أنهت القمة الخليجية ال23 أعمالها في 22 الشهر الماضي ببيان ختامي يعبر عن مواقف التجمع الخليجي تجاه عدد من القضايا الاقليمية والدولية. وابتداءً، من المفيد التذكير بأن عملية اتخاذ القرارات الخارجية داخل أي دولة تحكمها مجموعة معقدة من الاعتبارات والمصالح والحسابات. ومن هنا فإن التوفيق بين مواقف مجموعة من الدول داخل تجمع إقليمي كمجلس التعاون الخليجي لم يتوصل بعد الى سياسة خارجية أو دفاعية موحدة، ليس أمراً سهلاً، في ضوء طبيعة هذا المجلس ومفهومه القائم على التعاون الرضائي/ الاختياري. ولعل ما يزيد تعقيد هذه المهمة أن غالبية القضايا الاقليمية والعربية تم تداولها وأصبح لها سقف دولي، ما يحد من مدى حرية الحركة السياسية للكثير من الأطراف الاقليمية المعنية وفي مقدمها دول الخليج العربية. ففي الظروف الاقليمية والدولية، تعاني المنطقة العربية، التي يشكل الخليج جزءاً مهماً منها، منذ غزو العراق للكويت، تصدع بنية نظامها الاقليمي، وانحسار التيار القومي، ما أحدث فراغاً سياسياً، ساعد على الانتعاش السياسي للذاكرة الدينية وما صاحبها من تنشيط للتيارات المتطرفة لملء هذا الفراغ، وسهّل من تحول حدود العالم العربي التي كانت محصنة قومياً، إلى حدود مطاطية يسهل اختراقها والتأثير فيها، بل سعى بعض دول المنطقة إلى توفير ضمانات أمنية خارجية لشعورها المتزايد بعدم توافر مظلة أمنية قومية تحميها عند اللزوم بعد صدمة الغزو العراقي. ثم بدأت المحاولات المترددة لرأب الصدع الذي أصاب النظام العربي، الى أن فاجأتها تداعيات 11 أيلول سبتمبر ودخول دول منطقتنا العربية ضمن دائرة ما يسمى ب"حرب الأعصاب السياسية" والمتمثلة في الضغوط السيكولوجية على مختلف الأطراف العربية التي حملت نفسها طوعاً بأعباء موقف لم تكن طرفاً حقيقياً فيه، إذ لا يعني اتهام بعض رعاياها، أن يمتد تعميم الاتهام على دول المنطقة ووصفها ب"الموبوءة" سياسياً وفكرياً، والدعوة الى وضعها داخل أسوار "الحجر الصحي السياسي" بل ومطالبتها بالإسراع في إدخال اصلاحات سياسية ومفاهيمية، ما جعلها في موقف دفاعي / سلبي عن ادانة مسبقة. وكان نصيب دول الخليج العربية الاكبر من هذه الحملة الشرسة وضغوطها، ودخلت العلاقات الخليجية - الأميركية معها في مرحلة بالغة الحرج والتعقيد. وفي تحليل بعض الفقرات السياسية للبيان الختامي للقمة ان موضوع الأزمة العراقية احتل مرتبة الصدارة في اهتمام القمة ومناقشاتها ومداولاتها فاستنكرت ما سمي برسالة "الاعتذار" العراقية، واعتبرتها تراجعاً عن التزامات العراق تجاه جيرانه والتي أقرتها قمة بيروت العربية. وفي الواقع لم يسهّل هذا النظام مهمة مجلس التعاون أو الراغبين في الدفاع عنه وزاد من ألم الجرح الدامي، على رغم أنه كان في مقدوره إحراج خصومه لو أنه تبنى منهجاً سياسياً مغايراً. وأخذ البعض على النص المتعلق بالعراق تجنبه اتخاذ موقف تجاه الحرب المحتملة ضده. وفي هذا الشأن يُلاحظ أن دول المجلس فضلت على حد قول أمينها العام، التعامل جماعياً "بأسلوب الديبلوماسية الهادئة مع الإدارة الأميركية لإبعاد شبح الحرب عن المنطقة" وهو قول له مبرراته وخلفياته. غير أن مضمون بيان القمة يكشف عن إرادة في عدم الاستسلام للواقع الراهن والمحتمل، ومن جهة أخرى رغبة في عدم السعي الى الصدام مع القطب الأوحد في العالم، والذي لم يشف بعد من الإحساس بشعور الأسد الجريح الراغب في الانتقام، وتحركه إدارة جمهورية يمينية كانت تتربص بالمنطقة حتى ما قبل أحداث 11 أيلول، ويتبين ذلك من ملاحظات ثلاث: الأولى: أن البيان الختامي تضمن عبارة لها دلالتها وهي "أن تمارس فرق التفتيش الدولية مهماتها بموضوعية" أو بمعنى آخر مطالبتها بالابتعاد عن أساليب الاستفزاز غير المبرر. الثانية: ان المواقف الشارحة لبعض المسؤولين الخليجيين أفصحت عن موقف سلبي في مجمله تجاه الحرب المحتملة. من ذلك قول وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل "إن قرار شن الحرب يجب ألا يتخذ كأي قرار عادي، فالأمر على كل حال ليس نزاعاً بين الولاياتالمتحدةوالعراق بل هي مسألة تعني قرارات الأممالمتحدة وتطبيقها من الحكومة العراقية". الثالثة: إعادة تشديد القمة في بيانها على "مواقفها الثابتة من ضرورة احترام استقلال العراق ووحدة أراضيه وعدم التدخل في شؤونه الداخلية". وبقيت نقطة أخرى كانت مسار تساؤل وتحليل من جانب المتابعين للشأن الخليجي والوضع الراهن، وهي تجنب الإشارة الى موقف خليجي موحد في شأن التسهيلات التي ستقدم الى القوات الأميركية في حال حدوث مواجهة عسكرية مع العراق. وكان ذلك أمراً طبيعياً لعدد من الأسباب، في مقدمها: - انها كانت مسألة خلافية بين دول مجلس التعاون وتباينت فيها مواقفهم. فبعضهم رفض إعطاء هذه التسهيلات، أو القبول بذلك ضمناً إذا ما صدر قرار من مجلس الأمن في هذا الشأن، فيما أعلن البعض الآخر تقديم تسهيلات واسعة المدى أحرجت أطرافاً خليجية أخرى. - ان الاستحقاقات التي تطلبها الولاياتالمتحدة من دول مجلس التعاون الخليجي والمنبثقة من مشاركتها الواسعة في حرب تحرير الكويت، لا تترك مجالاً، لدولة كالكويت، لرفض تقديم التسهيلات. - من هنا جاء تفضيل عدم التعرض لهذه المسألة الخلافية في البيان الختامي، باعتبارها شأناً داخلياً يخضع لسيادة كل دولة خليجية من جانب، ومن جانب آخر لم يكن في وسع دول المجلس كمجموعة الوقوف في وجه تهديدات القطب الأوحد. وعبر الشيخ حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني وزير خارجية قطر الدولة المضيفة عن هذا الموقف بصراحة مفرطة حين ذكر في مؤتمره الصحافي "نحن في قطر أو في دول مجلس التعاون لا نقدر على كبح جماح الولاياتالمتحدة. ونحاول بما استطعنا تدارك المشاركة في هذه الحرب، وبعض دول المجلس يقدم التسهيلات الى القوات الأميركية. ونحن في قطر في حاجة إلى وجود قوات أميركية". وهذا التباين في المواقف الخليجية ازاء قضايا حيوية أمر طبيعي ويصعب اتخاذ موقف مشترك حياله وهو ما يفسر لنا الشأن المسكوت عنه ومبرراته. بقيت ملاحظات أخرى على الشق السياسي من البيان تستحق التنويه، أولها انه اكد ادانة العدوان الإسرائيلي المستمر على الشعب الفلسطيني، وعبر عن تأييده للسلطة الفلسطينية وحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة وعاصمتها القدس. واتسم النص المتعلق بالإرهاب بشجاعة التعبير عندما طالب بضرورة التمييز بين الارهاب وحق الشعوب في النضال المشروع لمقاومة الاحتلال. كما خاطب ايران بلغة عقلانية بدعوتها لإدراك المتغيرات وحضها على حل مشكلة الجزر الإماراتية الثلاث سلماً لمصلحة شعوب المنطقة واستقرارها. وفي ما يتعلق بمستوى المشاركة في القمة وما قيل عن ضعف مستوى مشاركة بعض الدول الأعضاء، وأياً كان تأثير ذلك في مواقف القادة الذين تغيبوا، إلا أنه من الملاحظ أنهم جميعاً حرصوا على إيفاد من يمثلهم وتجنبوا اتباع اسلوب "المقعد الخالي"، كالذي حدث في قمم سابقة، لحرص هؤلاء القادة على رابطة مجلس التعاون والإحساس بأن المصير واحد ومشترك من جهة، ومن جهة أخرى فإن العلاقات بين هذه الدول تميل إلى أن تكون "شخصية" أكثر منها "دولية"، وتحسم خلافاتها عادة وفق تقاليد الأسر الخليجية وأعرافها. وفي الجانب الاقتصادي، أصدرت القمة قرارات عدة تتعلق بالمجالات الاقتصادية والنفطية، إلا أنها توجت بإعلان قيام الاتحاد الجمركي الخليجي مطلع سنة 2003. وهو إنجاز مهم في مسيرة التكامل الخليجي، وخطوة اضافية على طريق طويل وصعب لاستكمال مقومات إقامة السوق الخليجية المشتركة في موعد لا يتجاوز سنة 2007. واستكمال الاتحاد الجمركي سيتيح اقامة حائط جمركي خليجي موحد في التعامل مع الغير، سيعزز - من دون شك - من القدرات التفاوضية لدول الخليج العربية كمجموعة ويزيد من إمكان حصولها على اكبر قدر من مزايا التعامل مع التكتلات الاقليمية كالاتحاد الاوروبي وغيره، فضلاً عن انه سيزيد من فرص زيادة حجم التجارة البينية الخليجية وتوسيع قاعدة المصالح الاقتصادية المتبادلة بين شعوب هذه المنطقة، ما سيعزز من إمكانات تحول الرغبة في التكامل الخليجي الى ضرورة وحاجة ملحة، وبالتالي الحرص عليه والعمل على دعمه وتطويره. وبقيت أمام دول مجلس التعاون الخليجي مجموعة من التحديات، لعل في مقدمها ضرورة اجراء حوار سياسي مكثف لتحديد رؤية مشتركة حول عراق المستقبل بعيدة عن الصيغ الشعوبية ذات الأبعاد الطائفية او العرقية، فضلاً عن التوصل الى أنسب السبل لإزالة الترسبات النفسية المتبادلة بين شعوب المنطقة، والتفكير في نموذج للتعاون الاقليمي الأوسع في منطقة الخليج وجوارها الجغرافي، يتيح المجال لفتح صفحة جديدة للتعاون المبني على الندية وتوازن المصالح والأمن المشترك. واذا كان أعلن عن اقامة مكتب اعلامي في واشنطن تابع للأمانة العامة للمجلس، فقد تدعو الحاجة أيضاً إلى اقامة "منتدى للتعاون من أجل دعم السلام والاستقرار الخليجي" الغاية منه أن يصبح "خلية تفكير" لدرس سبل تجنب الحروب مستقبلاً في المنطقة، التي شهدت حربين وتقف على أبواب ثالثة محتملة. وإذا كان بيان قمة الدوحة لم يلبِ طموحات البعض، فإن القمة ادركت بحكمة محدودية الخيارات السياسية المتاحة، فتعاملت مع الوضع الدولي الراهن بواقعية، وتجنبت تجاوزه لعدم توافر القدرة على ذلك في ظل المعطيات الراهنة والصعبة. كاتب ومساعد سابق لوزير الخارجية المصري.