يؤرخ محمد سهيل طقوش في كتابه "تاريخ السلاجقة في بلاد الشام" الصادر أخيراً عن دار النفائس بيروت، للسلاجقة في بلاد الشام، وبلاد الشام عنده المنطقة الممتدة من جبال طوروس في الشمال الى مشارف سيناء في الجنوب ومن البحر المتوسط غرباً الى بادية الشام أو البادية السورية شرقاً. وهو في رأينا، التعريف الصحيح للمنطقة الذي قبله جغرافيو العرب منذ القرن الرابع هجري/ العاشر ميلادي. ولعلّ أوضح وصف له ورد عند المقدسي الجغرافي في كتابه "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم". والفترة التي تناولها الكتاب أصلاً تمتد من سنة 471 الى 511 ه/ 1078 - 1117م لكن السلاجقة، وهم من الجماعات التركية، جاؤوا من أواسط آسيا، فكان لا بد للمؤلف من التوغل شرقاً لتعريفنا بالأصل وسبل الوصول الى بلاد الشام. وإذا كان التوغل مكاناً أمراً لا بد منه فإن ذلك يستتبع العودة قروناً الى الوراء لتتبع مسيرة السلاجقة الأتراك زمنياً أيضاً. ونحن نرى ان المؤلف أحسن صنعاً في أنه خصص بعض كتابه لهذين الأمرين ص11 - 91. وكنا نودّ لو أنه أتاح الفرصة للقراء أن يتعرفوا الى مؤسسي الدولة السلجوقية الأوائل طغرل بك والب ارسلان وملكشا - من 431 - 485ه 1040 - 1092م. لعلّ هذا كان يعين القارئ على تعيين البوصلة الأساسية لقيام دولة السلاجقة وبدء توسعها غرباً. وثمة أمر آخر نرى انه كان يجب أن يرجأ مكانه من المقدمة المهمة وهو أوضاع بلاد الشام ص 47 - 63 الى مكان متأخر في الكتاب أي حيث يأتي دور السلاجقة تماماً في تاريخ بلاد الشام. يضاف الى ذلك، ومع ان الكتاب هو "التاريخ السياسي" للسلاجقة في بلاد الشام، أما وقد رأى من اللازم أن يبحث الأمر اقتصادياً، ونحن نتفق معه، فإنه كان بحاجة الى توضيح أكبر، ولو على حساب اضافة بضع صفحات، ان بالنسبة للسكان اثنياً ودينياً أو بالنسبة للوضع الاقتصادي. وأحسب انه كان على المؤلف أن يبيّن على وجه أوضح دور موقع الشام اقتصادياً بالنسبة الى مصر والبحر المتوسط وموانئه وبيزنطة والخليج العربي والمحيط الهندي. أحسب ان بضع صفحات كانت تعطي القارئ صورة أوفى، ولن تضيره أبداً. يلفت المؤلف نظر القارئ الى أهمية الفترة التي بدأ فيها التدخل الفعلي السلجوقي في بلاد الشام. وقد أرخ له المقريزي بسنة 447ه / 1055م واعتبر ابن العديم ان التدخل بدأ سنة 456ه/ 1064م، لكن طقوش اعتبر ان الأمر يعود الى سنة 471ه/1078م ص104. وهو يحدثنا عن الدويلات التي قامت في بلاد الشام في الفترة التي أخذ فيها السلاجقة يولون أمور بلاد الشام اهتمامهم ص56 - 61 وهي، بحسب الترتيب الذي أتبعه المؤلف: الامارة المرداسية والامارة العقيلية والامارة المروانية، وأغفل ذكر الامارة الحمدانية، ولعل ذلك على اعتبار ان أمرها كان قد انتهى قبل التدخل السلجوقي. ولكننا نرى أن هذه الإمارة حرية بالذكر لا بسبب سيف الدولة أو المتنبي بالذات، بل لأنها كانت لمدة لا يستهان بها تصل بين الجزيرة الفراتية وشمال سورية وبلاد الروم وما تبقى من بلاد الشام جنوباً، أو كانت أحياناً تقطع هذا الاتصال. وكنا نحب أن يوضع جدوله - بسبب اعتبارات تاريخية زمنية على الوجه الآتي على أساس قيام الامارة: 1 - الحمدانيون 293 - 349ه/ 906 - 1004م. 2 - المروانيون 372 - 478 ه/ 983 - 1085م. 3 - العقيليون 380 - 564ه/ ح 990 - 1169م. 4 - المرداسيون 415 - 472ه - 1024 - 1080م. يبدو كأننا تقصدنا تناول الأخطاء فحسب. لا. ولكننا عنّت لنا هذه الملاحظات فرأينا أن نتقدم بها الى المؤلف وسواه. والمؤلف لم يكتب هذا الكتاب الا بعد ان عاد الى مصادره العربية التي يحسن استعمالها بحكم أن هذا ليس أول كتاب له. ولكننا نسمح لأنفسنا أن نشير الى بعض المراجع الأجنبية التي استعملها. نقول هذا ونحن نسبقه بملاحظة. أنا لا أقول أن هذه الكتب لم تعد فائدة من قراءتها، ولكنها لا تصلح للحصول على أحدث ما توصل اليه البحث حول البحوث التي نتناولها. فعلى سبيل المثال: كتاب جورج فنلي George Finlay عن تاريخ الامبراطورية البيزنطية سنة 1850، لندن ما عاد يصح اعتماده مرجعاً. فقد كتب عن تاريخ البيزنطيين عشرات الكتب منذ ذلك الحين. ومع ان كتاب رينيه كروسه Rene Grousset عن تاريخ الصليبيين منشور في باريس 1934، فإنه لم يعد الأنسب لتفسير الحروب الصليبية. ومع أن كتاب وليم برون أو بارون ستيفنسن William Baron Stevenson عن الصليبيين في الشرق مطبوع سنة 1967، فهو في الواقع ألف ونُشر للمرة الأولى سنة 1905. مثل هذه الأمور حرية بأن نتنبه لها. الدور الذي قام به السلاجقة لموقفهم من الحملات الصليبية، وتمكنهم من منع المحاربين القادمين من الغرب من الاستيلاء على الأجزاء الداخلية من بلاد الشام باستثناء شرق البحر الميت كان انجازاً كبيراً، لأنه حفظ للبلاد الإسلامية خط اتصال بري داخلي بعضها البعض. ومن جهة أخرى فإن هذا الانجاز السلجوقي كان له الأثر الأكبر، كما يرى المؤلف، في تهيئة الجو الطبيعي أي الأرض الصلبة للضربة التي تلقاها هؤلاء على يد صلاح الدين في حطين 583ه/ 1187م والتي كانت الاذن للعبور الى القدس واستردادها في السنة ذاتها. والصور التي يرسمها طقوش واضحة بعيدة، وطريقة عرضه منطقية، وقد كانت أحكامه واضحة بعيدة من النظرة الشخصية. هضم ما قرأ، ودرسه قبل أن يجلس ليدون قصة من أهم القصص والفصول في تاريخ بلاد الشام، لا لأن فيها بطولة حقاً ولا لأنها حفلت بالنزاعات والانتصارات والانكسارات والحزازات، ولكن لأنها تمثل فترة التقت فيها قوى مختلفة خارجياً، ومتنافسة ومتناحرة داخلياً، وفيها تقاطع الأماني والآمال ونرى النصر والخسارة على أكثر من صعيد واحد. وثمة ملاحظة أخيرة نحو مسألة وقع فيها قبل طقوش عالم كبير هو محمد مصطفى زيادة لما بدأ في تحقيق "كتاب السلوك في دول الملوك" في أوائل الثلاثينات من القرن الماضي. فهو حين وصل الى مكان ورد فيه اسم مدينة بيسان قال في الهامش: مكان بين الشام وعسقلان - وأشار الى المصدر ياقوت. ياقوت الحموي عالم كبير وجغرافي محقق مدقق وقد وضع كتابه لأهل زمانه. أما اليوم والعالم تكثر فيه دوائر المعارف والأطالس المفصلة والمعاجم الجغرافية الحديثة، فلا يجوز ان نعود الى ياقوت لتعيين الأماكن. وقد لفت يومئذ نظره الى هذا الأمر فشكرني، وعاد عن ذلك. وهذا ما فعله طقوش. عاد الى ياقوت ليعرفنا بالأماكن. وأورد هنا أمثلة من كتابه: 1 - طرسوس "مدينة بثغور الشام بين انطاكية وحلب وبلاد الروم"، وما أيسر ان يقال "مدينة في جنوب غربي آسيا الصغرى". 2 - قنسرين "مدينة بالشام بينها وبين حلب مرحلة من جهة حمص بقرب العواصم". أليس هذا القول أقرب الى اللغز منه الى التوضيح. 3 - حرّان "مدينة عظيمة مشهورة على طريق من جزيرة أقور وهي قصبة ديار مضر، بينها وبين الرها يوم وبين الرقة يومان وهي على طريق الموصل والشام والروم". 4 - اللجون "بلد بالأردن بينه وبين طبرية عشرون ميلاً، والى الرملة مدينة فلسطين أربعون ميلاً". وما أبعد هذا عن الواقع. وأول سبب لهذا التشويش ان اللجون لم تكن في الأردن القائم اليوم بل في جند الأردن على ما عرف من تقسيم العرب الأوائل لبلاد الشام اجناداً، مبينة أصلاً على تقسيم اداري عسكري روماني بيزنطي. وجند الأردن كان يشمل غور الأردن والامتداد بين شماله حول بحيرة طبرية وعكا التي كانت جزءاً منه. والى الجنوب من عكا اليوم تقع حيفا واللجون مكان بين حيفا كل هذه في فلسطينالمحتلة وجنين من أرض الضفة الغربية على منتصف المسافة بينهما. واسم اللجون مشتق من الكلمة اللاتينية Legio ومعناها فرقة عسكرية، لأن المكان كان مركزاً لإحدى الفرق الرومانية التي كانت تحافظ على الأمن والنظام في المنطقة. والمكان له اسم آخر "تل المتسلّم"، وجاءت هذه التسمية من أن المكان كان يأتي اليه المتسلم وينصب خيامه لجمع المحصول المتوجب للضامن لخراج المنطقة للدولة. فسمي التل "تل المتسلم".