يعتبر شعر محمود درويش امتداداً للشعرب العربي عموماً، والفلسطيني خصوصاً، لا سيما جيل الثلاثينات الفلسطيني امثال ابراهيم طوقان وعبدالرحيم محمود وأبو سلمى. وهذا ما دفع ناصر علي الى تأليف كتاب بعنوان "بنية القصيدة في شعر محمود درويش" بدءاً من اول ديوان له "أوراق الزيتون" حتى "سرير الغربة" و"جدارية محمود درويش". وقد سعى المؤلف فيه الى فهم العلاقة القائمة بين العناصر المكونة للقصيدة عند الشاعر، فتتبع مراحل تطورها، من بساطة الغنائىة في البداية الى القصيدة الطويلة المعقدة، التي اعتبرها في اعماله الاخيرة بلغت مرحلة النضج. والكتاب في اربعة فصول وخاتمة، جهد المؤلف فيها للإلمام الكامل بتجربة هذا الشاعر الفريدة بين جيله من الشعراء. فإذا بدأ درويش في الشكل التقليدي للقصيدة، من حيث البناء والاطار الموسيقي، والخطاب المباشر الممتلئ حماسة والنصر على الاعداء، فإنه بعد ذلك ذهب الى ابعد من ذلك بكثير متخلياً عن تلك الخطابية الى صنع القصيدة كقصيدة وكتابة الشعر كشعر، لكن درويش لم يتخل عن بداياته التي يعتز بها ايضاً حيث حققت له جماهيرية كبيرة في الوطن العربي. كانت اللغة في دواوينه الاولى تميل الى السهولة والوضوح، لكن الامر اختلف في ديوانه "حبيبتي تنهض من نومها"، إذ تغيرت اللهجة من الصراخ الى الصوت الهامس الشفاف. واعتمد درويش اللغة الايحائية، التي كانت من ابرز جوانب التطور في اسلوب شعره، الى جانب رموز مستوحاة من القصص القرآني نوح وأيوب والاساطير القديمة طروادة وبابل وأحياناً استوحى رموزه من التوراة. اما ابرز ظواهر التطور في الشكل عند درويش، فهو التحرر من قيد التفعيلة في بعض اجزاء القصيدة، او رأيناه يعتمد في تشكيلها الموسيقي على المزاوجة بين الجمل الشعرية الموزونة، القائمة على وحدة التفعيلة. والجمل المنثورة التي لا تفعيلة لها، وتطالعنا هذه المحاولة في مجموعته "أحبك او لا أحبك". واذا كانت المرحلة السابقة في شعره الغنائىة - الدرامية بدأت بخروجه من الوطن واستقراره في بيروت، هي المرحلة التي نضج فيها شعره فنياً، حين اخذ يتناول الموضوعات تناولاً مباشراً، بعيداً من الانفعال، فإنه في هذه المرحلة تطور وعيه ورؤيته الى وعي انساني عام، منفتح على ثقافات الشعوب، قديمها وحديثها، وعقلية تنطلق من الواقع، قادرة على الخوض في جدال مع العالم، يقدم الممكن في ظل الواقع الذي يعيشه، بعد ان تخلص من الشعارات، وعاد يعبر عن الوعي العام، بعدما أفاق من صدمة الخروج من بيروت، في هجرة جديدة ليس لها نهاية كما يقول: "لقد امتدت الفكرة الفلسطينية وانتشرت خلال هجومها الاسطوري في حصار بيروت الى مساحة الكون الانساني". ونجد النص، وفق مفهوم التناص عند درويش حيوياً دينامياً متجدداً متغيراً من خلال تشابكاته مع النصوص الاخرى. لا ينطوي على دلالة واحدة، انه متدفق دائماً بلا نهاية. ويتبين من متابعة درويش، انه قادر على ابتداع الرمز ودمجه في تجربته الشعرية، كأنه الرمز الخاص به. يصور مثلاِ البعث في جذع السنديان، والسنديان نبات دائم الخضرة كأنه يقول: الفلسطيني هو هذه الحياة المتجددة التي لا تموت، وحين استخدم السنديان رمزاً فكأنه يعلن ان البعث الذي يعنيه ليس بعث الفرد وانما بعث الامة، وهذه صورة متكررة عند درويش، صورة الافتداء التي تعني الحياة المتجددة، تكون الحياة مستمرة باستمرار الموت. وفي "المفارقة" في شعر درويش، توافرت عوامل كثيرة في ذاكرته كان التناقض من سماتها الرئىسة. ومن هذه العوامل اشخاص قريبون منه، ظلت آراؤهم باقية في ذهنه، وتفرض وجودها عليه، ما اثر في شعره، ومن هؤلاء: الأم والأب، والجد والعم. الى جانب الظروف التي خلفتها الاحداث التاريخية، وفرضت على الفلسطيني واقعاً يجمع بين عناصر المأساة والملهاة، فوجود درويش في فلسطين قبل ان يغادرها عام 1972 كان قائماً على المفارقة: صاحب الارض يُطرد ويحل محله غريب، يأخذ مكانه ابن غير شرعي، وفلسطين تصبح اسرائىل، التي لم تكتف بسلب الفلسطيني الارض بل سعت الى حرمانه من الهوية. ويتدفق الاحساس بالتناقضات في نفس الشاعر كلما كان يسافر خارج فلسطين وهو يحمل جواز سفر اسرائيلياً، ولا يعترف به العالم الذي يقف على ارض مطاره. وبعد خروجه من فلسطين برز له وجه آخر من وجوه التناقض في العواصم العربية، انه يعيش بين اناس يعتبرهم معه في صراعه مع العدو لكنه يرى غير ذلك، وكتابه "ذاكرة للنسيان" الذي صور فيه حصار بيروت عام 1982. وخروج المقاومة منها يشكل مجموعة من المفارقات التي تمثل المحنة التي وجد الفلسطيني نفسه فيها، يختلط فيها شقيقه بعدوه، وحليفه بغريمه، فتكون هذه المواقف روافد تعينه على رسم هذا الواقع، ويظهر هذا الاحساس في قصيدة منها: "يحبونني ميتاً ليقولوا: لقد كان منا وكان لنا". بقي ان اقول اننا اذا ألقينا نظرة عجلى على هذا الكتاب، وحذفنا الاستشهادات في قصائد الشاعر، والمصادر الكثيرة التي اعتمدها الكاتب في السياق التأليفي، في الحقيقة لا يبقى منه الا القليل القليل.