجل والمرأة المتعالقين، من جهة، وطبيعة المعالجة الدقيقة من جهة ثانية، تحيلان العاديّ والعابر إلى جوهري ومقيم ودائم. فمجرد رسالة صغيرة يجدها الزوجان العائدان من الخارج على باب البيت، تثير مشكلة غير عادية، لا لأنها رسالة غير عادية، أو مثيرة، بل فقط لأن حال الزوجين في القصة التي تحمل عنوان "كل شيء على ما يرام"، هي حال غير عادية وليست على ما يرام، ومأزومة حد الانفصال داخل جدران وتحت سقف واحد، لكن لكل عالمه. فحين تقرأ المرأة عبارة "اشتقت إليك"، تعود إلى بعض "الرسائل والصور القديمة"، وبدأت "عيناها تتقافزان" لترى من صاحب هذه الرسالة! وحين يفكر الرجل أنها قد تكون له، يبرر ذلك بأن حرف الكاف في كلمة إليك ساكنة، وهذا في الواقع لا يعني شيئاً، إذ يمكن أن تكون الكاف الساكنة للطرفين، للذكر وللأنثى، لكن الرجل "عبر إلى غرفته. أغلق الباب. جلس إلى الطاولة. وضع الورقة أمامه. تناول من أحد الجوارير ألبوم الصور وبعض الرسائل، وراحت عيناه تتقافزان". هنا نحن أمام زوجين، للمرأة غرفة النوم، ولها رسائلها وألبوم صورها، وللرجل غرفته ومجموعة رسائله وألبوم صوره، وكل ما يجري يؤكد الشرخ العميق بينهما، وشكوك كل منهما وظنونه. ويبدو رسم مثل هذه العلاقة محاولة للغوص في أعماق الشخص، واستكشاف عوالمه الداخلية وتفاصيل ذهنه وتفكيره، خصوصاً في نظرة كل من الرجل المرأة إلى الآخر. وعلى نحو مختلف، تأتي قصتا "صحن اللّقى" و"حقيبة أخرى" لترسما جانباً من طبيعة "العلاقة المتوترة" بين زوج قلق وزوجة تظل تنسى حقيبتها مفتوحة، فتتساقط محتوياتها، فلا يجد مفراً من التقاط ما يتساقط، ووضعه في صحن اللقى. وحين تكف المرأة عن نسيان حقيبتها مفتوحة، في قصة "حقيبة أخرى"، يواصل الرجل التقاط الأشياء من الشارع وجمعها في صحن جديد. فقد اعتاد النظر إلى أي حقيبة مفتوحة، حتى ظنته إحداهنّ لص حقائب. هنا تبدو صورة المرأة اللامبالية بمقتنياتها، ولا بالعالم من حولها، من جهة، وصورة الرجل "الغيور" من نظرات الرجال الموجهة إلى زوجته وهي ترتدي قميصاً شفافاً فوق "سوتيان" أحمر، وتعليقاتهم "الأحمر يربح"، فيما هو يعتقد أنه لمح في عينيها "شيئاً من الرضا"! وللعناصر المتعلقة بالزمن وآثاره على الإنسان أهمية قصوى في قصص ضمرة.