لا يعلم كثير من المعاصرين من هم سلاجقة الروم؟ وذلك يرجع إلى سببين: الأول يتعلق بالمتخصصين أو المؤرخين الذين سكنوا الأبراج العاجية واكتفوا بالكتابة الأكاديمية المتخصصة متناسين دورهم الثقافي، المتمثل في تبسيط القضايا التاريخية ونشرها. أما السبب الثاني، عدم حرص عامة الناس وقطاع كبير من المثقفين على مطالعة التاريخ لعدم إدراك قيمة هذا العلم الذي هو علم مستقبلي وإن كان موضوعه ماضي الإنسان. في هذا المقال نلقي الضوء على كتاب بالغ الأهمية عن سلاجقة الروم صدر حديثاً عن المركز القومي للترجمة في القاهرة، وترجمه محمد السعيد جمال الدين، أستاذ الآداب الفارسية في جامعة عين شمس. ولعل من المفيد قبل أن نسترسل في التعريف بمحتويات الكتاب الذي يحمل عنوان «أخبار سلاجقة الروم» أن نعرف في إيجاز من يكون هؤلاء. هم سلالة تركية تفرعت عن دولة السلاجقة الكبرى وحكمت بلاد الأناضول أو آسيا الصغرى والتي تشغل حالياً معظم الجمهورية التركية الحديثة وذلك بين عامي 1077-1308م. أسس هذه الأسرة سليمان بن قتلمش السلجوقي، وتوسع على حساب الإمبراطورية البيزنطية في المنطقة المذكورة، وإليه وإلى خلفائه يرجع الفضل الأكبر في نشر الإسلام في هذه المنطقة. وبلغت هذه الدولة أوج اتساعها في عهد قلج أرسلان الثاني (1156-1192) وعز الدين كيكاوويس (1211-1219م) ومن بعده علاء الدين قيقباذ (1219-1237م). دخلت هذه الدولة في صراعات كثيرة مع القوى المعاصرة مثل الإمبراطورية البيزنطية التي سعت باستماتة للقضاء عليهم، ولما فشلت استعانت بالغرب الأوروبي، غير أن ذلك لم يغير كثيراً من الواقع الذي فرضه سلاجقة الروم كما دخلوا في صراع مع مصر المملوكية للسيطرة على شمال بلاد الشام، وتعرضوا لهزائم قاسية على يد المغول وفي النهاية قفز الأتراك العثمانيون ليتصدروا المشهد، ويقيموا دولتهم على أنقاض دولة سلاجقة الروم، ليصيروا القوة الإسلامية الأعظم في مطلع العصور الحديثة. عنوان الكتاب في لغته الأصلية هو «مختصر سلجوق نامة»، وللأسف لم يعرف اسم المؤلف أو على وجه الدقة المختصر، لأن هذا الكتاب هو اختصار لكتاب أضخم ألفه المؤرخ ابن بيبي ويحمل عنوان «الأوامر العلائية في الأمور العلائية». غير أن الكتاب الأصلي ألفه أديب ومن ثم ضاع التاريخ في ثنايا الأدب والمحسنات اللفظية. وأدرك ذلك مؤرخنا المجهول، فآل على نفسه استخلاص التاريخ من ثنايا الأوامر العلائية، بعد طول إلحاح من عدد كبير من معاصريه. ونظراً ليسر هذا الكتاب وقربه من المقصد، فقد انتشر على نطاق واسع وترجم مبكراً للغة التركية عام 827ه / 1824م في عهد السلطان مراد الثاني العثماني ومع اكتشاف الطباعة تعددت الطبعات التركية وأخيراً ترجم للعربية. يؤرخ الكتاب لدولة سلاجقة الروم خلال الفترة الممتدة من عام 588ه / 1192م حتى عام 679ه / 1280م، أي منذ عهد السلطان غياث الدين كياخسرو الأول، حتى عهد السلطان غياث الدين مسعود الثاني. ولم يتعرض المؤلف لتاريخ سلاجقة الروم منذ عصر سليمان بن قتلمش المؤسس حتى عام 588ه بسبب وجيه، ذكره في صدر الكتاب حين قال: «إن كيفية وصول السلطان سليمان بن قتلمش بن إسرائيل إلى السلطة، وأحوال أمرائه الكبار كالأمير منكوجك والأمير أرتق، والأمير دانشمند، ليست من الأمور المحققة ومن المتعذر تماماً وجود الكتب التي أرخت لذلك العصر». وهذا الأمر يوضح لنا حرص المؤلف على تأليف كتابه بناء على مادة علمية موثقة يمكن التحقق منها، وهو ما يرفع من قيمته ويزيد من رصيد صدقية ما ساق من أخبار بين دفتيه. ان الفترة التي أرخها الكتاب كانت مليئة بالمتغيرات السياسية والإستراتيجية في منطقة آسيا الصغرى، متأثرة بالمتغيرات الدولية الكبرى مثل حركة الحروب الصليبية التي كانت في أوج اشتعالها حيث انتهت أحداث الحملة الصليبية الثالثة لتوها والتي كانت بقيادة أكابر ملوك أوروبا: الإمبراطور فردريك بارباروسا إمبراطور ألمانيا، وفيليب أغسطس ملك فرنسا، وريتشارد قلب الأسد ملك إنكلترا. وقد لقي الأول حتفه في أحد أنهار آسيا الصغرى، أي في أرض سلاجقة الروم. غير أن المؤلف لم يتعرض لتلك الفترة كما ذكرنا منذ قليل. لكن لم تكن سلاجقة الروم بمنأى عن أحداث الحرب الصليبية في ظل مجاورتهم لأرمينيا الصغرى التى كانت شديدة الارتباط بالكيانات الصليبية في الساحل الشامي، بجانب استيلاء الحملة الصليبية الرابعة على القسطنطينية عام 1204م ومن ثم صار الصليبيون قريبين من بلاد سلاجقة الروم من الغرب والجنوب. ارتبطت السلطنة خلال الفترة التى أرخ لها الكتاب بسلطنة الأيوبيين في مصر والشام، ووصل الأمر حد المصاهرة، بخاصة في ظل الأخطار المشتركة التي تعرضت لها الدولتان، وكان ذلك في عصر الملك العادل أبو بكر بن أيوب، غير أن السلام لم يدم، وتحول الطرفان للعداء في عهد السلطان الملك الكامل الذي سعى إلى غزو بلاد سلاجقة الروم لكنه لم ينجح في مسعاه، وتقلبت العلاقة مراراً بين الصداقة والخصومة، حسبما فرضت المتغيرات السياسية حتى نهاية دولة الأيوبيين. ورغم أن دولة المماليك ورثت الأيوبيين في حكم مصر والشام وكان لها صلات بسلاجقة الروم، لكن الكتاب لم يتعرض لها. وفي ظل ضعف الخلافة العباسية لم يهتم بها المؤلف كثيراً، ولكنه لم يغفلها تماماً، إذ جرت مراسلات بين السلطنة وبين الخلافة وصلت إلى حد تبادل السفراء، وكان رسول السلطان السلجوقي هو الشيخ شهاب الدين السهروردي، أما رسول الخلافة فقد كان الشيخ محيي الدين ابن الجوزي. ومع ذلك لم يلمح من قريب أو بعيد إلى أخبار اجتياح المغول الخلافة العباسية وما ارتكب في بغداد من فظائع شابت منها الولدان. وربما عمد المؤلف لذلك مراعاة لجانب عطا ملك الجويني الذي كان حاكماً على العراق من قبل المغول. واعتنى المؤلف بأخبار الدولة الخوارزمية التى كانت في النزع الأخير، إذ عرض لمراسلات السلطان جلال الدين خوارزمشاه مع السلطان السلجوقي كيخسرو بن قيقباذ طلباً للمساعدة في مواجهة الغزو المغولي. غير أن سلاجقة الروم لم يكونوا في وضع يسمح لهم بفتح العداوة مع المغول، ومن هنا قرر السلطان جلال الدين في لحظة طيش توجيه سهامه القليلة لصدور المسلمين الذين لم يخفوا لنجدته فتوجه لحرب سلاجقة الروم لكنه هزم على أيديهم عام 627ه، ولم يطل العمر بجلال الدين الذي لقي حتفه على يد أحد الأكراد عام 628ه / 1231م. ونظراً لمجاورة دولة أرمينيا الصغرى لسلطنة سلاجقة الروم، كان من الطبيعي أن تقوم علاقات متبادلة بين الطرفين، عبر عنها الكتاب في عدد من الموضوعات منها ما هو سلمي من خلال تبادل الزيارات والرسل، ومنها ما اصطبغ بلون الدم ووصل إلى حد الغزو المتبادل لأرض الطرفين. تعرض الكتاب لتاريخ علاقات المغول بسلطنة سلاجقة الروم والتي تدرجت من المواجهات العسكرية ووصلت حد الخضوع التام في ظل الهزائم المتوالية وإدراك سلاجقة الروم استحالة مقاومة المغول في حربهم ومن ثم اعترفوا بالمغول حكام العالم، حتى أن آخر خبر سطره عن المغول كان عنوانه «ذكر سبب حركة ركاب المسيطر على العالم سلطان وجه الأرض الإيلخان الأعظم إلى حدود بلاد الروم». كما أشار الكتاب إلى جوانب من علاقة سلاجقة الروم بالكرج والروس والأبخاز، الذين تعرضوا لغزو سلاجقة الروم لكنهم أدركوا أن مسالمة هذه السلطنة العظيمة أفضل لهم ولمستقبلهم، فطلبت ملكة الأبخاز رسودان الزواج من السلطان علاء الدين كيقباذ بن كيخسرو، وتمت الزيجة، وقد شبهها المؤلف بعلاقة نبي الله سليمان ببلقيس ملكة سبأ التي ذكرت في القرآن الكريم. كانت هذه إطلالة سريعة على كتاب أخبار سلاجقة الروم، وهو كما قدمنا مصدر مهم للباحث المتخصص وكذا القارئ العام الراغب في التعرف إلى صفحات من تاريخ هذه السلالة. * كاتب مصري