لا ينطوي الحكم سلفاً على المحادثات الفلسطينية - الأميركية في واشنطن بالفشل إلاّ على نسبة ضئيلة من المجازفة. إذ تأتي هذه المحادثات في أجواء أقل ما يمكن أن يقال عنها انها مسمومة، ذلك أن الإدارة الأميركية اليمينية الوثيقة الصلة باللوبي الصهيوني والاصولية المسيحية المتطرفة في الولاياتالمتحدة تبدو منذ أشهر، خصوصاً في الأسابيع الأخيرة، فاقدة العقل والمنطق، تكرس جهودها لتوجيه ضربة عسكرية للعراق وقلب نظام الحكم فيه من دون أن تبدي أي رغبة حقيقية في تسوية الصراع العربي - الإسرائيلي الذي هو مصدر عدم الاستقرار في المنطقة ومصدر الخطر على مصالح شعوبها ومصالح الولاياتالمتحدة. ولا يمكن تفسير هذه النزعة الجنونية المغامرة للإدارة الأميركية إلاّ بتلاقي مصالح أركانها، خصوصاً الرئيس جورج بوش ونائبه ديك تشيني ووزير الدفاع الأخرق دونالد رامسفيلد مع أهداف وسياسات رئيس الوزراء الإسرائيلي ارييل شارون من جهة، ومصالح وأهداف المجمع الصناعي العسكري الأميركي الباحث أبداً عن حروب هنا وهناك، مهما تكن "مبرراتها" واهية غير مقنعة. إن بوش وتشيني يعتقدان أن حرباً على العراق الآن ستبعد الأنظار عن تورطهما مع الشركات الكبرى الأميركية التي انهارت أخيراً بعد انكشاف فضائحها الحسابية، وان الحرب ستكسب الجمهوريين مزيداً من أصوات الناخبين في الانتخابات النصفية للكونغرس في تشرين الثاني نوفمبر المقبل. من هنا فإن الإدارة وحلفاءها اليمينيين يجاهرون الآن بأنهم لا يعبأون بموقف مجلس الأمن ولا يعطون الأولوية لنزع أسلحة الدمار الشامل، إذا كان قد بقي لدى العراق شيء منها، وإنما لإطاحة الرئيس صدام حسين، سواء سمحت بغداد بعودة مفتشي الأسلحة أو لم تسمح. في الجهة الأخرى، على جبهة الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، لم نعد نسمع بأي جهود متابعة لبيان "الرباعية" الذي صدر في نيويورك بعيد منتصف الشهر الماضي والذي أوصى بضرورة تحقيق تقدم "متوازٍ" على المسارات السياسية والأمنية والاقتصادية بدلاً من اعطاء الأولوية لمسار الأمن في معزل عن المسارين الآخرين. وما نراه الآن هو اصرار حكومة شارون على تقديم المسار الأمني على حساب أي أمر عاجل آخر، كالمفاوضات السياسية ومعالجة الوضع الإنساني الكارثي الذي يواجهه الشعب الفلسطيني بسبب الاحتلال العسكري الإسرائيلي وسياسات الحصار والتطويق والتجويع. وعلى رغم قبول القيادة الفلسطينية، أول من أمس، في اليوم نفسه الذي سافر فيه وفدها الوزاري الثلاثي إلى واشنطن، قبولاً مبدئياً بالخطة الأمنية الإسرائيلية القائلة بتخفيف القيود على السكان الفلسطينيين منطقة بعد أخرى تبعاً لاستتباب الأمن في كل منطقة، فإن من الواضح الآن أن شارون لا ينوي السماح بتحقيق أي تقدم في اتجاه تسوية سياسية. وقد نقلت الأنباء أول من أمس ان شارون تبنى توصيات من قيادة الجيش الإسرائيلي تنصحه بمواصلة ضرب الفلسطينيين ومحاصرتهم بالوتيرة الحالية لستة شهور أخرى سيتم خلالها، حسب تحليل رئاسة أركان الجيش الإسرائيلي، إطاحة الحكم العراقي الحالي و"تهميش" الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات واكمال بناء "الجدار الفاصل" على طول "الخط الأخضر" بين إسرائيل والضفة الغربية. وإذا اضفنا إلى ما تقدم ظهور سياسات عنصرية إسرائيلية جديدة مثل الشروع في سحب الجنسية من أعداد من فلسطينيي العام 1948، وتسريع وتيرة هدم منازل أسر الفلسطينيين المشاركين في هجمات سواء داخل إسرائيل أو في الأراضي المحتلة، وإبعاد أفراد من أسر هؤلاء النشطاء إلى غزة، فلا بد من أن نستنتج أن آخر ما يريده شارون هو الوصول إلى تسوية سلمية مع الفلسطينيين. في ظل هذا الوضع الكئيب المثير لليأس، يستطيع العرب أن يسجلوا، ليس فقط ب"أقوى العبارات"، وإنما بأوضح الاجراءات، اعتراضهم على المشروع الحربي الأميركي الجنوني، ويستطيعون حشد موقف الأوروبيين وغيرهم للضغط على الأميركيين لكي يعطوا الأولوية لإطفاء النار في فلسطين.