وجود اجهزة التحكم بين اصابع المشاهد اعطاه قوة سحرية على الاختيار والإلغاء، وربما انتبه المعدّون والمخرجون في الفضائيات العربية الى اهمية هذه القوة، ودأبوا على ايجاد قوة سحرية اخرى مواجهة لها تجعل من الضروري جداً ان يتوقف المشاهد عن الضغط على جهاز التحكم عند مصادفته للمحطة التي يعملون فيها! والطريقة تتلخص بإيقاع هذا المشاهد في فخ اغراء الصورة السريعة التي اعدت له والتي تدغدغ حاجاته المختلفة، فيتوقف عن تقليب المحطات ويرسو على بر الأمان حيث الرقص والضحك والسعادة والربح وأجمل الصبايا على حد تعبير طوني قهوجي وصراحته! وابتكار هذه الطريقة ليس مقتصراً على المعدين والمخرجين العرب، ويمكن ببساطة ملاحظة برامج منوعة شبيهة على المحطات الغربية، وبخاصة الإيطالية منها، وهي التي سبقت محطاتنا. ولكن ميزة البرنامج العربي انه يجد تسويقاً اكثر عند المشاهدين العرب الذين أتخموا بالأخبار المحلية والنفاق السياسي الذي دخل بقوة حتى في بنية البرامج التلفزيونية المنوعة والثقافية العربية الكلاسيكية فنأى الناس عنها! ويمكن للمشاهد او الناقد ملاحظة النموذج الأمثل للبرنامج المنوع السحري الذي أتحدث عنه، على ثلاث اقنية دفعة واحدة قدمت ما عندها من هذا الأسلوب خلال العامين 2001 و2002. وهذه الأقنية لبنانية ومعروفة، وهي محطة الLBC ومحطة الMTV، ومحطة المستقبل! وتعرض هذه المحطات حالياً، على التوالي، برامج "يا ليل يا عين" و"هيصة" و"يا عمري" وبالطبع ليست البرامج هي الوحيدة على هذا النحو، ولكنها البرامج النموذجية الموافقة لهذه الطريقة. فما هو القاسم المشترك بين هذه البرامج، وهل هي ناجحة بأداء رسالة اجتماعية، وهل تمكنت من التغلب على جهاز التحكم اليدوي الكونترول الذي يتسلح به المشاهد العربي للهروب من النمطية والتضليل؟ تعتمد هذه البرامج على منظومة ابهار خطيرة، تبدو للوهلة الأولى بمثابة الحل للمشاهد، لكنها لا تلبث ان توقعه في نمطية اخرى تستلب روحه وتثير تناقضات وعيه... ومقومات هذه المنظومة ببساطة هي الصورة السريعة والإيقاع السريع وجسد المرأة والمشاركة العامة الصاخبة التي توحي بأن لا هموم عندنا، والحظ والربح. اما العمل والشخصية وروح الفرح النفسي غير المشوه فهي غير موجودة، بل تمت الاستعاضة عنها بوهم فرح يشبه المثل القائل: "شم ولا تذق" الذي تنظمه قاعدة خفية تقول: دع الهموم جانباً فهذه الساعة لك وليست لربك، فتفعل فعلها الى ان يظن المشاهد انه في قلعة الموت حيث الجنة الوهمية! انها ليست مبالغة ابداً، وملايين المشاهدين العرب الذين اشتروا اجهزة الاستقبال على حساب لقمة العيش والدواء، واقعون لا محالة في حال دهشة منشؤها المفارقة الحاصلة بين الواقع الذي يعيشونه والخيال الذي يرسم لهم صورة عالم احلى! في برنامج "يا ليل يا عين" حشدت مجموعة راقصات يتمايلن على اي ايقاع يترامى صوته، حتى لو كان هذا الإيقاع مجرد فاصل، ويتم التقطيع بين حركات الرقص بسرعة تتجاوز القاعدة البصرية لاستيعاب الحركة، فلا يبقى إلا وهم الحركة: ففي الثانية الواحدة تتنقل الكاميرا بين الوجه والخصر والكتف والساق والساعد، فيشعر المشاهد ان كل ما شاهده هو قمة الجمال، ولو سألته "ما هو الجميل فيه؟" لعجز عن الإجابة! وقد تقمص "هيصة" هذه الطريقة فكان منسجماً مع نفسه في الاسم لأن كل ما نراه لا يعدو ان يكون مجرد هيصة يضيع فيها الصالح بالطالح، وتضيع مقاييس الجمال والذوق. اما برنامج "يا عمري" فقد ضاعت جبلته بين مقتبسات برنامجية وتألقات نجوم ومقدمين تبدو نافلة احياناً وناجحة احياناً اخرى! الكاميرا تعتمد حركة مجنونة، ولا يمكن لها الا اعتماد هذه الحركة لمواكبة هذا النمط من التضليل البصري الذي يبني هرمه على تسارع لحركة الصورة يتغير بين لحظة وأخرى، وهذا التضليل وجد نجاحه في فن الفيديو كليب الذي اسقط فن الغناء على حساب مجد الصورة المضللة المصاغة بطريقة المونتاج المجنون! في الماضي كان البرنامج المنوع يؤسس لنجاح من خلال نوعية المادة المقدمة سواء في الثقافة العامة، أم المادة الفنية، ليمكن المشاهد تذوق طعم ما يقدّم إليه فيتعرف الى الغث من الثمين، ويبحث من خلال ذلك عن الأسلوب الأكثر جاذبية لما يقدم له، ومن هنا نشأت معادلة المتعة والفائدة، اما معادلة المتعة فقط فيمكن ان تعود الى نظرية "الفن للفن" وهي نظرية موجودة ومهمة بغض النظر عن الموقف منها... ولكن ما يجري الآن لا علاقة له لا بالفن للفن ولا بجدلية المتعة/ الفائدة. إنه نوع من الفن الهابط المضلل، الترويجي الذي يداعب الكبت عند المشاهد والفراغ القاتل غير المنتج، فيرسخ حال الوهم ويبني عليها، ولا يترك للمشاهد شيئاً يقيه من غدرات الزمان اللاثقافي. وثمة خطورة كامنة في احتمال حمله رسالة مضللة تبعد المشاهد عن انسانيته! وفي تفصيل ذلك ومعطياته يتم التركيز على نوعيات من المشاركين، ليست من النمط الشعبي الذي يوازي عينة البلد ككل، بل من النمط النخبوي في الجمال والمظهر والشكل وإمكان الرقص وغير ذلك، وربما تفلت بعض الحالات، لكن الصفة الغالبة هي النمط النخبوي الذي يرمى عليه دثاراً فنياً من اجواء الغناء والطرب والفن الذي يجعل "الهيصة غير شكل" كما تتردد العبارة في البروموشن" المعد لكل برنامج من هذه البرامج، ونلاحظ ان حال الاستقطاب تؤسس اولاً على اسس مقدار كمية الإعلانات التي يسوّقها البرنامج المنوّع والتي غالباً ما ترتفع مع كل حلقة صاخبة مثيرة. ان الطريقة الوحيدة لملاحظة هذه المعطيات هي التدقيق في ما يعرض ولو مرة واحدة لاكتشاف السمة العامة للبرنامج المنوع المعاصر الذي يفتقد يوماً بعد يوم رسالته الفعلية، وللأسف يقع الجمهور في المطب ويشكل ظاهرة او حالاً لافتة كما حصل في البرنامج الغريب "ميشو شو" الذي جمع جمهوراً يفوق مجموعه مجموع اي حزب جماهيري عربي خارج السلطة وربما داخلها...! عماد نداف