في وقت اصبح التهجم على الولاياتالمتحدة هو "الموضة" وهو الموجة التي يركبها الكثير من الساسة والكتاب لا بد ان نحمد للصديق الدكتور غازي القصيبي ما كتبه في هذه الصحيفة يوم 21/8/2002 ليجادل بأن ليس في صالح السعودية دخولها في مواجهة مع الولاياتالمتحدة. وفي سباحته ضد التيار اثبت غازي انه ليس ذلك النرجسي الذي يبحث دائماً عن الشعبية كما صوره البعض. كان غازي وكاتب هذه السطور ضمن ما سمي "وزارة الدكاترة" التي شكلت في السعودية عام 1975م وكنا ضمن ما اطلقت عليه الصحافة الأميركية "مافيا اليو إس سي" اشارة الى العدد الكبير نسبياً من خريجي جامعة جنوب كاليفورنيا العاملين في الادارة الحكومية السعودية. كانت الاحلام وقتها كبيرة في توجيه الثروة النفطية الضخمة الى مشاريع تنموية لا يمكن الشروع فيها ولا اتمامها الا بالاستعانة بآخر ما توصل اليه العالم من وسائل التقدم، فكان من الطبيعي ان تتوجه السعودية الى الولاياتالمتحدة لا لأنها الأكثر تقدماً فقط، بل لأن تجربة المملكة في التعاون معها منذ الثلاثينات من القرن الماضي ناجحة بكل المقاييس وعادت على الطرفين بأفضل الثمار، كما شهدت بذلك شركة النفط العربية الاميركية ارامكو. لم يكن مستغرباً إذن ان يتم توقيع بيان مشترك في 8/6/1974م بين الامير فهد بن عبدالعزيز وبين وزير الخارجية الاميركي هنري كيسنجر ينص على تشكيل لجنة امنية مشتركة برئاستهما ولجنة اقتصادية للتعاون المشترك برئاسة وزير المال السعودي محمد ابا الخيل ونظيره الاميركي ويليام سايمون وكان كاتب هذه السطور منسق الجانب السعودي في هذه اللجنة وجيرالد بارسكي مساعد وزير الخزانة منسق الجانب الاميركي. اثر ذلك شكلت اربع لجان عمل من المسؤولين الحكوميين واساتذة الجامعات للبحث في حقول التعاون في مجالات الصناعة والزراعة والقوى العاملة والعلوم والتكنولوجيا. وكان معدل اعمار الجانب السعودي في الثلاثينات والجانب الاميركي في الخمسينات ولكن كان هناك تناغم في الافكار وصدق في التعامل، خصوصاً ان معظم اعضاء الجانب السعودي كان من نتاج الجامعات الاميركية، اذ ان السعودية منذ تدهور علاقاتها مع مصر عبدالناصر اواخرالخمسينات من القرن الماضي حولت معظم مبتعثيها الى الجامعات الاميركية. كانت مجلة "تايم" الاميركية اختارت الملك فيصل رجل العام لسنة 1974 وكان الجانبان الاميركي والسعودي يتحدثان عن "العلاقة الخاصة" بينهما وهو التعبير الذي كان حكراً على العلاقة مع بريطانيا. ما الذي حدث؟ كيف تحول الأمر من تلك العلاقة الوثيقة الى ما نشهده اليوم من تسريب لتقارير ضد السعودية؟ ان ما حدث في 11 سبتمبر بالنسبة الى الولاياتالمتحدة زلزال لم تشهد مثله في تاريخها الطويل من "العزلة السعيدة" حتى حين دخلت مكرهة في حروب تسبب بها "العالم القديم". كان الرئيس الاميركي فرانكلين روزفلت يميل، منذ بدء الحرب العالمية الثانية، الى دخول تلك الحرب الى جانب الحلفاء، لكنه كان يدرك ان شعبه ضد ذلك التوجه، وقد انتهى ذلك الاستعصاء حين انقض انتحاريو اليابان بطائراتهم على الاسطول الاميركي في بيرل هاربر عام 1941م. عندها هرع روزفلت الى الكونغرس واعلن ان اليوم الذي هوجمت فيه بيرل هاربر سيدخل التاريخ كيوم "الوضاعة" ولم يجد صعوبة في اعلان الحرب على دول المحور. اذا كان ذلك ما فعله انتحاريو بيرل هاربر وأدى الى دخول الولاياتالمتحدة الحرب فإن ما فعله انتحاريو الابراج والبنتاغون كان أعتى وأشد. كانت بيرل هاربر في مكان قصي في جزر هاواي في المحيط الهادي بينما كانت اهداف سبتمبر في قلب ما سمّاه الرئيس ايزنهاور "المنظومة الدفاعية الصناعية" واحدثت ضحايا واضراراً انسانية واقتصادية ونفسية اعظم بكثير. ومثلما قادت بيرل هاربر الى دخول الولاياتالمتحدة الحرب قاد 11 سبتمبر الى دخولها في حرب ضد الأرهاب. كنا نظن ان الضربة التي وجهتها الولاياتالمتحدة الى طالبان والقاعدة في افغانستان ستكون كافية من حيث ممارستها حق الرد ولشفاء غليل مواطنيها الذي شاهدوا الابرياء تلتهمهم النار أو يلقون بانفسهم احياء من ناطحات السحاب. ولكن بعد شهور من تلك الضربة ما زال المطلوبون احياءً او امواتاً طلقاء وما زال البحث عن الممولين والداعمين مستمراً، وما زال تحالف اليمين المسيحي واللوبي الأسرائيلي يستغل ما له علاقة وما ليس له علاقة بما حدث لتحقيق اهدافه، الى حد دفع الادارة الاميركية الحالية الى تبني مبادىء وسياسات ليس لها اساس في القانون الدولي مثل الحق في تغيير ما تشاء من انظمة وتوجيه ضربات اجهاضية الى ما تشاء من مصادر تهديد. ولأن خمسة عشر من التسعة عشر انتحارياً كانوا سعوديين فقد اصبحت السعودية هدفاً لهجوم العديد من وسائل الاعلام وهو هجوم لم يقابله الرد الكافي. لم يكن هناك متحدثون رسميون باسم وزارة الخارجية اوالاعلام او الداخلية مستعدون دائماً لاشباع شغف الاعلام الخارجي بمعرفة موقف المملكة. ولعل السبب ان السعوديين وجدوا انفسهم في موقف غير مألوف فهم متهمون بعلاقة من نوع ما بأعمال قام بها متطرفون خارج المملكة بينما كان ما اعتادوه هو التعامل - وبحزم - مع التطرف داخل المملكة. ذلك ما حدث في موقعة "السبلة" عام 1929 حين تسبب اولئك المتطرفون تحت شعار الاعتراض على بدعة التيل التلغراف والمكوس الضرائب في حرب اهلية وذلك ما حدث بعدها بخمسين عاماً حين قطعت رؤوس من قاموا باحتلال الحرم المكي. السعودية كانت هدفاً للتطرف والأرهاب مثلما كانت الولاياتالمتحدة ولكننا لم نستطع ايصال هذه الرسالة الى الرأي العام الأميركي. وهكذا اصبح وضع العلاقات السعودية الاميركية بالغ الصعوبة وبشكل لم يسبق له مثيل في تاريخها الطويل، ولن تذلل هذه الصعوبة بمجرد الاتصالات الرسمية. فالرئيس الاميركي اقوى رجل في العالم ولكن قوته مستمدة من دعم الكونغرس والرأي العام الاميركي له بل ان الادارة الاميركية نفسها منقسمة بن الصقور والحمائم ولا يبدو الرئيس الحالي قادراً على جعلها تتحدث بلسان واحد فلا هو يملك خبرة ابيه الطويلة في الشؤون الخارجية ولا سرعة استيعاب سلفه بيل كلينتون وقدراته البلاغية، ومن ناحية اخرى فإن الحكومة السعودية تجد نفسها بين ضغوط اميركية للسماح باستخدام اراضيها لضرب العراق وبين رأي عام سعودي وعربي واسلامي يرى ان من يستحق الضرب هو من يستخدم طائرات "إف 16" و"أباتشي" هليكوبتر الأميركية لحصد المدنيين الفلسطينيين. التعامل مع الدول الكبرى ليس أمراً جديداً أو طارئاً على السعودية، فالملك عبدالعزيز حين منح امتياز التنقيب عن البترول لشركات أميركية كان يسعى الى موازنة نفوذ بريطانيا العظمى المسيطرة على الخليج. وكان قبل ذلك وبعده يتعامل مع المقيمين البريطانيين في ما يتعلق بتلك المنطقة. وكان في تعامله يحاول الحفاظ على علاقات جيدة مع تلك القوة النافذة في المنطقة، بل ان حرب "السبلة" التي سبق ذكرها كان بين اسبابها اصرار المتطرفين وقتها على حرية إقامة القلاع على الحدود العراقية ومن ثم مهاجمة تلك الاراضي التي كانت تحت مظلة بريطانيا. وهناك حادثة متداولة حول برقية وردت من تشرشل يطلب فيها من الملك عبدالعزيز تسهيل مرور تموينات عسكرية بريطانية عبر الحدود الشمالية السعودية، وعندما احالها الملك الى مستشاريه أوصوا برفض الطلب، لكنه امر باعطاء كل التسهيلات لمرور تلك التموينات وتقديم المؤونة لناقليها وأخبر مستشاريه انه أولاً لا قبل له برفض طلب بريطانيا العظمى في ظروف تلك الحرب ثم ان تلك البرقية الواردة من رئيس وزراء بريطانيا تمثل اعترافاً بتلك الحدود السعودية. واذا كانت المملكة مدركة اهمية التعامل مع الدول الكبرى في عهد الملك عبدالعزيز فإن ذلك الادراك استمر بعد قيام اسرائيل وخلال المد القومي وحتى يومنا هذا. عندما هاجمت الطائرات المصرية نجرانجنوب السعودية إبان ثورة اليمن اوائل الستينات من القرن الماضي لم يتردد الملك فيصل في نشر الرسائل المتبادلة مع الرئيس كيندي والتي تعهد فيها بالتزام الولاياتالمتحدة بأمن المملكة وسلامة أراضيها وهو تعهد جرى تكراره بعد كيندي ولم يتردد في استقبال طائرات عسكرية اميركية لإظهار ذلك الألتزام خلال تلك الأزمة. وحين جاء ديك تشيني وزير الدفاع الأميركي بعد احتلال الكويت الى جدة مصحوباً بصور الاقمار الصناعية والمعلومات الاستخبارية لاقناع السعودية بأن القوات العراقية تنتشر بأوضاع توحي بأنها على وشك مهاجمة السعود ية اتخذ الملك فهد ما يمكن اعتباره أصعب قرار حتى الآن وهو السماح لقوات التحالف بالتمركز في المملكة واعطاء تلك القوات كل التسهيلات لتحرير الكويت. كانت المملكة تسعى الى دفع الشر عنها وعن الكويت وكانت الولاياتالمتحدة تريد منع صدام من السيطرة على 45 في المئة من احتياطي البترول في العالم. كان هناك التقاء في المصالح ولم يكن هناك كما تصور بعض وسائل الاعلام الاميركية اليوم استغاثة من السعودية بأن تأتي الولاياتالمتحدة لانقاذها. علاقات السعودية مع الولاياتالمتحدة إذن تمتد جذورها عبر أعوام طويلة ولا يمكن لأي من جانبيها التنكر لها رغم الصعوبات الحالية. نعم من حق المواطنين السعوديين التعبير عن امتعاضهم من السياسات الأميركية بمقاطعة منتجاتها ومن حقهم تحويل استثماراتهم بعيداً عن نيويورك أمام سماع التهديدات بتجميدها ولكن الأمر يختلف عندما يكون ذلك سياسة حكومية رسمية وهو ما لم تفعله الحكومة السعودية ولا ينبغي لها في الظروف الحالية ان تفعل. كما لا ينبغي لخطابنا الاعلامي السعودي ولا العربي ان ينحدر الى مستوى التهجم الانشائي والشتائم. لم ينفع الحديث عن "شذاذ الآفاق" و"العصابات الصهيونية" و"اسرائيل المزعومة" في منع قيام اسرائيل ولم ينفع "اللي مش عاجبه يشرب من البحر" و"اللي عايز يهجم خليه يتفضل" في منع نكبة عام 1967 التي لا نزال نئن تحت وطأتها، ولن تنفعنا اليوم "العنتريات التي ما قتلت ذبابة" ولا الحديث عن "أبناء القردة والخنازير". قد لايرضى عنا الاميركيين لا الانكليز حتى نتبنى مؤسساتهم واسلوبهم في الحياة ولكن من قال ان رضاهم هو المطلب الذي يسعى اليه ومن قال ان رضاهم غاية تدرك؟ المطلوب هو رضا الاطراف جميعها عن علاقات تعود عليها بحد أدنى من المنافع. وسيتطلب ذلك منا اولاً وقبل كل شيء اصلاح ما بأنفسنا. فقد نتبادل الزيارات الرسمية على أعلى المستويات وقد نستخدم أفضل شركات العلاقات العامة ولكن ذلك كله لن يغني عن مراجعة أوضاعنا عن الداخل. إذ لا يزال اقتصادنا يعتمد على البترول ومازالت الميزانية تعاني من العجز عاماً بعد عام. ماذا لو توجه انتحاريو الأبراج الى مصافي النفط في المملكة أو محطات التحلية؟ سننال احتراماً اكبر من العالم بمؤسساته المالية والسياسية عندما يكون لدينا شفافية اكبر وهدر أقل. ان النظام السياسي في المملكة لم يفرض من دولة استعمارية وانما نبع من الداخل ورعاه الملك عبدالعزيز على مدى خمسين عاماً واتسم دائماً بالانفتاح على المواطنين. وقد بدأ تنظيم هذا الانفتاح بقيام مجلس الشورى وهناك مجال لتطوير ما تم من خطوات. مالذي يمنع مثلاً من نشر مناقشات مجلس الشورى وهي على مستوى رفيع ومشرف وتعكس وجهات نظر مختلفة علماً بأن عدداً من الدول المجاورة تفعل ذلك؟ ومالذي يمنع من دراسة تجربة هذه الدول في قيام مواطنيها باختيار من يمثلهم في إطار نظام يحقق الاستقرار والاستمرارية؟ ذلك ممكن حتى في مجتمع محافظ لا تزال عناصر فيه تعترض على إدخال اللغة الانكليزية في التعليم الابتدائي ولكنه مجتمع تقوم الحكومة فيه دائماً بدور قيادي في تقديم ما هو نافع. بعد ذلك كله لابد ان نتذكر ان العلاقات مع الولاياتالمتحدة لايمكن ان تسير على وتيرة واحدة بل انها ستختلف حسب الظروف والمصالح. لكن في كل الاحوال لا ينبغي ان نكون في موقف الشاعر الذي قال : فإن وصل الذ به فوصل وان صرم فصرم كالطلاق فبين الوصل الملذ والطلاق هناك شعرة معاوية المشهورة التي تشد وترخي، وهي ليست حكراً على العلاقة بين الراعي والرعية وانما تصلح تماماً لربط المصالح واستقرارها بين الدول. * وزير المال والتجارة السابق في السعودية.