كثيراً ما تعلو ابتسامةٌ محيّاة وهو يسير وحده متمسِحاً بحيطان المدينة الصغيرة القابعة على المحيط الأطلسي، بمنازلها البيض ذات الطراز الأندلسي والمعمار البسيط. معظم السكان يعرفونه" أسرته متجذرة في المدينة، مشتهرة بالدماثة والطيبوبة، وهو أستاذ في إحدى الثانويات ويؤلف قطعاً موسيقية لا يعزفها سوى لفئةٍ محدودة من أصدقائه، خصوصاً لأولئك الذين يَفِدُونَ، خلال الصيف، من العاصمة ومراكش وفاس... لكنه، وهو يبتسمُ مع نفسه، يحاول أن يعثر على تفسير لهذه الوضعية التي يعيشها منذ خمس وعشرين سنة. يبتسم ويتساءل: لا أحد يعرف حقيقة ما أعيشه على رغم أنني أبدو عادياً، متزوجاً، لي طفل وأتردد على المدرسة بانتظام ولا أُزعج أحداً... ثم هل يُجدي أن أسترجع مساري لأقف على ما جعلني أعيش مُوزّعاً بين امرأة هناك في أنفير Anvers على حدود بحر الشمال، وزوجة وطفل هنا على حدود المحيط؟ لعلّ ابتسامتي الدائمة دليل عجزي عن الفهم. ما الذي يُسعفُني على أن أحافظ على توازُني كل يوم؟ ثم هل يتعلّق الأمر حقّاً بتوزُّعي بين مرأتين؟... مع شانطال، كان حين ينظر الى الأشياء والناس يُحس أن كلَّ ما ينظر اليه ينضح بالحضور فيُحسُّه قائماً في امتلاءٍ يُشبه الاكتمال. هل هو وجودها الذي يضفي على ما حوله ملموسيةً وماديّة ناطقتين؟ أم هي حال عجائبية تتولَّد من كيمياء مُتفرّدة تستعصي على عقله؟ بعيداً عنها، كان عندما تُحاصره الكآبة والرتابة، يُغمض عينيْه ليسترجع الطفولة المستكِنَّة تحت جفنيْه. عندئذ يستشعر طمأنينة وتتسلَّل الى جوانحه نسائم طريّة يستنشق عبرها عطراً يُبدّد ما كان يجثم على نفسه. في أيّ شيء يُجدي أن نستعيد مراحل حياتنا؟ كان مُنغرساً وسط عائلته ومدينته. كان يُخيّل اليه أنه لو غادر ذلك الفضاء لانشلَّ وتبعثرت طاقته. لم يكن مندمجاً بالمعنى المعتاد، لأن مسافةً ما كانت تفصله عمَّن حوله، لكن وجودهم وإيقاع حياتهم هو ما يخلق بأعماقه تلك الاندفاعات التي تسعفه على إبداع نغمات ومقطوعات يدخرها ليتقاسمها مع الأصفياء الذين يتذوقون موسيقاه ويحبّون غربته التي يقاومها بالإبداع. من حين لآخر، خلال شتاء المدينة الطويل، تعصفُ به نزواتٌ فيُقبل على الشرب ويبحث عن المتعة العابرة" لكنه سرعان ما يُعاود ايقاعه المعهود اللاهث وراء ملامح ذلك المطلق الذي عششَ بأعماقه منذ أن أخذ يعي انفصام السريرة عن ظواهر العالم. كل ذلك يبدو، الآن، بعيداً موغلاً في قدامة لا يتبيَّن لما بدءاً. هل هي طفولته التي أمضاها قريباً من البحر؟ هل هي العزلة التي بدأ يستلذّها عندما أمضى، إبَّانَ مراهقته، ستة أشهر في مستشفى "ابن أحمد" ليتعالج من داء السلّ؟ أم لعلها تلك النصوص التي اكتشفها وقرأها مع زملاء له خلال سنتيْن أمضاهما في كلية الآداب في مدينة فاس؟ لا يُرجح سبباً على آخر. أشياء كثيرة تنثال على خاطره فيستسلم للتذكّر قليلاً قبل أن ينتقل الى محطة أخرى من شريط الذاكرة. إِنه لا ينسى ما تبقَّى لديه من زيارته لإسبانيا وفرنسا مطلع السبعينات. كان مفتوناً بالمتاحف والمسارح وحفلات الموسيقى... كل شيء، كل ما اختزنته ذاكرته يتراكب طبقاتٍ طبقاتٍ، فيعود الى الاحتماء بابتسامته. ذات صيف، التقى شانطال التي جاءت لقضاء العطلة في مدينته. لم يكن يُخمّن ما وراء وجهها الأبيض المستطيل وعينيها السوداوين، وشعرها المرسل على كتفيها في لا مبالاة، وسروال جينز يُبرز رشاقة الجِذْع، ونظراتها المتفحّصة... لم يتعاهدا على شيء. انتهت عطلتها فودَّعته راجية منه أن يزورها في مدينتها، ووعدته بأنها ستكاتبه وستحادثه في الهاتف كلما اشتاقت اليه. أراد أن يُقنع نفسه بأن ما عاشه مع شانطال مغامرة مختلفة، لكنها يجب أن تنتهي بانتهاء العطلة. حاول أن يستأنف حياته المعتادة، إلاَّ أن رسالتها الأولى ثم مُكالمتها نبَّهتاهُ الى أَن كيانه الداخلي أصبح على غير ما كان عليه. إنه يحتاج الى حُقَنٍ شانطالية ليُصالح نفسه ويصالح العالم. كيف يتصرَّف؟ قرر أَن يردّ على رسائلها وأن يهاتفها كلما أحسَّ أنه محتاج الى سماع صوتها المتأنّي، الواثق، الذي يُلوِّن الأشياء ويُكسبها كثافةً مقنعة. وعقب كل مكالمة يغمره الرَّوْق والانتشاء. أخذ يقتنع بأنهما لا يستطيعان أن يعيشا مفترقيْن. ثم أَخذ يُقنع نفسه بأن الرسائل والمكالمات تُعوضانه عن الفراق في انتظار أن تأتي هي خلال العطلة أو يزورها هو في أنفير. زاد إقباله على تأليف مقطوعات موسيقية تنفلت عن إطاره السابق. والبرزخ بينه وبين ما حَوْله يتباعد. يُتابع ما يجري من أحداث في البلاد، ويُنصت إلى أُمّه، بل ويتناجى معها، لكن الهوَّة الفاصلة له عن العالم تتسع. تضاعفت خلواتُه واستيهاماته التي تُقربه من شانطال. وأدركت أمه أن زائرة الصيف لم تكن سحابة عابرة وأن ابنها جرفته رياح الشمال. وبدأَ ضغطُ العائلة لاقناعه بالزواج. ذكروه بالعاطفة التي كان يُعرب عنها لابنة عمّه سهام وأنها على رغم تخرجها في معهد الفنون التطبيقية لا تزال تنتظره. قاومَ زمناً ثم أَدرك أنه يؤثر لعلاقته بشانطال أَن تظل كما عاشاها الى الآن: لا يقوى على الابتعاد عن فضائه ولا أن يجعلها دخيلةً على أُسرته. وتذكّر أنه لا يعرف عن حياتها تفاصيل أساسية. كانت أخبرته، عرضاً، انها تعيش في بيت ورثته عن والدها الذي كان يُتاجر في الكونغو بالماس والأحجار الكريمة، وهي متفرغة للرسم وزيارة الكنائس الغُوطية والقصور القديمة في أوروبا... ما كان يملأ مُحادثاتهما ورسائلهما لا علاقةَ له بالمسائل اليومية التي تشغل بالَ الناس... تعود على هذا النوع من الحياة: يعيش في بلدته بجسده وعقله، ويعيش بمخيلته في أنفير من خلال رسائل شانطال ومكالماتها. كان يدرك أَن ما يعيشه لا يستند إلى منطق، إلاَّ أنه كان يشعر بالارتياح... وزاد الضغط العائلي ولم يعد يعرف كيف يتملَّص منه. في أي شيء تُجدي مقاومة ضغط العائلة؟ عندما أخبر شانطال أنه تزوّج سهام وأنه ينتظر طفلاً بعد ثلاثة أشهر، كتبت اليه تقول: "يظهر انك محتاج الى أن تُجرب الأبوة؟ لا بأس. آمل أن تجد فيها ما يمتع". واستمرت علاقتهما كما كانت، إلا أنه رجَاها ان تكاتبه على عنوان أحد الأصدقاء، وألاَّ تهاتفه في البيت، بل هو الذي يُخابرها كلما استطاع. لا يكاد يصدق أنه أصبح زوجاً رقيقاً وأباً حنوناً يناغي ابنه ويستجيب لبكائه في الليل فيقدم له مِمَصَّةَ الرضاع... أُسرتُه مسرورة لزواجه، وهو يواظب على المعهد الذي يُدرّس به، ويتابع التأليف، وفي الآن نفسه يقرأ رسائل شانطال ويُهاتِفها مرة في الشهر، ولا يفتأُ يستعيد ذكرياته معها. يذكر ليلةً أمضياها على شاطئ البحر أثناء زيارتها الثانية. تحدّثا طويلاً بصوت هادئ، إلاّ أن الكلمات سرعان ما كانت تَنِزُّ بالحرارة والشهوة. وكلما تعطَّل اللسان تشابَك الجسدان. وقد يَغفوان إلاَّ أن أحدهما يهمس بكلمات متسللة من منطقةٍ بين اليقظة والمنام، فتلتقطها أُذُنا مَنْ يغفو والحوار لا يكاد ينقطع إلى أن غمرتهما أشعةُ الشمس وهما في يقظتهما النائمة. تلك لحظات باقية. ربما هي التي تسندهُ في مساره هذا غير العادي بين امرأَتين، بين حاضر ارتضاه وزمن محتمل يتخايلُ له ويشتهيه باستمرار. "متى تأتي؟" كلما هاتفها ختمت محادثتهما بهذا السؤال. لا يقدر على الإجابة. لم يعد يجد جدوى في تذكيرها بوضعيته العائلية وبأَن ما بينهما لا يُبدّدهُ البِعاد. يسكت. يسرح ذهنه مع كلماتها المتسائلة التي تحفر في أَعماقه رغبةً جارفة تستحثُّه لأن يستجيب لندائها. كأنّ تلك المكالمات والرسائل المجبولة من طينةٍ أخرى، غدت مضاءةً يستظلّ بها من مألوف حياته ويستحضرها حين يختلي بالكمان ليلاحق نكهةَ أيامٍ آتية ما فتئ يحلم بها كلما تحدث الى شانطال عبر أسلاك الهاتف. ذات مرة، أمضى ثلاثة أشهر من دون أن يتّصل بها. وعندما خابرها حكت له عن حلم رأت فيه أنهما التقيا في فندق "اللوتس" في المقاطعة الخامسة الذي اعتادت أن تنزل به كلما زارت باريس، وأنه في اليوم الثاني غادر الغرفة وهي نائمة وسافر من غير أن يودعها! قال لها انه لا يستطيع ان يفعل ذلك حتّى في المنام... وعندما سألته عن سبب انقطاع مكالماته، قال انني كنت أحس نفسي زهرة ذات رائحة مختلفة بعد لقائنا ذلك الصيف، لكنني الآن مجرد نبتةٍ تختنق وسط دغل أثيث ولا أملك سوى أن أَتألم، أتطلع الى دفء الربيع لكنني دائماً أدفن رغباتي وأستعيض عنها بالأحلام. مرَّت الأيام موشاة بتلك الحوارات التي تضيء سريرته وتمنحه قدرةً على الاحتمال. وكلما تعاقبت الأيام توغّل في نسيج بينلوب المنسوج من الرسائل والمكالمات. وعند نهاية كل محادثة تؤكد له أنها تنتظر أن يُلبي دعوتها. تقول ذلك بوثوقٍ وطُولِ بال. أعرف أنك ستدقّ بابي ذات ليلة أوْ نهار، لنستأْنف كلامنا، أقصد حكايتنا التي بدأت ذلك الصيف. ما جدوى أن يُرتب في ذاكرته ما تراكم وتشابك؟ وهو يمشي الآن مُتمسحاً بالجدران، محتمياً بابتسامته البلهاء، يحس كأن خمساً وعشرين سنة لم تمرّ منذ تعرَّف إلى شانطال. هل هي الحبال القوية التي تشدُّه اليها عبر الرسائل والمكالمات؟ أم هو ذلك الشيء اللامعقول الذي شبك الجسدين والروحين بأسلاك كهرباء غير مرئية؟ كلما حدَّثها أحسَّ أن ثقوب العالم تلتئم وأن الظّاهر المبعثَر يعود متناسقاً الى مسالك السريرة. يحسُّ فعلاً أن الفُقدان يتلاشى، وأن أنغاماً غير مسبوقة تتبرعمُ في شعوره. يردد مع نفسه: عليَّ أن أسير على هذه الحافة الى نهايتها. لا أستطيع أن أتوقف. لا أجد شيئاً آخر يعوضني عن الحلم بتلك الأيام الآتية. حين يستبدّ به الشوق، يفكر انه ذات يوم، بعد أن يبلغ سبعين سنة ويكبر ابنُه، سيطلب من سهام أن تسمح له بأن يُمضي سنةً هناك في أنفير مع شانطال. ولِمَ لا؟ تغمره ابتسامته ويتخيل نفسه وهو يستأنف معها المحادثات التي بدأت منذ ذلك الصيف مُتدفقة كاشفة لكل ما يتوارى خلف الكلمات. يتخيَّل أنه سيعزف طوال النهار فيما هي ترسم أو تخرج لقضاء أغراضها... وفي أيام الدفء، يرافقها في جولاتها عبر الكنائس والقصور القديمة، أو يصطحبها الى زيارة بيت الرسام روبنس الذي تحب لوحاته وتفتخر بانتمائه الى مدينتها. الآن، يتابع جولاته في بلدته الصغيرة مُتمسحاً بالجدران، ويعيش مُوزعاً بين زوجته وابنه، وبين الرسائل والمكالمات من دون أن يتوقف عن الحلم بأَيام آتية تُنقذه من هوجة الشوق ولوعة الانتظار. "متى تأتي؟". عندما ستسأله هذه المرة، عبر الأسلاك، لن يلجأ الى السكوت. سيقول إن ذلك قريب. سيُردِّد ذلك بوثوق وبصوت عالٍ ليُوحي لنفسه بأن حافةَ الجنون تَبتعد وبأن ظلمةَ الليل تنطوي على ضوءٍ ما.