"يأتون من الجبل" "بطن الجبل" "هويات وعناوين وإنارة اظن" "نعم" كان علينا ان نأخذهم اثر عطب حدث. كانت وجوههم مكفهرة من التعب، وثمة رائحة غبار تتطاير من نسيج ملابس ثقيلة يرتدونها، وثمة عيون غائرة. "لا أحد يتحمل أحداً" "ما العمل" تساءلت عن السبب الذي يدفع احدهم الى السكنى هناك. قلت: لعلها الظروف. لم يلق أحدهم تحية. كانوا - فقط - يتدافعون بحثاً عن أماكن خالية يشغلونها. كانت رؤوسهم تميل بدرجة ملحوظة الى أسفل، فوق اكتاف قوية وضيقة، ولا شيء غير همهمة تصاحب اندفاعاتهم. ظل المكان شاغراً، لم يأتِ أحد ناحيته. كان من اللائق أن أرفع حاجياتي، جريدة، جراب نظارة لي، صورة، كوفية صوفية متآكلة. الجالس - أساساً - جواري، كاشفني أمس، كان في حاجة الى الراحة. "دعك من الاعتراض". "الأحوال تغيرت". "يقولونها هكذا". "تعرف" همهم أحدهم بكلام لم أسمعه جيداً، كان يتحدث مع آخر - في ما أظن - عن شيء مشترك. ريح الحديث كانت لافحة. "نحن ندمج الخطوط معاً". "لا حل أمامنا". "لا نعرف من أين تأتينا الخسارة". كان علينا أن نخترق الجبل لنلتقطهم، ونعود- نخترقه - في المساء، حيث بيوتهم. "دع الامور تجري". "انصحك". اذعنت للأمر، كانت رائحة تهديد تفوح من حلقه، وقائمة - بالفعل - كانت قد تشكلت بحروف آلة طابعة، في مؤخرتها توقيعات كثيرة لمسؤولين لهم أخبارهم ومواقعهم المؤثرة. "هنا مكانك". داخل مربع سميك فوق ورقة الطابعة الممهورة، كان اسمي يحتل مكاناً مدموغاً برقم. أمعنت في القائمة، فأدارها بحنكة ناحية ضوء يتسرب من بين تهرؤ نسيج ستارة وراءه، لم يكن هناك مكان شاغر، كانت ثلاثة خطوط - معاً - قد أدمجت. "انها فرصتك" "اخشى أن تدهمك التصفية" كان أحدهم قد دخل، الرأس المائلة نفسها، العينان الغائرتان، نسيج الملابس الطافحة بالغبار، ونتانة تتبعه. غادرته من دون أن انطق. كان قد عرض - مجاملاً - ان اشرب فنجان قهوتي معه. قلت: مغامرة. في الخارج، كان التعطل يشبه امرأة طاعنة، صفوف وراء صفوف وراء صفوف، ولا شيء يتحرك. "قد تفعلها مرغماً" حدثني صديق فعلها، عن ضمور صدور البنات الذي لا يعرف له سبب واضح. قال صديقي هذا، انه يخشى، واستعاذ بالله، ان يكون المرض. أضاف: ابنتي ايضاً. كانت الامطار تتساقط من دون انقطاع، وكانت غيرها على مدارات أعوام فائتة. وقتها، راحت تخترق طريقاً وعراً وضيقاً باتجاه الجبل، وسط برك لا تنتهي. حاول السائق تفادي بعضها من دون ان يتوقف لحظة عن إعلان سخطه. زمجر احدهم، غير أن السائق ظل على حاله، يسب ويلعن، زمجر آخر وآخر. كان بريق عيونهم ينعكس على جدران العربة من الداخل، يخبو ويلمع، صانعاً دوائر حمراً لاهبة، يسيل بعضها ويتداخل، فيما راحت اصوات زمجرتهم تعلو على دبيب رخات المطر الذي ظل يتساقط من دون انقطاع.