أسرار الخارجية الأميركية على قارعة الطريق، تعاقبت صحف لبنانية على شرائها من ويكيليكس، بعد أن ثبت، من دون دراسة جدوى، أن عائد النشر يفوق كل توقعات البورصات المحلية والعالمية. غير أن «ويكيليكس» لم تهتك الأسرار المتعلقة بالوضع اللبناني وحده، بل تناولت سواه مما تيسر لها القبض عليه بالقوة الإلكترونية. غير أن «ويكيليكس» لم تكشف سر تفوق الاستثمار في الأرض اللبنانية الخصبة على غيره من الاستثمارات المشابهة في أراض وحقول أخرى. الموضوع المشترك في فضائح ويكيليكس هو الموقف من «حزب الله» وسلاحه. لم يضبط أي طرف لسانه، والكل أدلى بدلوه. لكن الفضائح لم تسلم من التصنيف هي الأخرى فوقعت بين فكي 8 و14آذار. ووقع «الحزب» وأوقع حلفاءه في ردود فعل استنسابية، فأقام الدنيا ولم يقعدها، وعد فضيحة ما بعدها فضيحة أن يتناول أحد سلاحه وينتهك «قداسته»، ووظف ذلك في أم المعارك (خير شاهد على معارك القال والقيل معركة شهود الزور باعتبار ما صدر عنهم حتى الآن لا يعدو كونه من باب القال والقيل) ونظر إلى بعضها بعين الاستغراب وإلى بعضها الآخر بالنفي والاستنكار...حتى بات من أركان «الإيمان» بالحزب والدفاع عن سلاحه ذود حلفائه عنه حتى لو كانوا من المستغيبين، وصار فعل الإيمان هذا واجباً كالصلاة تسخر له مؤسسات دينية ويشرف عليه رؤساؤها. كان يمكن أن تحظى «ويكيليكس» بسبق إعلامي وديبلوماسي وسياسي، لأنها تمكنت من أن تنشر قبل الأوان أسرار الخارجية الأميركية التي ستكون مباحة بالتأكيد، أمام الجمهور، بعد عقد من السنوات أو عقدين، تبعاً لأهمية أو لخطورة ما فيها. هذا شأن كل أرشيف ديبلوماسي في كل البلدان صغيرها وكبيرها، فما أن يرفع الحظر عنه حتى يتحول إلى مادة وفيرة للمؤرخين يبحثون فيه ويكتبون عن الصفحات المنسية، كل عن تاريخ بلده. أما «ويكيليكس» اللبناني فله نكهة أخرى أخذت طعم السياسة المحلية وخصوصيتها. لقد انقرضت تلك التقاليد التي نشأت مع الجيل الاستقلالي الأول، وتم استبدال رجال الدولة الكبار برجال سياسة صغار، وتحولت المناورة السياسية المبنية على الذكاء والحنكة إلى « مقالب» تشبه «مقالب غوار» وإلى أفخاخ ينصبها فريق لفريق، واستولى منطق التشبيح وأصحابه على دفة القانون، فصارت عربة الدولة تقاد بآليات سوق البهائم...أي أن السياسة عادت إلى أصلها اللغوي: من ساس يسوس وكانت تقال للدواب، إلى أن صارت الدولة والمطي تساس كالدابة. كان ينبغي أن يكون السبق في التوقيت لا في المضمون. لقد تم كشف السر قبل الأوان. هذا هو الأصل. أما اللبنانيون فرأوا السبق في كشف المضمون والمحتوى لا في التوقيت، لأن السياسة صارت مع هذا الجيل الجديد قائمة على «القال والقيل « لا على الحدث. حتى أن هذه الظاهرة القبيحة فرضت نفسها على نشرات الأخبار، حيث الخبر قول ورد على قول : «قال وقيل». سيدة الموقف وصانعة الحدث في مثل هذه الحال هي الاستغابة. والاستغابة هي، بالتعريف، «كلام يقال بالقفا» أي بالسر، وينطوي على نية بالأذية و» الفتنة». وإذا كان من الطبيعي أن يدافع المرء عن قفاه، فمن الطبيعي أيضا أن تسمى الاستغابة، لا سيما منها ما ساءت نوايا أصحابها، حين يفتضح سرها، بالفضيحة. أول ما يبادر إليه المستغاب هو الشتم والقدح والذم والتهديد والوعيد والرد بالويل والثبور وعظائم الأمور، وصولاً إلى التكفير(هذه المرة على رؤوس الأشهاد، بعد الهجاء الصراح والكلام المستباح ). أما المستغيب، حتى لو كان ما قاله صحيحاً، فينكر أقواله أمام المدعي العام ( الرأي العام)، أو يزعم أنه قالها «في غياب المحامي» و»تحت ضغط التحقيقات الأولية»، أو يستظل بشعر المتنبي القائل: كلما أنبت الزمان قناة ركب المرء في القناة سنانا يعني أن هناك من يركب الموجة ويوظف الكلام للأذية، أو بنصف بيت الشعر الشهير: وما آفة الأخبار إلا رواتها، لا سيما حين يكون الرواة هم الإمبريالية والشيطان الأكبر، ناهبة ثروات العالم وآكلة خيراته، الخ. حتى بات من سخرية المصائر والعولمة اختزال سياسة الدولة العظمى بنقل الكلام وتلفيق الأخبار. هذا يثبت أن السياسي الذي يخاف من القال والقيل هو الذي يمتهنه (صانع السم آكله)، ومن الطبيعي أن من يمتهن الاستغابة وسيلة للصراع ( والفتنة) تأخذه المفاجآت وتذهب به الخفايا والخبايا كل مذهب. إنها السياسة القائمة على الكلام، على القال والقيل. ينتظرون تصريحاً لمسؤول أجنبي أو صهيوني ليثبتوا أن إسرائيل دولة معادية وعنصرية، أو ليثبتوا أن الولاياتالمتحدة الأميركية تدافع عن مصالحها في كل الكون وأنها الأكثر نفوذاً على الكرة الأرضية؟ بل إن سياسية القال والقيل هي الأسلوب الوحيد الممكن لكشف المؤامرات، لذلك تراهم لا يعبأون بالعلم والتحليل، بينما تنفق الدول التي تحترم نفسها جزءاً كبيراً من موازنتها على البحوث العلمية. المعرفة وحدها تبطل المفاجأة. كانت ظاهرة الخسوف والكسوف تحدث مفاجأة كلما تكررت، وظلت مستغربة إلى أن انجلى سرها بالعلم والمعرفة. إن كشف الأسرار في السياسة لا يحتاج إلى «ويكيليكس»، بل إلى معرفة. قال أحدهم لسياسي من غير أهل القال والقيل: هل سمعت خطاب فلان؟ أجابه: لا، لكنني أتخيله فهل أقول أمامك ما قال في خطابه. نعم يستطيع المرء أن يعرف ما يضمره خصمه أو عدوه، بالعلم أو بالجاسوسية، لكن أبداً ليس عن طريق القال والقيل. غير أن سياسيي الويكيليكس اللبنانيين هم ممن ينطبق عليهم قول المتنبي: فتكبر في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم (ما أسهل أن يصنع الصغيرمن الحبة قبة). حين يضمر السياسي شيئاً ويفصح عن شيء مغاير، يسمي ما فعله مناورة. والمناورات درجات، منهم من يتقن هذا الفن فيتلاعب بأسراره وأسرار عدوه كالساحر، ومنهم من يحملونه جزءاً من السر ويكلفونه البوح به، وهؤلاء أيضا درجات، لذلك قيل: خذوا أسرارهم من صغارهم، والأمثلة لا تحصى في معرفة الأسرار السورية من صغار اللبنانيين. معظم سياسيي لبنان وقعوا في فخ القال والقيل فامتهنوا إفشاء الأسرار، وصاروا من مروّجي الإشاعات التي يصنعها سواهم، حتى نأوا بأنفسهم عن صنع القرار ليمتهنوا الترويج ويحولوا الصالونات السياسية إلى «صبحيات» يتبادلون فيها أطراف الحديث، ويفرجون عما في صدورهم من غيظ، ويجعلون المناورة الذكية مرادفاً للكذب المقيت، والسياسة الراقية نقيضاً للقيم الأخلاقية. الذين أكدوا ما نسب إليهم وقالوا في السر ما قالوه في العلن قلة، لذلك بدوا كأنهم هم الشاذون عن القاعدة. أحدهم قال: وهل يظن «حزب الله» أن خصومه يكيلون له المديح في غيابه؟ ربما آن الأوان ليرتقي سياسيو لبنان درجة تلو درجة نحو صنع قرارهم بأيديهم. ساعتئذ فقط يمكن لهم أن يتعلموا أصول الخصومة والصداقة، ويدركوا أن السياسية لا تصنع بالقال والقيل وأن فضائح «ويكيليكس» ليست سوى ثرثرة. * كاتب لبناني