بدأبه على مشاغلة البيئة، يكاد المخرج السوري محمد قارصلي يختصر "أزمة" السينما المحلية التي تعاني "خنقة" انتاجية "متورمة" لا يبدو ان الفكاك منها سيكون قريباً. ضيق التنفس وأزمة الهواء النظيف صارا مشغلة الاكاديميين والهواة على حد سواء، على رغم ان قارصلي الذي يجد فسحته الاخراجية في نهر هذه الازمة مسؤول بدوره عن "توريط" خمسة عشر شاباً في دورة اخراج سينمائي 1999-2000 هي الاولى من نوعها، ولم تتكرر فيها اللازمة لضيق في التمويل ايضاً. وهي لازمة مصدّعة تلهج بالأزمة والمأزوم والتأزم في دائرة تعاني كثرة الاصوات والنيات المطالبة بتجديد السينما لشبابها وقرابينها و"مستمعيها"! سلفاً قد يصح القول ان المخرج قارصلي الذي ساهم بتوريط هؤلاء الفتية في مشاريع سينمائية غامضة، هو نفسه متورط، اذ تظل مشاريعه مجرد تقريب اولي للابتعاد او الالتصاق بفيلم "ساحر متفوق" عن بيئة مهزومة، او هي في طريقها نحو الانحسار المكثف، كما حدث مثلاً في فيلمه البيئوي الاول "غداً" اذ لا نتكلف التكهن اطلاقاً ان القصاص من الارض التي نقف عليها اليوم، يكمن في مسودة الروح الداخلية الموروثة بفعل تربية حياتية تسهم في تلوث الابصار والاسماع... والبيئة، هذا ما يريد قارصلي ان يقوله لنا. وقد نال هذا الفيلم البيئوي ما يكفيه من التقريظ والجوائز الجائزة الاولى في مهرجان سريلانكا البيئوي والجائزة الثانية على العالم في مسابقة الأممالمتحدة لأفضل فيلم عن البيئة، كما نال هذا العام ذهبية الاخراج في المهرجان العربي الاول لأفلام البيئة في الرياض. هذا التقريظ البيئوي، وهو تقريظ من نوع سجادة بصرية فاخرة يخفف من نسق علامات الورطة الكبرى. صحيح إن البيئة مكان، وليس هناك ما هو اروع من المكان لصناعة سينما محلاة بسكر البلاد لولا نحنحة جائزة في عدة "الاصوات" التي تتشكل منها عادة الاقمار والسحب. مرثية متأخرة فيلم "بردى" مثلاً - 30،9 دقائق - انتج بالتعاون مع الجمعية السورية للبيئة والحكومة اليابانية هو مرثية متأخرة للنهر الفالت من اساطير الزمن. فهو في الواقع لم يعد موجوداً إلا في ورطة قارصلي نفسه، وكذا الحال بالنسبة الى مجراه الذي اغارت عليه يد الانسان بحكم ورطة وجودية مبهرة وآسرة لصايغها على الاقل... وقد انتفخت حداثة النهر الذي اعان الشعراء والمغنين يوماً على تنسم الابدية والبقاء والفيوض الآدمية... ألا يكفي ان صوت السيدة فيروز ينبع منه كما في الاغنية، وبينما يتعب النهر، ويتوقف مرغماً عن الدوران في مملكة الرعش الازلي، ليظل صوت فيروز مدوياً انا صوتي منك يا بردى. النهر في صوره القديمة يفيض بالأسماء والوجوم والتردد، وهو ربما بدا كالحاً منذ زمن بعيد، ذلك رن المخرج قارصلي الذي يحفر بكاميرته في شرايينه إنما يحاول ان يصنع له صورة مفارقة للورطة التي وجد نفسه فيما كمخرج اكاديمي مؤهل... وذلك ربما ليزيد من حجم الورطة وحجم مساءلة النهر الذي اغلق الباب يوماً محمود درويش وهو يغادر فلسطين نهائياً مستهل سبيعنات القرن الماضي، فقد انتظر عناق النهر الاسطوري وكأنه اول معين على الاستزادة في اللغة العالية يهل من خدرة مياهه. وقد عاد الشاعر في تلك الايام الى محبسه وهو خدران من وحشة النهر وأوهامه التي صنعت نسيانه الفذّ ومياهه العابرة للأفئدة والأحلام... ومنذ تلك اللحظة صار يعد اضلاع قصيدته فيهربمن يده بردى ومرافقها! فيلم "بردى" بهذا المعنى ازمة المخرج قارصلي، وهو يبحث جسوراً بعض الشيء عن نباهة نهر السينما السورية المتوقف، فلا يسعفه "أنين" الماء والنوافير والشلالات، فهي توقفت طواعية عن شخيب اللذة الكاسحة، وظلت تتقلب ناعية وناعبة امام خمسة اطفال ومدرّسة رسم تورطوا في مجرى النهر فانتبهوا وقوفاً... ذلك ان الكاميرا ظلت محايدة في التعرف الى المجرى الآسن، فما من لون للماء في دفتر الطفل الصغير حتى يضع اشارة استفهام عن مغزى وجود لنهر خالد في فيلم قصير او في اغنية او قصيدة... او حتى عن مغزى عمل فيلم كهذا من الاساس؟!!