كنت سجيناً في محراب اللحظة الوجودية. التقينا على حدود الواحة الخضراء، حيث النهر. لم أشعر بالغربة. كأن شيئاً يتدفق داخلي. براعم تتفتح وأشجار تنهض برائحتها الذكية. فينبض قلبي سنابل قمح. وعندما شبكت يدي بيدها، كان الوطن يمشط غدائره. زغرد النهر، وتزاحمت على حوافه قوافل الشهداء. يبسم الزهر. والشمس ترسم حلماً للأرض الحبلى بالسنديان. فينساب دمي بين الأعشاب دافئاً، عطراً. واهتزت الأغصان طرباً بإيقاع النهر، فتساقطت الثمار رطبةً في واحة العمر. فرشت لها ما تبقى من عمر، رَوضنا الخريف، وتلاصقنا. كأنني الزهرة التي أنعشها الندى. وفي هذه اللحظة التي أقف في وسطها، في بؤرة الضوء هذه، الحقيقة. فلا داعي لأن ترحل الى البعيد كي تعرف العالم. ففي موشور الذات يرتسم العالم، وتأتيك أطرافه البعيدة، لتنعكس على صفحة الوجود الإنساني، ولا تستقر في معادلة النظر. لوحة من التحدي تهتز أمامك، وتعبر إليك في أعماقك القصية، الى آخر جزء من كيانك، لتجعلك تضطرب وتهتز كشجرة تعصف بها رياحٌ عاتية. الأمر الذي يجعل من الجدار الأصم الأبكم معادياً شرساً حيناً، وودوداً طيباً حيناً آخر. والأرض التي تمتد بارتياح ورضى وهدوء بال، تعود باضطراب وفوضى وجلبة وحركية عالية حيناً آخر. أنساق وأنساق لا تعد تنفتح أمامك، تلتف متعرجة تتقاطع وتتشابك مكوّنة لوحة عصية على التمييز ما بين شرق وغرب، ويمين ويسار. السطور تتراصف، تتداخل، ترهج أمامك، تعبر اليك كسراب ينفذ متراقصاً الى رأسك الدائر في فلك لا نهاية له. غصة ثقيلة تهرس جمجمتك وترهق أعصابك، كموجة عالية تعصف بما تبقى من حطام روحك المهترئ، المتآكل، من جري مسعور ألمَّ بك مذ وقعت عيناك على وهج الكواكب المتألقة البعيدة. أو تناهى الى سمعك صدى عزفٍ ناءٍ يرجع في كل مكان، ولا يقود الى أي مكان. أتعبني السفر الطويل على سكة الورق، على سلالم السطور المنزالة التي طالما ركضت فوقها الى الشرق والغرب، وفي كل الاتجاهات، ولم أصل الى مكان. أمد الخيوط، أمد الجسور، وأقيم بنياناً إثر بنيان، وتبقى الأرض مزلزلة ومهددة بالسقوط. على الباب يقف الآن قمرٌ كبير يتمايل يمنة ويسرة، قمر يضيء بوجه تام الضياء، قمرٌ توحي هيئته بأنه قادم لاحتفال ما. وعلى مبعدة من المكان، في موقع ناءٍ قليلاً، كانت الشمس هي الأخرى تتلألأ كقرص مزركش بجمهرة من الألوان. شمس ولكن بثوب جديد لعيد ما، لميلاد ما. وعلى ورقي الأبيض تستيقظ بضع قطرات من دمٍ حارٍ وطري ما زالت تتنفس رائحة الولادة الطازجة. حماه - علي محمود خضور