في عام 2000 صدرت في بيروت طبعة عربية جديدة من كتاب عزمي بشارة "العرب في اسرائيل - رؤية من الداخل" الذي لفت الانتباه من جديد الى ذلك الجزء الحاضر/ المغيب في اسرائيل عرب 1948. وفي الواقع ان الكتاب يتضمن مع افكاره الرائدة او غير المألوفة بالنسبة الى الوسط العربي المحيط بإسرائيل ما يمكن ان يسمى بمشروع ثقافي سياسي يعيد للأقلية الفلسطينية اعتبارها ويعزز دورها في تغيير اسرائيل من الداخل باتجاه عقلنتها وتحويلها الى دولة مدنية. وقال بشارة: "ان التجربة اثبتت وبخاصة في شمال ارلندا وسري لانكا وقبرص قبل 1974 ان التمييز البنيوي ضد الأقلية القومية لا بد من ان يؤدي الى الانفجار في النهاية". ولكن، ما نظّر له بشارة وتوقعه لإسرائيل تحقق بشكل ما في مقدونيا خلال 2001 - 2002. ففي مطلع 2001 حصل في مقدونيا الانفجار الذي توقعه بشارة نتيجة ل"التمييز البنيوي ضد الأقلية القومية" الألبانية هنا، وتحولت مقدونيا مع الدستور الجديد الذي أُقر نتيجة لاتفاق آب/ اغسطس 2001 الى دولة تمثل النموذج الذي كان يدعو له بشارة: من دولة قومية لطرف واحد الى دولة مواطنين، ومن دولة الديموقراطية القومية التي تكون فيها الدولة في يد الغالبية القومية الى دولة المساواة التي يكملها الحكم الذاتي. وهكذا ادت الانتخابات الأخيرة في مقدونيا الى انتصار اليسار راجع "الحياة" عدد 2/10/2002، بعد ان لعب اليمين باستمرار لعبة تضخيم "الخطر" من الآخر/ الألبان، والى تصويت معظم الأقلية الألبانية 23 في المئة بحسب الاعتراف الرسمي ل"الاتحاد الديموقراطي للاندماج" ما ضمن لهذا الحزب 13 مقعداً في البرلمان من اصل 120 مقعداً وسمح بحكومة ائتلافية تمثلت فيها الأقلية الألبانية بأربعة وزراء. وينتظر خلال 2003 ان تُقر عشرات القوانين الجديدة التي ستفتح الباب امام تغيرات بنيوية في الدولة. وفي هذا الإطار سيصبح من حق الأقلية الألبانية استعمال لغتها في الدولة في البرلمان ووسائل الإعلام، الخ والتعليم الجامعي والتمتع بالحكم الذاتي في المناطق التي تشكل فيها غالبية. وتجدر الإشارة الى ان الألبان الذين وجدوا انفسهم داخل حدود جمهورية مقدونيا الحالية التي تأسست في 1940 من اجزاء كانت تتبع ولاية كوسوفو العثمانية لم يُرحب بهم ومورست عليهم الضغوط باستمرار للهجرة الى الخارج خصوصاً بعد 1948 حين انفجر النزاع بين يوغوسلافيا والاتحاد السوفياتي الذي تضامنت معه ألبانيا حيث اصبحوا يعاملون ك"طابور خامس". وخلال تلك السنوات الصعبة، التي استمرت حتى صيف 1966، عايش الألبان في مقدونيا مشكلة الهوية التي عكست نفسها في الإحصاءات الرسمية، إذ كان بعضهم يدخل في خانة "الأتراك" وبعضهم في خانة "الألبان" او في خانة "المسلمين"، إلى ان تماسكت هذه الأقلية بعد 1981 بعد وفاة تيتو وصعود الموجة القومية في كل يوغوسلافيا السابقة. وما زاد آنذاك في تماسك هذه الأقلية وانطلاق كفاحها الجديد في سبيل المساواة، الضغوط التي اخذت تمارس عليها بحجة ما تمثله من "قنبلة ديموغرافية". وهكذا اخذ اليمين الصاعد آنذاك يركز على وجود "مؤامرة" مبيتة على مقدونيا نتيجة الازدياد السريع لهذه الأقلية ذات الغالبية المسلمة التي تهدد هوية الدولة السلافية المسيحية بعد ان تتحول الى غالبية في عام 2040! ولا شك في ان هذه الأقلية حظيت بدعم مباشر من ألبان كوسوفو المجاورة، لا سيما بعد ان تحررت هذه من الحكم الصربي في 1999، بحكم التداخل الجغرافي والإثني والتاريخي ولاية واحدة حتى نهاية الحكم العثماني في 1912. وربما يكون تحرر كوسوفو اثار من جديد وسط هذه الأقلية بعض الأحلام/ الأوهام حول "كوسوفو الكبرى" او "ألبانيا الكبرى"، إلا ان ما تحقق لكوسوفو في 1999 هو الذي سمح للأقلية الألبانية في مقدونيا بلحظة تاريخية ضمن السياق الإقليمي/ الدولي الجديد. فقد اعتبر التحرك الجديد/ المسلح للأقلية الألبانية عنصراً يهدد الاستقرار في اقليم البلقان، وينذر بانفجار واسع قد يطاول اطراف اوروبا الأخرى، ما ادى الى تحرك/ تدخل اوروبي - اميركي قوي دفع الطرفين حكومة غيورغيفسكي اليمينية والقيادة الألبانية للتوصل الى حل. ويلاحظ هنا ان هذا الحل تم ضمن ما يسمى بأوْربة البلقان، وبالتحديد باعتماد "المعايير الأوروبية" الواحدة التي تتعلق بالمواطنية والمساواة وحقوق الإنسان، والتي تريد للبلقان في نهاية الأمر ان يندرج بالتدريج في بقية اوروبا الاتحاد الأوروبي. ولكن، في سياق التدخل الأوروبي- الأميركي كان على الأقلية الألبانية ان تحسم امرها في موضوع مهم: ان تعبر عن ولائها للدولة التي تريد ان تتمتع بالمساواة فيها. وبعبارة اخرى كان على الألبان في مقدونيا ان يتخلوا عن اي وهم بالانضمام الى كوسوفو المجاورة كوسوفو الكبرى او ألبانيا المجاورة ألبانيا الكبرى. لكن الولاء للدولة التي يعيشون فيها ويحملون جنسيتها وجوازها حتى بلغتهم الألبانية ويشاركون بحقائب وزارية عدة في حكومتها، لا يعني ابداً انقطاع التواصل الثقافي والاقتصادي والاجتماعي مع الامتداد الألباني في كوسوفو أو ألبانيا. اما في ما يتعلق ب"عرب اسرائيل" في الفترة ذاتها فيمكن ان تلاحظ اموراً عدة. عانى "عرب اسرائيل" من التجاهل والازدراء وحتى التشكيك والتخوين خلال 1948- 1966 من الحكومات والأحزاب العربية في الدول المجاورة، في الوقت الذي كانوا يعانون في الداخل من اصعب انواع التمييز نذكر هنا مصافحة فيصل الحوراني لمحمود درويش في صوفيا 1966 وما جرّت للحوراني بعد عودته الى دمشق من "محاكمة حزبية". وفي تلك السنوات عانت تلك الأقلية ايضاً من مشكلة الهوية، كما كان الأمر مع الألبان في مقدونيا، اذ توزع الوعي والانتماء المعبّر عنه الى خانات مختلفة عربي، عربي في اسرائيل، فلسطيني، اسرائيلي الخ. وفي الوقت الذي كانت الحكومات المتعاقبة في اسرائيل حريصة على تشتيت هذه الأقلية بالمفهوم الاثني عرب ودروز وشركس والديني مسلمون ومسيحيون كانت الأحزاب الجديدة تعبر بدورها عن هذا التشتت باستخدام اكثر من مصطلح لهذه الأقلية. ويبدو انه آن الأوان لحسم هذا الأمر باستخدام مصطلح واحد يعبّر عما يجمع هذه الأقلية الفلسطينية داخل اسرائيل. فهذه الأقلية هي جزء من فلسطين التاريخية/ الانتدابية التي سبقت تأسيس اسرائيل في 1948 ولم يأت افرادها من الدول المجاورة لبنان وسورية والأردن على عكس بعض اليهود العراقيين والسوريين، الخ. وكما هو الأمر في مقدونيا، إذ ان وجود الألبان سابق لقيام الدولة الجديدة 1945 ولا يتعارض مصطلح "اقلية ألبانية" مع وجود دولة مجاورة تحمل الاسم التاريخي ألبانيا. ولكن، في هذا السياق يبدو ان على هذه الأقلية كما كان الأمر مع الألبان في مقدونيا ان تحسم الأمر الوجودي: ان تخرج من عقدتها بوجودها في اسرائيل حيث انها تشكل الآن حوالى 20 في المئة من سكان هذه الدولة وحملها الجنسية الإسرائيلية، وأن تسعى الى المساواة من خلال المشاركة الفاعلة في اللعبة الديموقراطية المتاحة خصوصاً في انتخابات الكنيست والحياة السياسية التحالف مع اليسار في المطالبة العادلة بتحويل اسرائيل من دولة قومية لطرف واحد الى دولة مدنية يتمتع فيها كل المواطنين بحقوق متساوية. ومع ان السياق الدولي بعد 11 ايلول/ سبتمبر يبدو مختلفاً بالنسبة الى الأقلية الفلسطينية في اسرائيل، إذ ان التدخل الأميركي في البلقان كان يصب في مصلحة الأقلية الألبانية في مقدونيا على عكس ما يبدو هنا، إلا انه يمكن القول انه تبدو في الأفق "لحظة تاريخية" للأقلية الفلسطينية مع اقتراب الانتخابات الإسرائيلية. فمشكلة هذه الأقلية، التي تعتبر مسلمة جداً بالمقارنة مع التمييز البنيوي ضدها، انها كانت تعبر عن احتجاجها بمقاطعة الانتخابات وهو ما كان يصب في مصلحة الطرف المسؤول عن هذا التمييز البنيوي ضدها. ففي الانتخابات الأخيرة انخفضت نسبة المشاركة لهذه الأقلية الى 18 في المئة فقط، إذ لم يعد التمييز وارداً بين باراك وشارون، ولكن الأمر الآن مختلف. ففي الوضع الحالي/ المتوقع للكنيست القادم، ونتيجة لتشتيت الأصوات على الأحزاب المتنافسة، يمكن لهذه الأقلية مع مشاركة متواضعة تتجاوز 50 في المئة ان توصل 15 نائباً الى الكنيست. اما اذا كانت المشاركة اكثر من ذلك ويجب ان تكون في مثل هذه "اللحظة التاريخية" فيمكن ان توصل حوالى عشرين نائباً الى الكنيست. وإن كان العدد 15 نائباً فإن الكتلة ستكون مهمة في الكنيست القادم الذي ستتأثر فيه الكتل الأخرى بحسب التوقعات الحالية. في مثل هذا الوضع، وكما حصل في مقدونيا بعد الانتخابات الأخيرة، يبرز بعض الأمل في تحالف هذه الأقلية/ الكتلة في الكنيست مع اليسار لإسقاط اليمين الشرس الذي لم يستعرض كل ما لديه، ويجعلها تشارك بالفعل في تحديد صورة اسرائيل خلال السنوات القادمة. مثل هذا الانعطاف يمكن ان ينعكس بطبيعة الحال على المفاوضات الإسرائيلية مع السلطة الفلسطينية التي يمكن، مع بعض التفاؤل ان تؤدي الى نتيجة ما. في لحظة ما في ربيع - صيف 2001 كان يبدو ان الأقلية الألبانية في مقدونيا تمسك بمفتاح التشاؤم - التفاؤل، يبدو الآن ان الأقلية الفلسطينية في اسرائيل تتمسك بمثل ذلك. * كاتب كوسوفي - سوري. والنص مقاطع من ورقة بعنوان "اسرائيل من زاوية نظر بلقانية: السيناريو المقدوني" قدمت الى المؤتمر السنوي السادس عشر لمركز البحوث والدراسات السياسية في جامعة القاهرة الذي عقد خلال 28- 31/12/2002 في عنوان "اسرائيل من الداخل: خريطة الواقع وسيناريوات المستقبل".