تعد الامبراطورية التركية الإسلامية التي حكمها العثمانيون وامتد عمرها الى مئات السنين وسيطرت على قطاع عريض من الأراضي في غرب آسيا وشمال افريقيا وشرق اوروبا اضخم امبراطورية شهدها العصران الوسيط والحديث. وعندما انتهت الحرب العالمية الأولى عام 1918 سقطت الامبراطورية العثمانية، وتقاسم الغرب المنتصر تركة الرجل المريض كما كانوا يسمونها، ونشأت الدول المتعددة في ممتلكات الدولة المنهارة. واستعمرت بريطانيا وفرنسا هذه الدول الجديدة. وأصبحت بريطانيا بالذات اكبر امبراطورية استعمارية في العالم في النصف الأول من القرن العشرين حتى قيل عنها، إنها "الامبراطورية التي لا تغيب عن مستعمراتها الشمس". ولاتساع اقطار هذه الامبراطورية الممتدة عبر القارات وتعددها أسست لها الدولة البريطانية وزارة خاصة اسمتها "وزارة المستعمرات"، وعينت لها وزيراً خاصاً. وما أصاب جميع الامبراطوريات والدول الاستعمارية، الصغيرة منها والكبيرة على حد سواء، هو ما سيصيب الامبراطورية الأميركية، صاحبة التأثير البالغ والسيادة شبه المطلقة على العالم في هذه الأيام. لقد وصلت هذه الامبراطورية الى اوج قوتها، وبلغت هذه القوة حداً لم تبلغه اي من الامبراطوريات والدول الاستعمارية السابقة. ولمّا كان لكلّ صعود هبوط، ولكل شباب شيخوخة، وهي الفطرة التي فطر الله عليها الكائنات، والسنن التي استنّها للمخلوقات، والقوانين التي حكّمها في مسيرة الزمان والمكان والسكان، فلا مناص اذاً من تطبيق هذه السنن والقوانين والنواميس على الامبراطورية الأميركية الحالية. ونحن نعتقد على وجه جازم بأن نهاية هذه الامبراطورية المتفرّدة ستكون في منطقة الشرق الأوسط، إذا اقدمت فعلاً على شن حرب على دول هذه المنطقة. فالحرب هنا ستكون اشد وطأة من حرب فيتنام. والعرب ليسوا كأهل بناما، وشعوب هذه المنطقة اقوى شكيمة من الشعوب الأخرى المعادية لأميركا في انحاء العالم. والتضحية الجهادية لا تتوافر في اي مكان على الأرض على النحو، وبالمقدار الذي تتوافر به في الشرق الإسلامي. والجغرافيا في بلداننا، وما تنطوي عليه من المقدسات تخلو منها الجغرافيا في الولاياتالمتحدة. والموزاييكا الديموغرافية لمجموعات المستوطنين الطارئين على الأرض الأميركية التي اكتُشفت في عهد ليس ببعيد، لا تشبه بحال التركيبة السكانية العريقة الضاربة في اعماق التاريخ لشعوب بلدان الشرق الأوسط. وسيكولوجية شعب مستورد تجمع افراده الثروة المالية والقوة المادية فقط، ليست قطعاً مثل سيكولوجية شعوب الشرق الإسلامي الموسومة بالانسجام، والموصوفة بالتوافق بسبب القوة الروحية التي تجمعها، وعمق الارتباط بالعقيدة والأوطان في اطار من التاريخ القديم المشترك المستقر والمستمر بتوالٍ رتيب في حلقات متلاحقة لا نتوء فيها ولا شذوذ ولا انفصال في الأعمّ الغالب من الأحوال. لو قررت الولاياتالمتحدة الدخول في مغامرة غزو الشرق الأوسط، لتنفيذ مآربها فيه، فسيكون هذا بداية انفراط عقد ولاياتها ونشوء دول جديدة بقدر عدد هذه الولايات. وستعم هذه الدول الجديدة موجات من الترحيل المتبادل بين شعوبها بحثاً عن تجانس جديد يجمع شعب كل دولة منها على حدة، ويعيده الى اصله الذي وفد منه. ويؤطر في الوقت نفسه، لعلاقات جديدة بين هذه الدول المستقلة. قد تكون لحمة بعضها الانسجام، وسدى بعضها الآخر الخصام .... وفي هذه اللحظة تماماً، لحظة الغزو، تبدأ اسرائيل في الانهيار، وتبدأ تناقضات سكانها في الظهور الحاد باستمرار. حينئذ سيواجهون مصيرهم المحتوم. فحياة اسرائيل وقوتها مرتبطان ارتباطاً عضوياً بحياة الولاياتالمتحدة وقوتها ايجاباً وسلباً. والتركيبة في المجتمع الإسرائيلي تشبه بالكامل مثيلتها في اميركا، والوافدون المقامرون هنا كالمهاجرين المغامرين هناك. والمذابح التي قام بها كل فريق لسكان البلاد الأصليين متماثلة، وتأسيس الولاياتالمتحدة وإسرائيل وزوالهما متطابقاً في البداية والنهاية. هذا هو منطق التاريخ، وهذه هي سنة الحياة، ولن نجد لهما تبديلاً. الرياض - د.عبدالكريم محمد الأسعد استاذ سابق في جامعة الملك سعود