"اشتقنا للأيام السعيدة، أيام السهر عالطريق، عجقة سير ومشاوير بعيدة، ونتلاقى بالمطعم العتيق... يا هوا بيروت يا هوا الايام...". "هوا بيروت" هذه المرة ليس أغنية لفيروز انما فيلم سينمائي للمخرج اللبناني فؤاد عليوان، يرصد فيه لبنان بتفاصيله ويتلمس هواءه، لبنان الذي نسمعه جنة في أغاني مطربيه، نراه اليوم بصدق على الشاشة الكبيرة وربما نستنشق هواءه الملوث الخانق المحمل بالأتربة والأوساخ التي تشوه مستنشقها، هذا هو جو بيروت اليوم مجسداً على حقيقته عارياً في فيلم "هوا بيروت". قصة محام يحكي الفيلم قصة محام نشيط مفعم بالحياة والبساطة والطيبة، يقلب الهواء الخماسيني القوي حياته الى مأساة ويحوله في النهاية الى رجل قاسي الملامح، ناقم وغضب. بينما هو يغتسل، يفتح الهواء شباك حمّامه بقوة فيقفل الباب ويبقى الرجل عالقاً في الداخل على رغم محاولات الصراخ والاستجداء. كان يستحم قبل حضور صديقته عفاف لزيارته، وحين حضرت لم تسمع استغاثته وذهبت غاضبة. كذلك الجارة التي تبادله النظرات يومياً، تتفقده فلا تسمع صوتاً. ينتبه الى وجود الهاتف النقال معه، يتصل بالسكرتيرة في مكان عمله ويحاول عبثاً افهامها ويفشل فتقفل الخط في وجهه. وبعد يأس طويل يقرر الخروج من النافذة التي دخل منها الهواء. يلتف بالمنشفة ويتسلق بخوف ليصل الى شرفة جارته التي تخاف عريه فتمتنع عن فتح الباب وتهرب، بينما يرتبك هو ويعود الى التسلق. تسقط المنشفة ليصبح عارياً تماماً، يستهجن الجميع منظره ويبدأون بالتجمع، تأتي الصحافة لتصور، والشرطة لتحاصر المكان، وطبيب الامراض النفسية والممرضة... كما تنقل المذيعة هذا الحدث الغريب وتصوره بعدما كانت في بداية الفيلم حاضرة لتصوير ريبورتاج عن الأبنية القديمة والأثرية في هذه المنطقة التي ستعنى الدولة بترميمها. تمسك الشرطة به وتقوم الممرضة بتخديره وسط الجموع، وأثناء التخدير يبدأ الحلم، أوراق جرائد تتساقط على لافتته في الحي - كونه محامياً على رغم عجزه عن الدفاع عن نفسه - وتملأ المكان، الجميع صديقته عفاف، الجيران، السكرتيرة، الطبيب... يظهرون بهيآتهم الحقيقية بحسب تخيله، شبه عراة، أقرب الى العهر في ملامحهم وتصرفاتهم... يرمقهم بحقد شديد آخذاً "بدلة" من على الكرسي ليرتديها ويخرج مقفلاً الباب عليهم، متحولاً الى رجل شرير يملأه الحقد والنقمة والتحدي، ربما، بعد ان تبادل الأدوار معهم وأصبح شبيهاً لهم. بين الوهم والحقيقة اذاً، بدأ المخرج فيلمه انطلاقاً من الواقع وأنهاه بالحلم، دمج بينهما لنشكك في حقيقة الفيلم كاملاً، ربما هو حلم منذ البداية... وربما كان واقعاً ويأتي الاحساس بالحلم من حركة الكاميرا وتوجه الممثلين نحوها... ومن الموسيقى الحالمة... ولقاء الرجل بالجارة على درج البناء وكأنه ضرب من الخيال. هذا الحلم يغذيه خيال المخرج، على رغم شططه أحياناً والاستفاضة بعرض فكرة جريئة ومبدعة خدمها بتركيب أحداث عدة تدعمها، أراد ان يرينا كيفية انقلاب شخص كهذا نتيجة ظروف محيطة وتلوث يعم بيروت على الصعد كافة، اجتماعية، دينية، أخلاقية.... لكن هل ما عرض كان كافياً لأيصال رجل مثله الى تلك الحال وجعله ينقلب ويتحوّل؟ هذا الحلم الذي عرّى الجميع هو الواقع فعلياً بعدما حمّله المخرج صبغة جنسية واضحة سحبت على الفيلم كاملاً بتلميحات ودلالات عدة نتلمسها لدى الشخصيات أولاً، لا لظهور الرجل عارياً بل لجملة تفاصيل ابتداء من حال الإعجاب والرغبة المتبادلة بينه وبين جارته، حضور عفاف الى منزله، شكل السكرتيرة وطريقة حديثها، العلاقة بين الطبيب والممرضة... كما نجدها في استخدام المخرج للمادة ودلالاتها كالجسد العاري وعلاقته بالمياه ذات الايحاءات الجنسية... وفي النهاية حلمه الذي يسم الجميع بالعهر، وربما بالشذوذ الجنسي لدى احداهن... ما يهمنا حقاً من هذا الطرح هو غاية المخرج، هل أراد تجسيد بيروت من خلال شخوص كهؤلاء، قائلاً ان ما نراه هو المجتمع اللبناني على حقيقته بعد ان تعرّى وخلع الأقنعة؟ لعبة الأقنعة هذه الأقنعة التي يختبئ وراءها الجميع السكرتيرة بشعرها ورموشها المستعارة، الجارة بشهوتها المكبوتة المخفية وراء العفوية والمصادفة، جارة أخرى تصلي دوماً للمسيح وفي داخلها ميل الى الشذوذ الجنسي، طبيب نفسي معلق بسلسلة كلب تجره الممرضة... هي أقنعة تخفي حقيقة تفكيرهم، الجسد وحده داخل أدمغتهم ينقادون اليه في أعماقهم ويحاولون تجميله طوال الوقت، لكن عند ظهور جسد عارٍ أمامهم على حقيقته. يرفضونه وينعتونه بالجنون أو انعدام الأخلاق... لكنه بصدقه يفوقهم ويسمو عليهم، لذا نرى في الفيلم مستويين دائماً فوق - تحت هو فوق على رغم وعورة حفاظه على توازنه، وهم في الأسفل، وفي النهاية عند تحوله يتساوون على المستوى نفسه. هذا الاختلاف الداخلي والخارجي أدى الى عدم تواصل خيّم على الفيلم دعمته الظروف المحيطة، اذ لا نجد حواراً على الاطلاق، عدا حديث الجارتين، كل واحدة على شرفة، عن الطقس، كأي اثنين لا يجدان حديثاً مشتركاً للتواصل فيتكلمان عن الجو، وتأتي هنا جملة معبرة عن حال احداهما "متل هالطقس" موضحة انعكاس جو لبنان على أفراده...إضافة الى رنة الهاتف في البداية من دون مجيب لعدم سماع الرجل لها، وعفاف التي لا تجده لتتواصل معه وعند اتصالها به تجد الخط مقفلاً، كذلك هو، إذ لا يستطيع التواصل مع السكرتيرة لعدم فهمها وإقفالها الخط... وعجزه عن شرح الموقف للشرطة... لا ينفي عدم التواصل هذا، الحال الصدامية والمواجهة الموجودة في الفيلم والتي تتصاعد بغضبها. الجميع يتوجه بغضب نحو الكاميرا وكأن الممثلين في حال صدام معنا ويأخذون موقفاً منا كمتفرجين وربما متلصلصين مثل الجارة وعفاف والرجل نفسه في النهاية ينظر الى الكاميرا بحنق... وهنا نعود لاستخدام المخرج للكاميرا التي توحي بهذه الصدامية، وبرقابتنا الدائمة من خلال عين المخرج الحاضرة كرقيب، بالتقاطه معظم المشاهد من فوق وكأن عين الله ترى ما يحدث وربما أعيننا تراقب بعد ان أشركها المخرج وجعلها داخل الفيلم. هذه العين تتجه للتركيز على التفاصيل شباك، باب، هاتف، انارة شارع... موضحة من خلالها حقيقة المكان المهترئ من الداخل والخارج، بيوت قديمة تتداعى وفي الداخل نفوس مهترئة، الأعمى فقط لا يرى ما يحدث حوله وبالتالي يعيش ويأكل في سكون وسلام. اضافة الى وجود كاميرا اخرى للمذيعة التي تعنى بالخارج فقط وتصور الحادثة بسطحيتها بينما يدخل المخرج بكاميراه الى العمق أكثر... هذا الانتقال من العام الى الخاص سحب على كامل الفيلم شكلاً ومضموناً الهواء المحمّل بالأتربة، الأبنية، الحمام، الباب، الشباك... عاكساً بالصورة الاهتراء والمرض النفسي والاجتماعي من خلال اللون الميال الى الصفرة دوماً وبرودة الأمكنة والوجوه، حتى الهواء مصفر ومملوء بالغبار. على رغم حضورنا الدائم في الفيلم نشعر بوجود حاجز بيننا وبينه، ربما لرقابتنا على ما يحدث على رغم حديثه عن حياتنا ومعاناتنا... وربما لشعورنا لوهلة بأن الفيلم فكرة جاهزة ركبت أحداثها، وربما الإرجاع الذي يسببه الفيلم لأفلام أخرى أهمها "جدار برلين"، وتحديداً في مشهد التخدير بالإبرة ورقص الفتيات وتحوله الى ناقم وعلاقة الذكر بالأنثى... على كل، الأفكار ليست حكراً على أحد، ما يهم هو كيفية استخدامها وطرق الطرح والمعالجة، فهل نجح فؤاد عليوان في ذلك؟ هذا الحلم البريء بواقعيته هل قام بتعرية الواقع وكشفه، وكان دافعاً لنعري أنفسنا؟ "رجعت على بيتي، ما لقيتو لبيتي، دخان وزوايا لا ورد ولا زهور، عم بيروحو متل رفوف السنونو تحت نجوم الليل مشردين، قولك الأصحاب وين بيكونو، وين بيكون الدمع والحنين. يا هوا بيروت يا هوا الايام... رجعي يا بيروت بترجع الإيام". هذا كان رجاء فيروز، فما هو رجاء المخرج وهل يلامس رجاءنا؟