ألا يلفت الانتباه أننا ككتّاب عرب أرسينا تقليداً لم يعد يبدو غريباً لشدة تكرسه وانتشاره. تقليداً يتمثل في أن يكتب الجميع، أو كل واحد عن الموضوع الساخن الراهن مما يجعله مركزاً ومتركزاً، حتى لتبدو الكتابة في موضوع بعيد، بهذا القدر أو ذاك، نابية، وقد تعطي الانطباع بأن كاتبها يعيش في عالم آخر أو على هامش العالم الحقيقي الجدير بالانغمار بشؤونه، أو شأنه الوحيد. وكنتيجة "حتمية!" لهذا التكاتف الكتابي تزدحم صفحات الجرائد والمجلات بتحليلات وآراء وافتراضات واستنتاجات لا تكاد تختلف أو تتمايز، بسبب أن الجميع ينهلون من مصادر الأخبار نفسها، والجميع على القدر نفسه من البعد عن مصادر الأسرار و صنع القرار. كما أن الجميع يخضعون، أو لنقل "يلتزمون" باعتبارات، وان اختلفت من صحيفة إلى أخرى، إلا أنها في النهاية تلجم هذا الجانب أو ذاك من خطاب هذا الكاتب أو ذاك. وعلى ذلك لا يحرجنا الإقرار بأن الكتّاب العرب الذين يؤثّرون ويجمعون القرّاء بقوة خطابهم المبني على دقة مصادرهم ونفاذ بصائرهم وقوة مكاناتهم وخطورة علاقاتهم، نادرون جداً. فلماذا إذاً يهّب الجميع "هبّة رجل واحد" فينكبّون على الموضوع الأشد سخونة دون غيره في مرحلة ما من المراحل؟ - هل تعلن تعبئة متفق عليها بين الناشر والكتّاب؟ - أم أن الكتّاب يصنعون "التعبئة" إذ ينبرون للكتابة في موضوع "المركز لا البؤرة" ضماناً لقوة حضور مقالاتهم لدى الناشر؟ - هل يرى المسؤولون عن النشر أن ذلك ما يريده القارئ وينتظره، أم أن الكتّاب يخشون انصراف القارئ عنهم إن هم كتبوا في موضوعات بعيدة عن الموضوع/ المركز؟ - وهل يخشى الكتّاب أن يُحسبوا عاجزين عن الادلاء بدلوهم في أي شأن يهتم به الجميع باعتباره موضوع الساعة. أم أنهم - في واقع الأمر - يسعون إلى احراز حضور في "ساحة الفعل" كما لو أنهم - بما يكتبون - إنما يساهمون في صنع القرار أو المصير أو الحرب أو السلام… الخ؟ وأفكر بأن الأمر - من ناحية أخرى - يشبه "الفزعة" العشائرية، حيث يتوجب على الفرد أن "يفزع" للمشاركة في كل شأن من شؤون الجماعة تعبيراً عن الوجود المشترك والمصير المشترك. كما أن الأمر غير بعيد عن بقايا تأثيرات الإعلام الموّجه للأنظمة "العقائدية" حيث يتحتم على الكتّاب "تكريس" كتاباتهم لموضوع الساعة الذي تحدد أهميته جهات عليا، تعبيراً عن وحدة الصفوف! على اعتبار أن الجزء لا بد أن يمثل الكل، وأن المواطن حين يجد المثقفين يصطفون صفاً واحداً يدرك أن عليه أن يصنع الشيء نفسه. وفي جميع الأحوال فالأمر على صلة وثيقة بمعايير الفحولة. فالذكر الفحل هو الذكر القاتل الغازي المتحفز، الذي يعارك الهواء إن لم يجد من يعاركه، وعند اللزوم يندفع بلا تلكؤ تعبيراً عن تمام استعداده. ومن لا يكون كذلك فهو "قعود"! جاء في المنجد: "القعيدة" هي المرأة لقعودها في البيت. ومذكرها "القعود" وتصغيره "القُعّيد". ويقال "اتخذوه قُعّيد الحاجات" إذا امتهنوا الرجل في حوائجهم. وفي أفضل الحالات فهو يُترك ليحمي النساء في غياب الرجال بدلالة ذكورته الفسيولوجية، لئلا تحسب النساء أنهن قد تُركن لوحدهن فيفلت زمامهن. أقول لنفسي: ها أنت تستأثرين بالمصطلح والكاتبات يتابرين قفزاً من فوقه. يظهرن من الفحولة ما يجعلهن يمضين كتفاً لكتف مع الرجال. يظهرن التحدي والتصدي ويهزمن الخيول نحو ساحات الوغى تاركات "الحمى" لمن يشاء القعود، أو لمن لا خيار لديه سوى القعود. ولا ألبث حتى أقول لنفسي: لماذا لا تعترفين بالسبب الحقيقي من وراء ضيقك بالأمر. أمر أن يهّب الكتّاب والكاتبات وينبروا للكتابة بما أنت "قاعدة" عن الانشغال به؟!… والله انك لتغارين وتغبطين وتحسدين، ولا ينفعك تصعيد الحسرات وانت تتساءلين: ما الذي أنتِ فيه. تجلسين في "الخضمّ"، تقرأين للآخرين فكأنما بينك وبين ما يصنعون حاجز دهري من مادة تستحيل على كل قوة. ترين انشغالهم حتى الانهيار بما يفترض أن يشغلك انت ويلهيك عن كل ما عداه. لكنك تعوفينهم وتعوفين كل ما يصنعون، تمتشقين أقلامك وأحبارك لتكتبي عن التدخين والاغنيات الهابطة وتاء التأنيث! فما الذي سيقوله الناس عنك: سفيهة! مسرنمة؟ تتعاطى المغيّبات؟ أم تعيش في فقاعة معلقة خارج نطاق الجاذبية؟ تهدهدني نفسي ولا تدعني أفرط في لومها. هيا، هيا. تقول لي. قومي وهبّي هبّة رجل واحد واستعيدي ثقتك بنفسك وداومي على القول إن الكتّاب والكاتبات هم الملومون لإلحاحهم في الكتابة عن قضايا ساخنة كاوية ليثبتوا أنهم فحول فاعلون وليسوا "قواعد". دعيهم يبحّون الحناجر ويستنزفون الأحبار ويبرون أسنّة الأقلام وينظمون عقود الكلام بخيوط من "لعل وربما ومما لا ريب فيه"، فلا يضيرك أنك "قعيدة" وما همّك أن يقول عنك القائلون ذلك أو غيره. فذات يوم لا بد أن ينصفك منصف إذ يشير إلى ما أنت فيه ويقول: "عدس"!