المنتدى السعودي للإعلام يفتح باب التسجيل في جائزته السنوية    بريدة: مؤتمر "قيصر" للجراحة يبحث المستجدات في جراحة الأنف والأذن والحنجرة والحوض والتأهيل بعد البتر    غارة إسرائيلية تغتال قيادياً من حزب الله في سورية    ضبط 19696 مخالفاً لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود خلال أسبوع    الجيش الإسرائيلي يحمل حزب الله المسؤولية عن إطلاق مقذوفات على يونيفيل    إسرائيل تلاحق قيادات «حزب الله» في شوارع بيروت    استمرار هطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    مشروع العمليات الجراحية خارج أوقات العمل بمستشفى الملك سلمان يحقق إنجازات نوعية    24 نوفمبر.. قصة نجاح إنسانية برعاية سعودية    موديز ترفع تصنيف المملكة الائتماني عند "Aa3" مع نظرة مستقبلية مستقرة    جمعية البر في جدة تنظم زيارة إلى "منشآت" لتعزيز تمكين المستفيدات    وفاة الملحن محمد رحيم عن عمر 45 عاما    مصر.. القبض على «هاكر» اخترق مؤسسات وباع بياناتها !    ترامب يرشح سكوت بيسنت لمنصب وزير الخزانة    حائل: دراسة مشاريع سياحية نوعية بمليار ريال    الأمر بالمعروف في عسير تفعِّل المصلى المتنقل بالواجهة البحرية    "بتكوين" تصل إلى مستويات قياسية وتقترب من 100 ألف دولار    بريطانيا: نتنياهو سيواجه الاعتقال إذا دخل المملكة المتحدة    الاتحاد يتصدر ممتاز الطائرة .. والأهلي وصيفاً    القادسية يتغلّب على النصر بثنائية في دوري روشن للمحترفين    (هاتريك) هاري كين يقود بايرن ميونخ للفوز على أوجسبورج    النسخة ال 15 من جوائز "مينا إيفي" تحتفي بأبطال فعالية التسويق    الأهلي يتغلّب على الفيحاء بهدف في دوري روشن للمحترفين    نيمار: فكرت بالاعتزال بعد إصابتي في الرباط الصليبي    وزير الصناعة والثروة المعدنية في لقاء بهيئة الصحفيين السعوديين بمكة    مدرب فيرونا يطالب لاعبيه ببذل قصارى جهدهم للفوز على إنترميلان    القبض على (4) مخالفين في عسير لتهريبهم (80) كجم "قات"    قبضة الخليج تبحث عن زعامة القارة الآسيوية    أمير المنطقة الشرقية يرعى الأحد ملتقى الممارسات الوقفية 2024    بمشاركة 25 دولة و 500 حرفي.. افتتاح الأسبوع السعودي الدولي للحِرف اليدوية بالرياض غدا    بحضور وزير الثقافة.. «روائع الأوركسترا السعودية» تتألق في طوكيو    مدرب الفيحاء يشتكي من حكم مباراة الأهلي    رحلة ألف عام: متحف عالم التمور يعيد إحياء تاريخ النخيل في التراث العربي    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    أمانة الشرقية تقيم ملتقى تعزيز الامتثال والشراكة بين القطاع الحكومي والخاص    فيتنامي أسلم «عن بُعد» وأصبح ضيفاً على المليك لأداء العمرة    هل يعاقب الكونغرس الأمريكي «الجنائية الدولية»؟    «الأرصاد»: أمطار غزيرة على منطقة مكة    فريق صناع التميز التطوعي ٢٠٣٠ يشارك في جناح جمعية التوعية بأضرار المخدرات    "الجمارك" في منفذ الحديثة تحبط 5 محاولات لتهريب أكثر من 313 ألف حبة "كبتاجون    الملافظ سعد والسعادة كرم    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    «بازار المنجّمين»؟!    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    فعل لا رد فعل    المؤتمر للتوائم الملتصقة    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصة الإسلام السياسي والعنف الأصولي في مصر
نشر في الحياة يوم 15 - 12 - 2002


Caryle Murphy.
Passion for Islam.
ولع بالإسلام.
Scribner.
2002.
359 pages.
بأسلوب ريبورتاجي لا يُضعف عمق التناول، درست الأميركية كاريل مورفي المشكلة الاسلامية في مصر بالعودة الى جذورها البعيدة ومتابعة مسارها حتى أشهر خلت. ومورفي، الصحافية في "واشنطن بوست" والحائزة على جائزة بوليتزر عام 1991، جمعت بين ولائها الراسخ لقيم الديموقراطية والحداثة وبين حبها لأبطالها ممن كانوا جزئياً ضحايا وجزئياً جلادين، فانطووا على معظم تعقيدات أبطال الروايات.
فهي نشأت في بيت كاثوليكي ايرلندي الأصل في بوسطن، وكانت في عداد الأميركان الكثيرين الذين شكلت الثورة الايرانية المصدر الأول لمعرفتهم بالاسلام، والإسلام السياسي خصوصاً. لكنها، وبعد خمس سنوات في القاهرة، اتضحت لها حقيقتان: ان العنف الاسلامي لم ينجح في حل المشكلات الكبرى لمصر، وان العنف الديني ليس إلا جزءاً من حركة أعرض. فالمصريون، على اختلاف أعمارهم ومراتبهم الاجتماعية، باتوا ينظرون الى الاسلام بطرق جديدة بما خلق "مصر مختلفة" اكثر منها "ايران اخرى".
فتعاظم الاهتمام بالإسلام انما يتعدى ذاك البلد الى المنطقة العربية كلها، ما يدفع الى تقصّي الظاهرة انطلاقاً من حقائق تاريخية ثلاث: الفوران الداخلي للمجتمعات المعنية، وقيام الأنظمة السلطوية واستمرارها، والفشل في حل النزاع العربي - الاسرائيلي. وعلى مدى العقود تعانقت هذه العناصر لتخلق واقعاً جديداً، واقعاً لم يجعل من كل مسلم ارهابياً كاميكازياً بالتأكيد، إلا انه سمح لأقلية متعصبة بأن تحتل موقعاً مؤثراً.
وتعقد كاريل روايتها على عدد من الأبطال الفعليين وسِيَرهم، وعلى دواخل حياتهم الشخصية والأسرية. وأبرز ابطالها بسطاوي عبد المجيد من قرية الهجيرة الذي انتهى على عود المشنقة. فحين ولد الأصولي اللاحق، عبدالمجيد، في 1975 كانت قد انقضت خمس سنوات على رحيل عبدالناصر، وتولي خلفه أنور السادات تفكيك دولته الاشتراكية. وبهدف تنشيط الاقتصاد عمل السادات على عودة تدريجية الى الرأسمالية، فاحتفظت سياسته في "الانفتاح" بقطاع عام منتفخ انما شجعت ولادة قطاع خاص تشكل أساساً من خلال احتكارات الاستيراد لمصلحة مصريين محظوظين. ولئن شرع رجال الاعمال الجدد يجنون مذّاك ثروات طائلة، تبدى الثراء الحديث على ملاهي القاهرة وسياراتها. فقد استوردت مصر 500 سيارة مرسيدس في الأشهر الخمسة الأولى من 1994 مثلاً، وفي 1997 أقيمت ثمانية ملاعب غولف محاطة بفيلات فخمة قُدرت أثمانها ب5،1 مليون دولار. لكن مئات القرى كانت في وادٍ آخر، حيث قُدر ان 16 مليون مصري يعيشون تحت خط الفقر أكثر من نصفهم ريفيون. وإذا كانت قرابة نصف السكان أميين، فإن ثمة اكثر من نصف مليون وافد جديد سنوياً الى سوق العمل، ما يجعل البطالة كارثة وطنية محققة.
ويظن المصريون، فوق هذا، ان المحسوبية والرشوة والفساد وصلت الى ذرى غير مسبوقة واحتلت مواقع في السلطة لم تتمتع بمثلها قبلاً. والإسلام ملجأ المتذمرين من هذا كله، ممن يدل التحول الطارئ على الاحتفالات برمضان الى توسعهم. فهذا التعاظم الذي طال الورع الشخصي انما هو قاعدة الانبعاث الاسلامي المعاصر، حيث ما من قائد ديني أو سياسي نظّم هذه الحركة بقدر ما جاءت ثمرة يقظة ألمّت بملايين المصريين. فهي لم تهبط، كما حصل في ايران الخمينية، من فوق الى تحت، بل صعدت تدريجاً في الطريق المعاكس.
وإذا كانت المخلفات النفسية لهزيمة 1967 قد دفعت في الاتجاه نفسه الذي دفعت المعاناة الاقتصادية فيه، فأول تعابير الانشقاق ظهر مع العمليات الاحسانية في 1975، حيث بدأ توزيع بعض المواد الغذائية على عائلات فقيرة. هكذا شرع الاسلام الورع يشكل درعاً للاسلام السياسي الذي انبثق من انكشاف قصور الدولة وعجزها. وفي الموازاة جعلت الساداتية و"الرئيس المؤمن" يطرحان على المجتمع وعياً يناسب هذه التحولات.
والتعاطي السياسي مع الاسلام، والاسلامي مع السياسة، لهما في مصر جذور بعيدة ترقى الى تحديث اسماعيل ومن بعده محاولة محمد عبده الاصلاحية، وصولاً الى نشأة الاخوان المسلمين في 1928. فحسن البنا كان أول سياسي ناشط في أي من الدول الحديثة يؤلّب، بقوة الاسلام، أعداداً واسعة من الناس، معاكساً في تأثيره ذاك الضيق النخبوي الذي تحركت ضمنه محاولة عبده. ثم ان البنا لم ينتم الى سلك العلماء، ولو كان هناك تلفزيون في زمنه لتحول بالتأكيد نجماً جماهيرياً بامتياز. كذلك كان المؤسس تآمرياً وسلطوياً يطالب محازبيه بالطاعة ويلقّنهم العودة الى القيم المحافظة.
لقد حقق الإخوان أوسع اختراقاتهم في الطبقة الوسطى المدينية والصاعدة، وهو ما نتج عن ظروف عدة بينها الخيبة بالملكية والسياسات الحزبية للأربعينات، وبينها الصعوبات الاقتصادية والمداخلات البريطانية في السياسة الداخلية إبان الحرب العالمية الثانية. والى ذلك، أبدى الاخوان اهتماماً بالفقراء وتقديم الخدمات الأهلية: فهم انشأوا مدارس خاصة بهم ونظّموا مجموعات لدراسة الدين، كما أقاموا عيادات طبية وبرامج ليلية لمحو الأمية ونشاطات رياضية كذلك، موفّرين لبعض الفقراء فرص عمل في مشاريعهم الكثيرة. لكن البنا، الكاره للغرب والذي لا يرى الا المؤامرات تهب على مصر من طرفه، ما لبث ان انخرط في العمل العسكري منشئاً، مطلع الاربعينات، "الجهاز الخاص" مثله في هذا مثل غالب الأحزاب المصرية حينذاك. ومع اغتيال النقراشي، وقبيل اغتياله هو نفسه في 1949، تبدى ان البنا شرع يفقد السيطرة على تنظيمه العسكري. وكان ما كان في العهد الناصري الذي بدأ بشهر عسل قصير مع الاخوان وانتهى بقمع لهم لم يكن، حتى حينه، مسبوقاً.
ولئن بدأت الاسلامية السياسية تنبعث مجدداً بعد هزيمة 1967، لم تكن التغيرات التي اطلقها النظام الناصري عديمة التأثير في الوجهة اياها. فسكان مصر الذي عدّوا في 1975 قرابة 37 مليوناً لم يكونوا بعيد انقلاب 1952 اكثر من 22 مليوناً. اما سكان القاهرة فارتفعوا من 2.5 مليون الى 6 ملايين. وكان المجتمع يعاني الضيق والكبت اللذين فرضتهما الديكتاتورية الناصرية. فلما جلا البريطانيون منذ 1955، وهم الذين نشأ الوعي الاسلامي على معاداتهم، غدا العدو ذاك الجهاز الدولتي الكلي القدرة.
وتجسدت هذه التحولات في الاخواني الآخر، سيد قطب، الذي سجن واضطهد ونشر، في 1964، كتابه الأهم والأشهر "معالم على الطريق"، كما ارتبطت باسمه النظرية الاكثر راديكالية في التكفير والحاكمية. ولئن شاء السادات لاحقاً استخدام هذه الإسلامية في مواجهة الناصريين واليسار، إلا ان الطلبة المتأثّرين بقطب استعصوا على الضبط داخل الرغبة السلطوية وتقنين إسلامهم بما يلائمها. وبالفعل ففي 1977 سيطروا على الاتحاد الطلابي الرسمي كاشفين عن قوتهم التي وضعتها زيارة القدس في السنة نفسها على سكة الصدام مع النظام.
وفي هذه البىئة نشأ تنظيمان اسلاميان راديكاليان وشبابيان ما لبثا ان عقدا، في 1980، تحالفاً بينهما: أولهما قاهري يقوده عبدالسلام فرج، ابن السابعة والعشرين المتأثر بقطب والذي غادر الاخوان برماً باعتدالهم وشيخوختهم. والثاني قاعدته في جنوب مصر. واذ تدهور الوضع المصري على ايقاع الأزمة الاقتصادية والصدامات بين المسلمين والأقباط، واذ فقد السادات أعصابه معتقلاً 1536 شخصاً بينهم بعض رموز النخب المصرية، انطلق مسلسل مجنون تتوّج باغتياله على يد ائتلاف التنظيمين.
مذّاك والحرب معلنة ومفتوحة بين الأصوليين المسلمين وبين السلطة المصرية، وكان طلعت همام أحد أبرز نجومها، هو الذي سمّاه البوليس المصري "الشبح" لكثرة الأعمال الارهابية التي خطط لها ولقدرته المتواصلة على الهرب والاختفاء. وهمّام كان ينتمي الى "الجماعة الاسلامية" التي تفاوتت تقديرات منتسبيها أوائل التسعينات بين 10 آلاف و100 ألف. وهذا الوعاء ذو الرجحان الجنوبي كان قد نشط في الروابط الطلابية الاسلامية منذ أواخر السبعينات، وبدا أقل نخبوية وتنظيماً من الثاني، كما اعتمد له قائداً روحياً هو الشيخ عمر عبدالرحمن الذي اعتقل بعد مقتل السادات. اما الوعاء الآخر، "الجهاد الاسلامي"، فنشأ حول عبود الزمر، الضابط الذي سجن لدوره المركزي في اغتيال الرئيس الراحل. وكانت "الجهاد" مجموعة صغيرة محكمة التنظيم ذات رجحان قاهري، من اعضائها الطبيب الشاب الذي سُجن هو الآخر لمشاركته في اغتيال السادات: أيمن الظواهري.
وما لبث ان اختلف التنظيمان حول أمور كثيرة في عدادها الوسيلة المثلى لبلوغ الدولة الاسلامية. ومشحونةً بالحماسة الخلاصية، آمنت "الجماعة" بالحضور العلني والتصريح بمسؤوليتها عن أفعالها. اما "الجهاد" الأكثر سرية بكثير، فلم يكن معنياً ببناء حركة جماهيرية، ففضّل الشبكات في الجيش وقوى الأمن التي تعمل تحت الأرض، تمهيداً لانقلاب يعلن الجمهورية الاسلامية. ولعبت المنافسات الشخصية دورها، فرفض الجهاديون قيادة عبدالرحمن لأنه ضرير، ورفضت الجماعة قيادة الزمر لأنه سجين.
وفي المقابل كانت السلطة تبدي ضعفاً ملحوظاً في مخيلتها وسط عالم يتغير بسرعة. ففي بلد ثلث سكانه تحت ال15 كان المعدل الوسطي لأعمار الوزراء، في 1994، 63 عاماً، وكانت حكومتهم الأطول عمراً في تاريخ مصر الحديث حتى حينه. الى ذلك راحت تظهر نتائج الجهاد الافغاني الذي ابتدأ في 1979، وشجّعته الحكومة المصرية وحثّت عليه. وفي 1984 حين اطلق سراح دفعة من المساجين، بينهم الظواهري، توجّه بعضهم للمساهمة في الجهاد المتوفر هناك، لكن الذين بقوا في مصر وتكاثر عددهم بات وجودهم ملحوظاً جداً في بعض الاحياء الفقيرة للقاهرة. ووجد هؤلاء، أواخر الثمانينات، بعض التعاطف الشعبي الذي لم يكن كله حباً بهم، وكان كثيره كرهاً بالحكومة. اما الأخيرة التي كانت تبدي بعض التساهل مع نشاطاتهم في جنوب مصر، فما عادت تملك الا التشدد حيالهم في العاصمة. وحتى همام نفسه الذي أوقف مرتين، انتقل الى بيشاور التي لم يعد منها الا بعد توقف الجهاد الافغاني. وبعودته شكلت "الجماعة الاسلامية" ذراعها العسكرية، ومنذ 1992 راحت الاعمال الاجرامية تتلاحق: ضد أقباط واجانب ومثقفين، وقد طاولت وسائل النقل البرية على أنواعها وغطت مصر كلها تقريباً.
وارتفع التذمر في شريحة عريضة ترتبط حياتها بالسياحة التي تنجم عنها فرصة عمل من أصل كل 15 فرصة. وفي 1993 هبطت المداخيل الحكومية منها الى نصف ما كانته في أي في السنوات السابقة. لكن العام نفسه سجّل مقتل 120 شرطياً و111 أصولياً مسلحاً، وقتل وجرح 1106 اشخاص آخرين، فيما لم يتعد مجموع القتلى للعام السابق 322 شخصاً. وبدورها انجرت "الجهاد" الى المنافسة على أرض العنف نفسها.
وفي ذروتها ضمت شبكة همام ما بين ألفين وثلاثة، وهم نسبة صغيرة من محازبي الجماعة، من دون ان يكونوا كلهم معنيين بالعنف المباشر. والحال ان هؤلاء اختلفوا عن سابقيهم لأواخر السبعينات: ف80 في المئة من ممارسي العنف الأوائل كانوا طلاباً جامعيين وخريجين، متوسط أعمارهم 27. اما اللاحقون فكان 20 في المئة منهم قد عرفوا الجامعة، ومتوسط اعمارهم 21. فالواضح، إذاً، ان الاسلاميين الراديكاليين غدوا أصغر سناً وأقل تعلماً، وهذه اشارة خطيرة في بلد يعج بهذا العدد الهائل من الشبان. ولما كان الخطر يتعاظم مع وفادة كل مجموعة جديدة من افغانستان، فضلت الحكومة المحاكم العسكرية في التعامل مع الظاهرة المستفحلة لأن قضاتها أشد اكتراثاً بالترقي الوظيفي وأقل استقلالية من زملائهم المدنيين. كذلك، وبطريقتها، اهتمت الحكومة بمخاطبة "شعب الأصوليين"، مركزة في المؤتمرات والمقالات الصحافية على "الإسلام الصحيح". واتهمت الحكومة ايران، علماً أنها لم تكن مصدراً مهماً في التمويل الذي تعددت مصادره. لكن شيئآً واحداً واظبت السلطة على رفضه وهو التوصل الى هدنة مع الجماعة يتم بلوغها بالتفاوض. كذلك لم تكترث بالتلاعب على تناقضات الاسلاميين.
وفي مقابل الاخطاء الرسمية راكمت الجماعة عدداً من الاخطاء توّجته بتحويل بنادقها عن رجال الأمن باتجاه عمال الخدمات السياحية وحراس الكنائس، ما سرّع الانفضاض الشعبي عنها. وفي النهاية قُتل همام نفسه في 25 ابريل 1994 فكان مصرعه ضربة قاصمة للعنف الاسلامي. وفعلاً انخفضت الهجمات نوعياً لتنحصر في بعض بؤر الجنوب المصري. اما العمليات الكبرى التي حصلت بعد ذاك، كمحاولة اغتيال الرئيس مبارك في اثيوبيا وجريمة قتل 58 سائحاً و4 مصريين في الأقصر أواخر 1997، فتكفلت تبديد كل احتضان شعبي للعنف الأصولي.
وحتى قبل الاقصر، ابتدأ قادة الحركة المعتقلون يحضون اتباعهم على وقف العنف من طرف واحد. لكن في هذه الغضون وجد المنفيون منهم موضوعهم الجديد في اسامة بن لادن. فدعوته في 1998 لقتل الاميركان حيثما وجدوا حملت توقيع مصريين هما رفعت احمد طه من الجماعة، والظواهري من الجهاد.
هكذا كان الفشل في مصر مقدمة لوعد بنجاح هيولي في كنف جهاد اكبر.
وفي آخر المطاف تفسّخت الجماعة من حركة تستلهم الدين وتحمل تطلعات مؤمثلة، الى تنظيم ارهابي وعدمي بحت. فهم لم يفهموا شعبهم ورفضه العنف، لكنهم ايضاً لم يحسنوا تقدير عدوهم: نظام سلطوي معزز بجيش من 360 ألفاً وقوة امن تضم 600 الف موظف، فضلاً عن مصالح لا تستسلم بسهولة.
والحق ان هذه الحرب افضت الى عدد من القتلى لا سابق له في اي صراع سياسي عرفته مصر الحديثة: اكثر من 1300 بينهم 100 اجنبي، واعدام 90 مصرياً. بيد انها سممت مصر بتحويلها احدى الدول الاشد اعتماداً للتعذيب. وإذا صح ان التعذيب لم يكن غريباً عن السياسات الحكومية المتلاحقة، الا انه تحول، اوائل التسعينات، سلاح السلطة الاول في استئصال "سرطان" الاسلام الراديكالي. وغدا هذا النشاط مرآة لسلوك اعدائه، الا ان التعذيب الذي استأصل العنف الاصولي، لا يعوّل عليه على المدى البعيد، خصوصاً انه يؤسس لنزعة انتقامية تتفشى في المجتمع.
وبدوره شهد الاسلام المحافظ ممثلاً بالاخوان، تجاذبات ادت الى انشقاق بعض الاصغر سناً وبقاء بعضهم الآخر ممن راهنوا على تحويل المؤسسة من داخلها. وهذه قصة يبدأ فصلها الاول مع عمل شبان الاخوان في الروابط والنقابات حيث حققوا نجاحات ملحوظة في بيئة الطبقة الوسطى وكوادرها. كذلك نشطوا في تلبية الاحتياجات المطلبية لاعضاء النقابات الذين تسلموا قيادتها، ثم شاركوا في الانتخابات العامة على لوائح "الوفد" ومن بعده "العمل".
وفي هذه الغضون بدا ضخماً حجم الهوّة الفاصلة بين القيادات ورموز الاجيال الاصغر. اما السلطة الخائفة من تغلغل الاصوليين في الادارة والتعليم فصعّدت حملتها التدخلية ضد وجودهم في النقابات وسائر مستويات النشاط العام، حارمة الاخوان تكرار التجربتين الانتخابيتين في 1984 و1987 ومنقضّة، بشكل تعسفي، على بقايا مواقعهم في الصحافة. الا ان الاخوان ساندوا هذه السياسات القمعية حين برروا اغتيال فرج فوده، وحين راحوا يرفقون انتقادهم للعنف بانتقادهم للحكومة، علماً ان منظمات حقوق الانسان كانت تفعل الشيء نفسه.
واستمرت محاولات السلطة في ربط الاخوان بمن فيهم رموز اجيالهم الجديدة كعصام العريان، بالارهاب. وشملت المحاولات سجن بعضهم والحملة عليهم في الصحف، فيما بدت المحاكمات التي اجريت لمعتقليهم متهافتة جداً، فشهّرت بها منظمات حقوق الانسان الغربية وتغاضت عنها الحكومات، بما فيها الاميركية. وما لبث ان تبين ان غرض هذه الحملة الفعلي منع الاخوان من خوض انتخابات 1995 التي انجبت اكبر اكثرية برلمانية في تاريخ مصر، ورأى سعد الدين ابراهيم انها شهدت "اكبر تزوير عرفه التاريخ المصري". ولئن تأدى عن هذا اضعاف الثقة بالمؤسسات، ظهرت احداث ثقافية تحذر من التراخي حيال المشاركة الاسلامية في الانتخابات، اذ الاسلاميون سستخدمونها لتعطيل كل انتخابات في المستقبل. لكن اصواتاً اخرى رأت العكس ما دام الاسلاميون المعتدلون يرفضون العنف.
وفي العام نفسه، 1995، انشق عن الاخوان من عرفوا ب"حزب الوسط" ممن ابتدأوا حياتهم العامة في النقابات وطوّروا افكاراً تقطع مع الخشبية القديمة للاخوان ممن لم يكتموا استياءهم وغضبهم. الا ان الاخيرين، رغم كل شيء، نجحوا في انتزاع 17 مقعداً برلمانياً في انتخابات 2000.
وعلى العموم استقبلت مصر القرن الواحد والعشرين بمعضلتين: فالسلطة كشفت انها لا تستطيع ان تكون ديموقراطية، والمعارضة الاسلامية دللت على انها لا تستطيع ان تكون حديثة تواكب الاسئلة المطروحة. وجاء خروج شبان "الوسط" يعلن انها لن تكون، في ذهنيتها وقيادتها القديمتين، في منأى عن التمزقات التي تعرفها السلطة.
وفي المقابل عانت مصر، ومعظم بلدان المنطقة، ضعف المعارضات العلمانية والليبرالية. ذاك ان التعطيل الديموقراطي والتكوين الاجتماعي النخبوي للعلمانيين حالا دون جماهيريتهم. ولئن كان الاسلاميون يتفوقون عليهم في التنظيم والتعبئة، فان كل واحد من الاطراف الزمنية يعاني ثقل ماضيه وولاءه الهرم لذاك الماضي، وهو ما يصحّ في الوفديين صحته في الناصريين واليسارييين. ثم ان الاسلاميين نجحوا في تقديم العلمنة صنواً للالحاد والغربية، فيما تسببت حدة الصراع السياسي وعدوانيته في اعاقة المناخ العام المناسب لتطوير ايديولوجية سياسية زمنية وشعبية في آن. والحال ان قاسماً مشتركاً وغير ديموقراطي يجمع بين تيارات كثيرة غير متجانسة في مصر، هو البحث عن اجماع وطني غالباً ما يعبّر عن نفسه في طلب القائد المخلّص. وهنا دور الاسلام الثقافي الذي يتقرر بنتيجته مستقبل الديموقراطية.
وانما في هذا النطاق يثار السؤال عن حماية الهوية وسط هيمنة متعاظمة للتعابير الثقافية والاميركية خصوصاً، في الموسيقى والسينما وطرق الاستهلاك، وعن المجتمع الذي ينوي الاسلاميون بناءه بالتالي. فالغرب الذي اكترث بالاسلام السياسي فحسب لم ينتبه الى الاسلام الثقافي رغم ما حصل في ايران بنتيجة التغرّب المتسارع لعهد الشاه. ولئن بيّن العالم الاسلامي ان شعوره بالخطر الخارجي ما يدفعه الى التمسك ب"الجذور"، بقي هذا التمسك ظاهرة معقدة. فكل الاصوليين واشباه الاصوليين الذين التقتهم الكاتبة، التقتهم محاطين بديكور غربي يبدأ بالملبس ولا ينتهي بالمكتب. والى ذلك يشير الاقبال الواسع على ثقافة الاستهلاك الاميركية بسائر سلعها، والمرفق بتحفظات حادة عنها لا سيما لجهة حرياتها الجنسية، لكنها تحفظات تتبدى ذات مدى شعبي عابر للاسلاميين.
بيد ان الاخيرين اختلفوا عن جذريي الستينات ممن اعلنوا تلمذتهم على اساتذة غربيين من ماركس الى غيفارا. فحملتهم تُشَن بأسماء ورموز اسلامية لا تكتفي بمناهضة الثقافة الغربية بل تضمّنها الرقص الشرقي والأهرامات وفيلما ليوسف شاهين ورواية لحيدر حيدر. فهم يبغون احكام سيطرة نظامهم الرمزي على مصر، طاردين منه ومنها الفردية والنسوية والتعددية والعلمانية، وحتى الديموقراطية. والحق ان مخاوف هذه البيئة تتعاظم حيال "الاختراق الغربي" في موازاة تعاظم ثورة المعلومات، الا ان البيئة المذكورة تتوسع ضامّة اليها بعض من كانوا حتى الامس القريب يساريين او قوميين.
وعلى صعيد آخر تطرح اجواء نخبوية ضيقة اسئلة حول قراءة الاسلام والعلاقة بينه وبين الحياة العامة والسياسة. وتذهب الكاتبة في تفاؤل محسوب، الى انبثاق مراجعات جدية في داخل المحيط الاصولي وعلى ضفافه. لكن، وفي الحالات كافة، يبقى الالحاح قائماً على الاجتهاد لا سيما وقد تصدعت السلطة القديمة ل"العلماء" ممن أبدوا، بدورهم، عجزاً عن المواكبة والتحديث. وهنا تندرج محنة نصر حامد ابو زيد الذي وقف ضده الازهر والاخوان ودعت "الجهاد الاسلامي" الى قتله فيما لجأت الحكومة المصرية الى تجاهل الموضوع الذي اطلقه اصلاً مسؤول الحزب الحاكم للشؤون الدينية. وباستثناء اصوات اسلامية مستقلة ومتفرقة لم يحصل ابو زيد على اي تضامن ذي تغطية رسمية او شبه رسمية. والراهن ان ما يعقّد مسائل الاصلاح الديني ارتباطها بالمصدر الالهي للكتاب، ما يحول دون تعدد التفاسير حيلولته دون إعمال المعارف الاجتماعية واللغوية توصلاً الى تأويلات مرنة وغير حرفية. مع هذا بدا استقبال كتاب السوري محمد شحرور، والتقدم النسبي، وإن المتعثر والمتناقض، لمحاولات سليم العوّا و"الوسط" وآخرين، اشارات على اهمية موضوعة الاجتهاد طلبا للتوافق مع الحياة المعاصرة.
وفي هذه المساحة القلقة يقف الازهر الذي تصدى بطريقته لكثير من هذه المحاولات التجديدية. فهو منذ الحقه عبدالناصر بالدولة بات يلهث وراءها متعرضاً لانتقادات الراديكاليين والليبراليين سواء بسواء، ومن داخله نشأت "جبهة علماء الازهر" التي اضطر الشيخ طنطاوي الى حلها في 1998. وعلى العموم خسر الازهر موقعه داخل مصر وإن احتفظ بمرجعيته على نطاق اسلامي عالمي. فالى مأخذ الالتحاق بالدولة وغضّ النظر عن المسألة الاجتماعية، ظلت مدرسيته الخشبية توفر اساساً نظريا للمتطرفين الذين، بدورهم، اخذوا عليه اعتداله والتحاقه.
ولئن ظهرت محاولات توفيق بين المسلمين المقيمين في الغرب الا انها بقيت غير كافية لازالة التوتر بين الايمان والمعاصرة، والذي لا يزيله، في رأي مورفي، الا "اجتهاد تعاوني" يتشارك فيه الاسلاميون والعلمانيون.
لكن على مقربة من هذه التناقضات تكمن القضية الاسلامية - القبطية التي الهبها الصعود الاصولي في التسعينات، وفاقمتها سياسات الرئيس "المؤمن" أنور السادات،. وهي بذاتها استظهار قوي لنوازع عدم التسامح في مصر والمنطقة. كذلك فعلى المقربة إياها عاشت أزمة الشرق الاوسط التي ولدت مع ميلاد اسرائيل في 1948، وترتبت عليها آثار تطال علاقة العرب بالغرب وبالولايات المتحدة خصوصاً. ولأسباب عدة تصلّب التعاطف الاميركي حيال اسرائيل والتحالف معها. فباستثناء مواقف قليلة للرئيس بوش الاب، لم تعاقب واشنطن تل ابيب على ارتكاباتها ، ولم تُظهر اي تفهّم فعلي للمعاناة الانسانية للفلسطينيين التي فاقمها سلوك قياداتهم. فالاستجابة لحقوق الفلسطينيين من دون التخلي عن دعم اسرائيل، اصبحت بعد انهيار اوسلو وحصول 11/9، اشد الحاحاً من ذي قبل لقطع الطريق على التطرف ونوازع التدمير والتدمير الذاتي في المنطقة ككل.
وهذا ما آن الأوان ان تفهمه الولايات المتحدة من دون ان يغيّر في حقيقة ان المهمة الاساسية يبقى المسلمون المسؤولين عنها، الا وهي التحديث والديموقراطية.
والحال ان هذا العمل الذي ارادت صاحبته تحويله الى "الكتاب" عن مصر الراهنة، وقع في اغفالات طفيفة، طالت البواكير الاولى للعنف الاصولي شكري مصطفى، صالح سرية، واغفالات اهم عن دور النظام المصري بتركيبه العسكري - القومي وسياساته الاقتصادية والتعليمية في تعزيز المشكلة القبطية. لكننا نبقى امام جهد عظيم وعادل. وفي الوقت نفسه جميل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.