صدرت حديثاً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب طبعة جديدة من كتاب «الوجه الآخر للخلافة الإسلامية» للروائي والباحث اللغوي الراحل سليمان فياض، يكشف أن نظام الخلافة لا يناسب حال المسلمين اليوم ولا تجب العودة إليه مرة أخرى؛ لأنه نظام فرضته العصور الوسطى حيث تربع على كرسي الحكم حكام يحملون ألقاب: الملك، السلطان، الإمبراطور. وكان المقصود في عصر الخلفاء الراشدين، أن الحاكم خليفة؛ لأنه يخلف من سبقه، إلى أن تجرأ الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور (754- 775ه) فرسَّخ مفهوم أنه خليفة الله في أرضه. ولم يكن ممكناً في غيبة تجارب أخرى لأنظمة الحكم السائدة في عصور العالم القديم والوسيط، أن يوجد تصور آخر، غير تصور نظام الخلافة لحكم المسلمين، هذا التصور قوامُه أن الحاكم يختاره صفوة أهل المدينة ليكون خليفة لكل المسلمين، بصرف النظر عن كونه من آل البيت (علي بن أبي طالب) أو من غيرهم (أبو بكر، عمر، عثمان). وفرض منطق العصر تلك الصراعات السياسية الدامية في تاريخ المسلمين بين الأسرة المسلمة الحاكمة، وأسر أخرى كبرى، قبلية بالضرورة تسعى إلى الحكم بدعاوى عربية، أو فارسية أو تركية، أو بربرية، وترفع شعارات الإنقاذ للدين؛ كما حدث في بلاد فارس والروم. ونجح الحكم الإسلامي في فتح هاتين الإمبراطوريتين اللتين مثلتا التوازن الدولي آنذاك. ودامت الإمبراطورية الأموية تسعين عاماً، وصار الخوارج حزباً سياسياً يسارياً يمثل جمهوريين ذوي مبادئ ديموقراطية متطرفة، في مواجهة حزب خلافي ملكي يميني استبدادي، يقوم على تقوية الدولة بالتوسع الحربي، وبمزيد من الضرائب وبالقهر للخصوم بالحيلة والدهاء حيناً، وبحد السيف حيناً آخر. وكان الخليفة يهيمن على بيت مال المسلمين، فكان الأمر الوحيد والمراقب الوحيد. وهذه الفترة لم تسُد فيها شروط الخلافة، فغاب العدل، وأُهملت مصالح الناس، وهُمشت الشورى باستثناء زمن قصير شغله الخليفة عمر بن عبد العزيز الذي أعاد عدل جده لأمه عمر بن الخطاب، والإمام علي، واسترد الإقطاعيات لبيت المال، وعزل الولاة الظالمين. ويرجح فيَّاض أنه استشهد مسموماً لهذه الأسباب كلها، من قبل الناقمين عليه من أمراء الأسرة الأموية، مثلما استشهد من قبل عمر وعلي وعثمان، بينما ظل معظم خلفاء القهر الأمويين أحياء، وماتوا على فُرشهم. وفي ظل خلافة القهر العباسية التي استمرت 98 عاماً (750-847 ه) لم يتوقف العباسيون عن التنكيل ببني أمية ومطاردتهم وقتلهم كدليل على شدة العداء بين بني أمية والهاشميين جميعاً. وكان هذا العداء أحد أسباب انصراف العرب عن العباسيين، وكراهيتهم لهم، لاعتمادهم على الفرس في شؤون الحكم. واكتشف الناس أن الدين لم يكن إلا شعاراً رفعه بنو العباس ليستندوا إليه في حكمهم، ويقيموا خلافة وراثية، أو حكماً أوتوقراطياً آخر. واندلعت الثورات في الأقطار الإسلامية كافة اعتراضاً على سياسة العباسيين الذين فرضوا الخلافة بحد السيف. وورث العباسيون ضِياعاً كثيرة كان يملكها بنو أمية وأتباعهم، وأضاف إليها العباسيون ضياعاً جديدة، أضعاف ضياع الأمويين، من طريق إحياء الأرض الموات بأموال بيت المال أو شراء أراضي المزارعين الفقراء والتحايل للوصول إليها، وشاع نظام التقبل (الالتزام) أو الضمان، وشاع نظام الإلجاء والإيغار، وتفشت هدايا النيروز. وفي النتيجة، سقطت الخلافة العثمانية، مثلما سقطت الخلافات الأموية والعباسية والفاطمية، وكانت كلها خلافات قهرٍ يضع خلفاؤها على وجوههم أقنعة الدين، وكانوا في حقيقتهم ملوكاً دنيويين. وعقب سقوط الخلافة العثمانية، تباكى فقهاء ودعاة تراث الثقافة والمعرفة على ضياع الخلافة وتجاهلوا كل تاريخ خلافات القهر والقمع. والهدف هو إقامة نظام الخلافة من جديد، والعودة بالحاضر إلى الماضي، بمظالمه، وفتنه، وصراعاته، ومصارع رجاله، وإلغاء حق الشعوب المدني والدنيوي، في تقرير المصير، واختيار نظام حكم الشورى المدني، وتحديد مدة حكم الحاكم. وألحقت الخلافة العثمانية ضرراً كبيراً بالشعوب العربية. فقد علّمنا التاريخ أن الاستقلال السياسي كان أفضل من الوحدة لقوة المجموع، فقد كانت الكيانات السياسية في المنطقة العربية قبل مجيء العثمانيين قوية على المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية ما دامت كثيرة ومتعددة، وحتى متنافسة في ما بينها، ولم تقصر هذه الدول، من قبل أن يظهر العثمانيون إلى الوجود، في الدفاع عن المنطقة منذ الحملات الصليبية وانتهاء بتصدي المماليك في مصر للمغول ثم للبرتغاليين في البحر الأحمر. لكن بعد أن توحدت هذه الكيانات في دولة واحدة مع الغزو العثماني، دخلت المنطقة ومعها الإمبراطورية العثمانية نفسها، في حالة من الجمود والتدهور، لم تفق منها إلا بعد قرون على أصوات مدافع نابليون بونابرت وهي تدك الإسكندرية. ويخلص سليمان فياض إلى أن التاريخ الإسلامي أثبت فشل تجارب الخلافة الإسلامية السُنيَّة والشيعية، وبأيدي مؤرخين مسلمين في العصور الوسطى، وفي العصر الحديث ممن كتبوا عن وقائع الخلافة وأحداثها. ولا مفرّ لمسلمي اليوم من الأخذ بحقوق الإنسان في العصر الحديث، وهي مقاصد الدين الإسلامي، فلم يفرض هذا الدين نظاماً وحيداً للحكم، ولا تصوراً وحيداً للشورى.