كما أن لنا مشكلة مع التاريخ الذي قلما انتفعنا بعبره، كذلك لنا مشكلة مع الزمن الذي مازلنا نعيش، فكراً وممارسة، خارجه. تشهد على ذلك أرقام ووقائع تقرير برنامج الأممالمتحدة للتنمية البشرية والصندوق العربي للتنمية الاجتماعية الذي أرجو بحرارة أن يقرأه الجميع لاكتشاف السر الذائع: اننا أمة أمية متأخرة في الاقتصاد والسياسة والتعليم والعلم والتكنولوجيا، ومتقدمة في هضم حقوق الإنسان والمرأة والطفل والأقليات. لماذا؟ لأنها عجزت عن إقامة الحداد على كل ما فات ومات من ماضيها، مما جعلها تعيش نفسياً وثقافياً بمفهوم للزمن خارج الزمن الحديث: في الزمن الزراعي. أما "غيرنا" فيحيا في الزمن الصناعي، زمن الثورة الصناعية الثالثة القائمة على التكنولوجيا الجديدة ومجتمع المعرفة. الفرق بين الزمنين نوعي. الزمن الزراعي هو زمن العود الأبدي للفصول وطقوس عبادة الأسلاف، زمن الحنين إلى الماضي، زمن الاتكال على القوى الخارقة للتدخل في التاريخ، زمن ركود الانتاج المادي والفكري. أما الزمن الصناعي فهو الزمن التاريخي، زمن القطيعة مع الماضي الذي اقيم الحداد على كل ما هو ميت ومميت فيه، زمن التراكم المتواصل للمعارف ورأس المال، زمن الاستراتيجيات، زمن المشروعات المجتمعية والرهافات المستقبلية والروح "الفاوستية"، زمن التدخل الواعي في التاريخ لضبط اتجاهاته بالتحكم في تأثيراتها الجانبية بدلاً من إضاعة الوقت في محاربتها اللامجدية والكارثية معاً. كما نفعل نحن مع العولمة وعالم القطب الواحد لما بعد 11/9/2001 مثلاً! لماذا فشلنا طوال قرنين في الخروج من الزمن الدائري، الذي لا تتجه بوصلته إلا إلى الماضي، وفي الدخول في الزمن الخطي المتجه كالسهم إلى المستقبل؟ بسبب اخفاقنا الذريع في إقامة الحداد على حنيننا إلى الماضي، إلى عصرنا الذهبي وأحلام اليقظة المصاحبة له. ما الحداد؟ الألم على فقد عزيز سواء كان بشراً أو وطناً أو مثلاً أعلى، تمر مراسم الحداد الطبيعي الذي ينتهي بنسيان الفقيد بثلاثة اطوار: أ- رفض الاعتراف بالواقع، انكار حصول الفاجعة: "كلا، عزيزي، لم يمت بل غاب فقط وعما قريب سيعود"، الانطواء النرجسي أي التماهي بالفقيد باستبطان خصاله لتخفيف آلام فراقه وعقاب الذات بالصدود عن غرائز الحياة عبر الافراط في احياء ذكراه والتقيد الصارم بتراثه. ب - التسليم بالأمر الواقع، أي الاعتراف بأن الحدث الأليم قد وقع. ارتداء ثياب الحداد ثم نزعها كرمز لوداع الفقيد إلى الأبد وقبول مواصلة الحياة من دونه. ج - فك التماهي بالفقيد بالتحرر من الرق النفسي له أي لذكرياته وتراثه. هذا هو الحداد الناجح المرادف لاشعورياً لانعتاق الأحياء من وصاية الأموات. مثل هذا الحداد يتطلب من الأفراد والأمم معاً العثور على بديل - عزيز هو أيضاً - يسد الفراغ الذي تركه الفقيد. ليعطي به ورثته معنى لحياتهم يساعدهم على التفرغ لعيش الحاضر وتحضير المستقبل. القطيعة مع الفقيد لا تعني كراهيته بل حبه، كلحظة حبيبة باتت في ذمة التاريخ، وحب الحياة والأحياء أيضاً. الشعوب التي استطاعت الدخول إلى الحداثة هي تلك التي نجحت في فك تماهيها مع ماضيها. ألمانيا لم تدخل في الحداثة إلا بعد إقامة الحداد مرتين على تراثها. اهتبلت النخبة المفكرة هزيمة بروسيا الاقطاعية أمام فرنسا البورجوازية في يينا 1806 للمطالبة أكثر من السابق بضرورة تبني النموذج الفرنسي، خلافاً للعسكريين الذين لم يروا من الهزيمة إلا مظهرها العسكري - كما فعلنا نحن مع هزيمتي 1948 و1967 - رأى فيها المثقفون هزيمة مجتمع بجميع مؤسساته التي لم تعد معاصرة لعصرها وطالبوا أمتهم بالتماهي بفرنسا التي "حققت العقل" بثورتها، حسب قول هيغل الذي قرأ في هزيمة بلاده الرسالة التي أرسلها إلى التاريخ مع جيوش نابليون: "حتى تكوني قوية، كوني حديثة"، متعرفاً في انتشار الفاتح الفرنسي على ضرورة تاريخية أملاها "الروح"، أي الحاجات الموضوعية للحقبة التي "أرادت" أن تتحقق عبر تحقيق نابليون لطموحاته الشخصية. وهو ما أسماه هيغل "مكر التاريخ". فعلاً جعلت النخبة من الهزيمة نقطة انطلاق ببروسيا إلى الحداثة: التصنيع والوحدة القومية. في 1870 هزمت بروسيا فرنسا التي ارتدت من الجمهورية إلى الامبراطورية، وفي 1907 تفوقت عليها اقتصادياً... عاد المكبوت البروسي، العسكريتاريا والانضباط الثكني، إلى المانيا غداة هزيمتها سنة 1918 في صورة الحزب النازي الثأري المعادي للحداثة الديموقراطية والمهووس بعبادة الحكم الفردي والقوة وامتلاك السلاح والعودة إلى الامبراطورية والذي سيقود بلاده إلى "أم الهزائم" في 1945. عندئذ فرض عليها المنتصرون، بمساعدة الجناح الحديث من نخبتها، إقامة الحداد النهائي على تراثها البروسي: فرضوا عليها دولة ديموقراطية فيديرالية منزوعة السلاح وأعادوا هيكلة التعليم الذي كانت النازية قد رصدته لغسل أدمغة الأجيال الطالعة. بدورها أقامت اليابان الحداد على تراثها مرتين لسنتي 1868 و1945. ف الأولى أقامت، بثورة الميجي، الحداد على جانب من ثقافتها الاقطاعية. دشن الامبراطور، المسموع الكلمة، مسار الحداثة بفك التماهي مع الماضي بلفتات رمزية. فقد فاجأ مدعويه باستخدام الشوكة الحديثة بدل العيدان التقليدية وسماع سمفونية المانية بدلاً من المعزوفات اليابانية، وصولاً أخيراً الى تبني الدساتير ونظم التعليم الحديثة. منذ مطلع القرن العشرين عاد المكبوت التقليدي فدخلت اليابان الحرب الثانية الى جانب المحور الفاشي. غداة هزيمتها فرض عليها المحتل الأميركي اقامة حداد كامل على تراثها. لم تمنع المذبحة النووية نخبتها غير المشلولة بأساطير الماضي من التحالف مع غالبها الأميركي. اقامت تركيا الكمالية بدورها الحداد على تركيا العثمانية بإلغاء الخلافة والتأورب في مجالات أساسية عدة. لكن ديناميكها الشرقي لم يساعدها على فك روابطها الوجدانية مع اسوأ رواسبها العثمانية، العسكريتاريا وقهر الأقليات. فرض عليها الاتحاد الأوروبي، لقبولها في ناديه، تشرّب ثقافته الجديدة عليها وعلى العالم: حل النزعات داخل كل دولة وبين الدول بالتفاوض حصراً والتقيّد بمواثيق الأممالمتحدة في ما خص علاقة الدولة بمواطنيها وأقلياتها. إلغاء أنقرة لعقوبة الإعدام واعترافها باللغة الكردية خطوة واعدة على طريق فك تماهيها مع بقاياها العثمانية. أما نحن فما زلنا في آخر الطابور عاجزين عن فك تماهينا مع ماضينا بتعلم قيم وسلوكيات الحداثة ونسيان الثأر القبلي والعنف الاستفزازي واللامجدي والجمود الذهني والولع الجنوني بامتلاك السلاح وجميع العادات الأخرى التي ما زالت تشكل لنا انسدادات ذهنية ومؤسساتية. لماذا؟ لأننا فشلنا فشلاً ذريعاً في اقامة حداد ناجح على ما لم يعد مفيداً لنا ولا مقبولاً بمعايير عصرنا الثقافية التي لم نستبطنها بعد. فاجعة انتقالنا من أمة فاتحة الى أمة مفتوحة صعقتنا، سمّرتنا في مكاننا وأصابتنا بالاكتئاب والاضراب المفتوح عن التفكير المنطقي. وهكذا لم نستطيع استكمال مراحل الحداد للوصول الى المرحلة الأخيرة. فك التماهي مع فقيدنا العزيز - ماضينا - 1492 فقدنا الأندلس، 1924 فقدنا الخلافة، 1947 فقدنا فلسطين، 1967 فقدنا ما تبقى منها زائد سيناء والجولان... تواريخ ما زالت حية في الذاكرة الجمعية لأننا لم نسلّم بالواقع فسقطنا في الهلوسة والهذيان اللذين نلتقي بهما في الاعلام والتعليم: مستقبلنا محنط في ماضينا الذي لم يمض. حسبنا ان نعود اليه بأفكارنا وممارساتنا ليعود الينا فنلتقي في منتصف الطريق. كم مرة رأينا صلاح الدين يعود متنكراً في صورة عبدالناصر، الخميني، صدام، بن لادن أو حتى احمد ياسين... وفي كل مرة نقول سيعيد الينا كل ما اغتصبه "الغير" منا وترتفع راياتنا خفاقة في السحب. وفي كل مرة يتضح ان الحبل كاذب والعائد نسخة مزورة ولكننا أمة لا تمل الانتظار. فعودة البطل الغائب وعد قطعناه على انفسنا وهيهات ان نخلف الميعاد! عادة يقام الحداد على الحنين الى الماضي طوعاً أو كرهاً بعد الهزائم كدرسٍ استُخلص منها. أما نحن فكل هزيمة لا تزيدنا الا توغلاً في الهلوسة والفصام وانحلال الوعي واسقاط نوايانا على غيرنا. مراهنتي هي على تداول الأجيال عسى ان يساعد على ظهور نخب لها من الشجاعة الفكرية والسياسية ما يكفي لإقامة حداد ناجح. على ماذا؟ على أحلامنا الامبراطورية التي ما زالت تستعمر وعينا. في أول لقاء بين محمد حسنين هيكل ومعمر القذافي سأله هذا الأخير عن رأيه في استرداد الأندلس فأجابه: إنس الأندلس. وهم عودة الأمبراطورية لم يفارق وعينا الجمعي. وهو الذي أدخلنا جمهوراً ونخبة في هذيان جماعي يوم 2/8/1990 ظناً منا ان ضم صدام للكويت كان تدشيناً لعودة هارون الرشيد خليفةً من المحيط الى الخليج. المطلوب اقامة الحداد على الخلافة العثمانية التي أفقد الغاؤها الاسلاميين صوابهم. منذ 1924 وهم يريقون حبراً ودماً غزيرين لاستعادتها. والحداد على "تحرير فلسطين حتى آخر ذرة تراب"، الذي دفع وما زال حماس والجهاد الى التعاون الموضوعي مع اليمين وأقصى اليمين الاسرائيلي لنسف كل مبادرة لاسترداد ما يمكن استرداده منها: الضفة وغزة والقدس الشرقية. واقامة الحداد على الكفاح المسلح والعمليات الانتحارية واسلحة الدمار الشامل كوصفات سحرية لتحرير فلسطين وارهاب الغرب "عدو الأمس واليوم"! كيف يقام هذا الحداد؟ بإعادة هيكلة مؤسستي التعليم والاعلام ليقرأ الطالب والقارئ "بواتيي" بدل "بلاط الشهداء" من دون تحسر على عدم فتح فرنسا، و"الأندلس" بدل "الجنة الضائعة" بلا تفكير في العودة اليها إلا كسائح، ورفع خريطة فلسطين الانتدابية من الكتب المدرسية وتعويضها بخارطة الأراضي المحتلة في 67، ووضع حد في الكتب المدرسية لكل أسف على إلغاء أتاتورك للخلافة، تطهير الكتب المدرسية والاعلام من كل ما يشيطن المرأة وغير العربي وغير المسلم والغرب والحداثة والفلسفة والاجتهاد والعقل والمعتزلة وجميع الفرق التي كفّرت بعضها في الماضي لتضطلع بتاريخنا كما هو. من اجل أي هدف؟ اعادة تأسيس كيانات ديموقراطية فيديرالية هنا ولا مركزية هناك تتصالح مع شعوبها ومع العالم وتنسى الثارات القديمة والحديثة لتتعلم انجاز مهام التنمية المستديمة التي بها نكون أو لا نكون. اذا فشلنا هذه المرة ايضاً في اتمام مراسم الحداد فلنكتب على ظهورها: لا مستقبل لنا!