السمة الابرز ل"بروتوكول مشاكوس" بين الحكومة السودانية و"الحركة الشعبية لتحرير السودان" هو الثقل الاميركي الذي دفع نحو توقيع الاتفاق. وثمة عوامل عدة وراء اختيار الادارة الأميركية أن ترمي بكل ثقلها من اجل دفع الطرفين الى الاتفاق في هذه الفترة تحديداً. اذ يحرك الولاياتالمتحدة دافعان اساسيان، اقتصادي وسياسي. في العامل الاول، بدأت ادارة الرئيس بوش تتعرض لضغط حقيقي من شركات النفط الاميركية الغائبة عن الاستثمار في استخراج النفط السوداني "الواعد". والرئيس الأميركي الذي ولج عالم السياسة عبر بوابة العمل في مجال الطاقة على مدى 18 سنة، وكان يملك "شركة هاركين للطاقة" يبدو اكثر الرؤساء تفهماً لأوضاع هذه الشركات لأنه زميل مهنة سابق. ويضاف الى ذلك تاريخ اسرته في هذا المجال. وتهدف الشركات التي تسعى الى تخفيف ضغوط الكونغرس على الحكومة السودانية من وراء ذلك الى دخول مجال الاستثمار في النفط السوداني الذي اصبح حكراً على شركات صينية وماليزية وكندية. وضمن الاعتبارات الاقتصادية، هناك ايضاً مبدأ الشراكة الاميركي الذي تتبناه ادارة بوش والذي يدفع الحكومات الافريقية نحو تبني اقتصاد السوق والتعددية الحزبية، واحترام حقوق الانسان مبادئ او شروطاً مسبقة لأي مساعدة اميركية. وهذا حتماً لا يتم في السودان في ظل الحرب الاهلية الطاحنة. وعلى الصعيد السياسي تبرز حملة مكافحة الارهاب احد اهم موجهات السياسة الخارجية والامنية للولايات المتحدة بعد 11 ايلول سبتمبر. وفي هذا الاطار دانت حكومة الخرطوم الهجمات وأبدت تعاوناً محدوداً مع الادارة الاميركية، وما زالت هذه الادارة غير راضية عما قدمته الخرطوم، خصوصاً انها كان مأوى لأسامة بن لادن وما زالت متمسكة بمشروعها الاسلامي. لهذه الاسباب ترى اميركا ان مساهمة الخرطوم في الحملة صورية. وهناك نقطة اخرى في ذهن صانع السياسة الاميركية وهي الحلقة المفرغة التي يدخلها السودان من انقلاب عسكري الى انتفاضة شعبية ثم انقلاب آخر، زرعت حال يأس عميق لدى الادارات الاميركية المتعاقبة ازاء القوى العلمانية في شمال السودان والتي فرّطت في السلطة لمصلحة الانقلاب العسكري الاصولي الذي حصل في 30 حزيران يونيو 1989 وأتى ب"الجبهة الإسلامية" إلى سدة الحكم. هذا التقييد الجذري في المسرح السياسي السوداني ألزم الولاياتالمتحدة وضع استراتيجية مغايرة وعميقة الأثر في مستقبل الحياة السياسية للسودان، وهي ترتكز إلى اشراك قوى علمانية "حقيقية" في العمل السياسي السوداني. وتعتبر "الحركة الشعبية لتحرير السودان" ذات مواصفات مثالية، ولا نعني هنا بأي حال من الأحوال أن مواصفاتها أميركية، بل هي حركة سودانية التكوين والهم والطموح، ولكنها تتميز عن الحركات العلمانية الشمالية بأبعادها الافريقية والمسيحية، الأمر الذي يجذّر اختلافها عن الحركات العلمانية في الشمال مثل الحزب الشيوعي أو ما اصطلح على تسميتها "القوى الحديثة" والتي تعتبر الإسلام والعروبة إلى حد ما، أحد مرتكزاتها الثقافية، شاءت أم أبت. إذاً، تهيئة الأجواء السياسية لدخول "الحركة الشعبية" حلبة العمل السياسي في الخرطوم هي الأداة التي يمكن الولاياتالمتحدة أن تضرب بها الايديولوجية الاصولية في الخرطوم من دون الدخول في مواجهة باهظة النفقات، ويعيد السودان، على حد تعبير أحد الديبلوماسيين الغربيين، إلى "جادة الصواب". لذلك كان أحد أهم بنود "بروتوكول مشاكوس" علاقة الدين بالدولة، وبالطبع فإن هذا البند ليس وليد هذا الاتفاق، بل هو بند ثابت في أجندة "الحركة الشعبية" في كل مفاوضاتها مع الحكومة. وارتأت الولاياتالمتحدة، ولأبعاد استراتيجية، أن "طرق الحديد وهو ساخن" يحقق الأهداف الطويلة المدى، كما يحقق أهداف "الحركة" وبعض الفاعلين الاقليميين. * صحافي أريتري.