ثمة وسائل معروفة لتحديد النسل، منها ما هو للنساء، ومنها ما هو للرجال، وهناك وسائل مبتكرة، مثل "اللمبة"، وهذه يضيئها الزوج في غرفة النوم ويرى زوجته، ويقرّر النوم. هذه الوسائل كلها معروفة في مصر، غير ان معها وسيلة أخرى أبلغ اثراً منها مجتمعة اسمها حركة السير، فهي تقتل أكثر من التدخين، ولا أصل الى القاهرة الا وأسمع ان الحكومة قررت ان تعالج المشكلة. أعترف بأنني أخاف من السيارات في أم الدنيا، وسمعت أن سائحاً وجد سائق التاكسي في القاهرة لا يقف على الضوء الأحمر، وكان يحذره كل مرّة، ويقول السائق: "لا تخف أنا سواق محترف". وأخيراً وصل التاكسي الى تقاطع طرق فوقف على الضوء الأخضر. وسأله السائح لماذا فعل ذلك، فقال انه قد يأتي سواق محترف مثله من الجانب الآخر. مع ذلك السيارات لن تثنيني عن زيارة القاهرة مرّة أو مرّتين في السنة، فأقضي أربعة أيام أو خمسة، عادة ما تكون أجمل وأنا أعمل من أيام مثلها أقضيها في إجازة. القاهرة للسائح هي النيل والهرم، غير انها لي الاصدقاء، من كبار المسؤولين الى أمثالي غير المسؤولين بالمرّة. وكان حظي طيباً هذه المرّة، فوصل الصديق عمرو موسى، الأمين العام لجامعة الدول العربية، من الخارج قبل سفري بيوم، ورأيته في مقر الجامعة مساء، ووجدت معنوياته مرتفعة، فالديبلوماسية العربية الجماعية على هامش دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك أسفرت عن قبول العراق عودة المفتشين الدوليين من دون شروط، ما رفع شبح الحرب عن المنطقة الى حين. وساعد السيد موسى في الوصول الى هذه النتيجة معرفته بكواليس الأممالمتحدة ودهاليزها من أيام عمله سفيراً لبلاده فيها، والدور الإيجابي للأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان. غير ان هذا موضوع سأعود إليه بعد أيام، أما اليوم فأكتفي بالسياحة مع القارئ في القاهرة. كنت جلست مع وزير الخارجية السيد أحمد ماهر في مكتبه، وحكيت له أنني كنت في المكتب نفسه مع السيد موسى في الثامن من تشرين الثاني نوفمبر السنة ألفين، عندما أعلن التلفزيون خبر فوز جورج بوش بالرئاسة. وفرحنا ورحّبنا وعشنا لنندم ندامة الكسعي. عمرو موسى وأحمد ماهر مسؤولان كبيران، وقد لا يستطيعان الجهر بشعورهما الحقيقي، غير انني لست مسؤولاً، والى درجة الصراحة فأقول انني ندمت كثيراً، وأدركت انني أخطأت، ولا يمضي يوم من دون ان تزداد قناعتي بأن جورج بوش الإبن ليس كأبيه، وانه حتى لو افترضنا فيه حسن النية، فإنه جاهل بأبسط الحقائق في الشرق الأوسط، ويكفي انه يعتبر آرييل شارون رجل سلام. سمعت من الوزير أحمد ماهر في مكتبه، ما كنت أسمع من الوزير عمرو موسى قبله، وما سمعت في السبعينات من الوزير العظيم اسماعيل فهمي، رحمه الله، فالسياسة المصرية هي سياسة الدولة. وعلى رغم الفارق في الشخصيات بين رجل وآخر، فإن الثوابت، كما يدل اسمها، باقية. هذه المرة كان لي سبب إضافي للسعادة في وزارة الخارجية المصرية، فقد رأيت فيها الأخت العزيزة فايزة أبو النجا، وزيرة الدولة للشؤون الخارجية التي عرفتها من جنيف الى نيويورك وبالعكس. كنت دائماً معجباً بقدرة فايزة أبو النجا، وأعجبني ان يكون الرئيس حسني مبارك لاحظ هذه القدرة وأعطى صاحبتها منصباً ستملأه بجدارة. ووصلت الى القاهرة وأنا أشكو من كثرة العمل، ووجدت فيها فوراً من يعمل أكثر مني. فقد كان اجتماعي الأول مع الصديق الدائم صفوت الشريف الذي أصبح يحمل قبعتي وزير الاعلام والأمين العام للحزب الوطني. والاعلام في مصر مستقرّ، غير ان الحزب الوطني يخوض حملة تجديد كبرى يلعب فيها جمال حسني مبارك دوراً قيادياً. والسيد صفوت الشريف يعمل هذه الأيام صباحاً في وزارة الاعلام، وبعد الظهر والمساء في مقر الحزب الوطني، ومن رأى عمل غيره هان عليه عمله. يكفي حكومة، فقد رأيت الصديق العزيز عمرو عبدالسميع الذي عاد من نفي اختياري في لندن وواشنطن الى موقعه الطبيعي في "الاهرام". وفاتتني رؤية أستاذنا الكبير محمد حسنين هيكل، فقد اختار ان يذهب الى لندن عندما غادرتها الى القاهرة، ومثله الصديق الدائم عماد الدين أديب، فقد كان مسافراً أيضاً. الا أنني وجدت في القاهرة الزميل الدكتور وحيد عبدالمجيد، وهو أعطاني أعداداً من مجلة حزب الوفد "البداية"، وهو مدير التحرير فيها، ووجدتها من مستوى مهني ممتاز، فأرجو ان يفكر القائمون عليها في توسيع أفقها لتصبح جريدة عربية عامة لا مصرية فقط، مع انني أعتقد انه لو كان اسم المجلة "النهاية" لكان أقرب الى واقع الحال العربي. ماذا أزيد؟ رأيت في مكتب "الحياة" منتصر الزيات، محامي الجماعات الإسلامية، وهو مرجع ثقة في موضوعه. والإسلاميون في مصر واقعون في حيرة، أو حيص بيص كما يقول الفقهاء، إزاء العراق، فهم يعارضون صدام حسين، وكذلك يعارضون الولاياتالمتحدة وأي ضربة للعراق، ولا بد من ان نسمع قريباً أي المعارضتين أقوى. وأخيراً، فقد دخلت الفندق ذات مساء وقابلت في البهو صدفة الأخ محمود رشيد خالد سلام، مستشار الرئيس الفلسطيني، ووجدت عنده بحراً من المعلومات والأفكار التي لا بد من ان يتسرّب بعضها الى هذه الزاوية في الأيام المقبلة. وعادتي ان أترك القاهرة ثم أبدأ فوراً بالتفتيش عن عذر للعودة، غير انني لا أحتاج الى اختراع الأعذار هذه المرة، فسأعود قرب نهاية تشرين الأول أكتوبر للمشاركة في مؤتمر "مؤسسة الفكر العربي" الذي سيفتتحه الرئيس مبارك.