تقوم فكرةُ الدّولة الإسلاميّة الحديثة في جوانبَ كثيرة على مبادئ قد سلّم بها كلُّ مَنْ يُدعى المسلمَ العصريّ باعتبارها من المكوّنات الأساسية لبنية عقيدته داخلَ عالَمٍ حديث: شعور آمِن بالهُويّة يحترم حقوق الأقليّات ويسعى إلى ترويج ثقافة التسامح تجاه الثقافات التي تختلف عن ثقافة غالبية السكان" احترام سيادة القانون" ترويج التّعدّديّة الثّقافيّة ومفهومَي التكامل الإثْنِيّ والعنصريّ" تحقيق المساواة والعدالة في جميع المجالات لضمان الأداء الوظيفي للمجتمع على نحو سلس - وإن يكن غير منتظم - قائم على الوعي الفرديّ والجماعيّ بكرامة الآخرين" ضمان حق الجميع في العيش في مجتمعٍ خلْوٍ من الخوف والتحيّز. قبل فترة طويلة من "اكتشاف" العالَم الجديد، كانت الحضارةُ الإسلاميّة دوْماً بوتقةَ العالم. ولا يُعَدُّ نهجاً رومانسيًّا أنْ نستذكرَ أنّ العالم الإسلاميّ كان - قبل بزوغ فجر عالَم الدول القُطريّة - موئلاً للهاربين من بلدانهم من الاضطهاد الدينيّ أو الفكريّ يجدون فيه ملاذاً آمناً، وركناً من أركان هذا الكوكب حيث اتجه الدين فيه إلى دعم الإنجازات العلمية" وحيث كان الاهتمام باحترام البيئة والعناية بها لا يقلّ عن الاهتمام بإدامة النظام الاجتماعيّ ورعايته، ليس بالإكراه إذ لا إكراهَ في الدين، لا سيما في أمور القانون والنظام بل عن طريق التّربية والتّعليم، وتنمية الشعور بالمسؤولية المدنية" وحيث كان التنوّع موضع احتفاء وتكريم" وحيث كان التنوير يعزّزه الحسّ بالمبادئ الأخلاقيّة في كلّ ميادين الحياة. وعليه، فإن الدولة الإسلاميّة الحديثة ليست نِتاجاً لتدهور الاستعمار أو قيام التصنيع" بل كانت في الواقع حديثة دائماً لأنها - شأنها في ذلك شأن الدولة القُطريّة - تقوم على مبادئ تشترك فيها الإنسانيّةُ جمعاء. إنّ مفهومَي التّعدُّديّة واحترام التنوّع ذاتهما الّلذيْن يُوْصي المجتمع الدولي بالالتزام بهما باعتبارهما من الحقوق الطبيعية كانا قد طُوِّبا للمرة الأولى على صورة قانون قابل للتطبيق على يدَي سيّدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم ومن تولّى أمر الأمّة من بعده مباشرة من خلفائه. وعند بناء الدولة الإسلامية الحديثة في يومنا هذا، يتعيّن على المسلمين ليس مجرّد استعمال نموذج الدولة الإسلامية في بواكيرها دليلاً يُهتدى بنوره، بل أيضاً التساؤل ما إذا كُنّا قد أوفينا ما ورثناه منذ ذلك الوقت من آبائنا وأجدادنا حقّه من الحكمة والحضارة والتجارب. وعلى أساس ذلك كله، لا بدّ لنا - باعتبارنا حضارةً تضمّ في حناياها مجتمعاتٍ متباينةَ الأجناس والأعراق واللغات - من إدراك الدّيناميّات المعاصرة التي تحكُمنا اليوم وإعطائها حق قدرها" فضلاً عن مواجهة التحدّيات التي تفرضها الجوانبُ الواقعيّةُ المستجدّة والتي تشمِل العوْلمة، ووسائل الاتصال الجماهيريّ، والإنجازات التكنولوجية التي لا تكون خالية من المخاطر دائماً، والأمميّة، والثقافة الجماهيريّة، وحقوق الإنسان، والنّديّة، إلخ ... إنّ الدولةَ الإسلاميّة ليست منفصلةً عن العالم وليست في مأمن من مشكلات العالم المُلِحّة، التي يأتي الجوع الذي يحصد أرواح ثلاثة عشر مليون نسمة كلّ عام والفقر والمرض على رأسها. فضلاً عن ذلك، يجب أنْ ندرك أنّ نصف المعمورة نسوة، وأنّ ما يناهز عشرة بالمئة من هؤلاء السكّان مُعاقون. ففي حال أخفقنا في دمج النساء والمعاقين بشكل أكبر نكون قد أهملنا أكثر من نصف الطاقة الفكريّة لبني البشر. ومنذ زمن طويل يعود إلى عام 1911، قيل ما يأتي بمناسبة افتتاح مدرسة لاكناو Lucknow للبنات ]في الهند[: "لا يمكن لمجتمع من تحقيق أي تقدّم إنْ كانت نساؤه أمّيّاتٍ وغيْرَ قادراتٍ على توْجيه ما يفي بالحاجة من النصح والإرشاد لأطفالهنّ." ويُعَدُّ هذا بياناً مكافئاً لمقولة روبي مانيكنز Ruby Mannekins التي كثيراً ما يُستشهَد بها: "علّموا المرء تُعَلّموا فرداً" علّموا المرأة تُعَلّموا أُسرةً."1 وكان سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم يؤمن بأن "الجنّة تحت أقدام الأمهات"" وبذلك كان صلوات الله عليه لا يدع فرصة تفوت إلا وانتهزها للخروج بملاحظةٍ مؤيِّدة حول وضع المرأة. وقد صرّح بوضوح تام ما مفاده: "إن البحث عن المعرفة ضالّةُ كلِّ مؤمن، ذكراً كان أو أنثى". فضلاً عن ذلك، إن الدولةَ الإسلاميّةَ المُثلى تشترك بالفعل في هذا المبدأ الأخلاقيّ - أي المفهوم نفسه المتعلّق بما هو صالح ويتعيّن إجراؤه، وبما هو طالح ويجب اجتنابه - شأنها في ذلك شأن سائر الدول الأخرى، بما فيها الدول الديموقراطيّة العَلمانيّة التي قد تدّعي أنها تستمدّ فلسفتها الليبراليّة الأخلاقيّة من القِيَم المسيحيّة. فالله في كلتا الديانتين، على سبيل المثال، رؤوف رحيم" كما أنه، جلّ جلالُه، المصدر النّهائيّ للنّعمة الإلهيّة التي تضمَنُ تحقيقَ الخلاص. وهذه جوانبُ ليست غيْرَ متوافقةٍ مع التقاليد الأُخرى العظيمة: الدّينيّة، والثّقافيّة، والأخْلاقيّة. ووَفْقاً للأستاذ سيّد حسين نصر، فإن الدّين مصدرُ كلّ حضارة. ويمكن للمرء منّا أن يُضيفَ إلى ذلك أنّ كل دولة قُطْريّة - عَلمانيّةً كانت، أو ديموقراطيّة، أو دينيّة، أو حتى ملحدة - لها، على الأقل، سيماء من تراث دينيّ في مكان ما من تاريخها. بَيْدَ أن الإقرار بذلك لا يَعني أننا نغدو بشكل تلقائيّ أسرى للتاريخ. وكما يقول الأستاذ نصر أيضاً: "فإنه في حال تمكّنت الأديان من تحقيق الفهم بعضها للبعض الآخر، ليس فقط على الصعيد الرسميّ، بل أيضاً على مستوى الاحترام الجوّانيّ للحقيقة ذاتها - الاحترام الذي يتجاوز الفهم الاعتياديّ للتسامح - نكون قد وضعنا الأسس للحوار الحقيقي بين الحضارات". إنّ للدولة الإسلامية الحديثة، إذاً، شرعيّةً حضاريّة" وبذلك فإنها تكون على أُهبة الاستعداد للمطالبة بنِدّيّةٍ تجاه الأُمم الأُخرى مجلّة الإسلام 21، العدد 29، حزيران/ يونيو 2001. واليوم، فإنّه من الضروريّ تسوية النزاعات سلميًّا، لا سيما في إطار العالم الإسلاميّ المعاصر. أما البديل فقد يستلزمُ سباقَ تسلُّحٍ غيْرَ مرحّبٍ به، يُصاحبُه انخفاض في مستوى التنمية الاجتماعية والاقتصادية" وتباطؤ في المسيرة صوْبَ الأمن الناعم، أي كرامة بني البشر واحتياجاتهم. ومن النتائج الملموسة المترتّبة على ذلك هجرةُ النّاس من مِنطقة تهيمن الصراعات عليها إلى مناطقَ أخرى تتوافر فيها الفرص الكفيلة بتحقيق تطلّعاتهم نحو عالَمٍ آمِنٍ وبيئةٍ بشريّةٍ لائقة. إلا أنّ الهجرة تمثل خسارة لأيّة مِنطقة، لا سيما تلك التي تشهد تغيّراتٍ وتحوّلاتٍ على مختلِف المستويات. وعند مناقشة الجوانب المتعلّقة بالدولة الإسلاميّة الحديثة، لا بدّ للمرء أنْ يُدْرِجَ أيضاً مناقشةَ العَلاقاتِ الثّنائيّة والمتعدّدة الأطراف بين الدول: هنالك حاجة إلى تفكير جديد يقوم على الترابط والاعتماد المتبادليْن بين الشعوب، مع احترام التنوّع. ويجب لمثل هذا التفكير الجديد بالنسبة للدولة الإسلامية الحديثة أنْ يأخذَ بالحِسْبان العَلاقَة المتبادَلة بين الطاقة والتسلّح والمديونيّة، وكيف أنّ رابطةَ الجنون هذه تحولُ دون تحقيق مستقبَل يَضْمَنُ استتبابَ السّلام واستدامتَه، لا لخير الدول الإسلامية فحسب، بل أيضاً لخير شطرٍ كبيرٍ من العالَم النّامي. وهنالك حاجة لعودة جديدة إلى المفاهيم الأساسية. أليس من الممكن، على سبيل المثال، إعادة تعريف الفقر بدِلالة خير البشرية بدلاً من الدولارات والسنتات؟ بإمكان الدولة الإسلامية الجديدة أنْ تأخذَ زمام القيادة عن طريق أنسنة الاقتصاد والسياسة، واضعةً خير البشرية في مركز صناعة السياسة، الوطنيّة والعالميّة. تُرى هل نحن بحاجة إلى الحروب من أجل تذكير أنفسنا بإنسانيّتنا المشترَكة؟ لماذا لا يمكن بناء الوسائل الدفاعية الخاصة بالسلام في أوقات السِّلْم؟ لماذا كُرِّست الجهود الدولية على مدى العقود الأخيرة من أجل حفظ السلام بدلاً من صناعته؟ ألا يُمكنُنا الحديث عن منع الأزمات بدلاً من إدارتها، وكأنّ الغايةَ المنشودةَ هي إدارةُ الأزَمات لا تسويتُها؟ إنّ الدولة الإسلامية الحديثة نموذج صالح لوضع حدّ لعمليّة التجريد من الأنسنة التي شهدناها خلال القرن المنصرم، بل حتّى خلال الألفية الأخيرة. لا يُستكمَلُ أيُّ تعليق في أيّامنا هذه من غير ذكر أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر 2002 المدمّرة. إنّ احترامَ قُدسيّة الحياة يُشكّل حجرَ الزاوية لتقاليد الأديان العظيمة. وحين تُرتكبُ أفعالٌ معيّنة باسم قضيّة سياسيّة - ويلجأ فاعلوها إلى استخدام الدّين من أجل شَرْعَنةِ الأعمال السيّاسيّة - فإنّ تلك تُعَدّ إساءةً للكرامة الإنسانيّة. إنّ أعمالَ عنف متطرّفةً كهذه، حيث يشكّل الأبرياء من الرجال والنساء والأطفال الأهداف والرهائن في آن، هي إجراءات غيْرُ أخلاقيّة على الإطلاق" كما أنها غير مُسَوَّغة كُلّياً. وإن سلوكاً كهذا لن يحظى بتسامح أيٍّ من التقاليد الدينية" كما لا يمكن لأية دولة إسلاميّة حديثة تسويغ مثل هذه الأعمال. نبّهَ القائدُ الأعظم، محمّد علي جناح، في كلمة ألقاها بمناسبة ولادة دولة باكستان الإسلاميّة الجديدة الحديثة، إلى أنّ "أعمال الانتقام والأخذ بالثأر، وممارسات التجاوز على القانون والنظام، من شأنها أن تُضعف في النهاية الأُسُسَ ذاتَها للكيان الذي تاقت نفوسُكم إلى إقامته طوال هذه السنوات. فقوموا بواجبكم وضعوا إيمانكم بالله تعالى. لا توجد قوة على وجه الأرض بإمكانها إلغاء وجود باكستان". إنّ الرحمة تمثل الروح الحقيقيّة للإسلام" ويمكن البرهان على أنها العنصر الأكثر حيوية للتعاليم الإسلاميّة من أيّ شيء آخر. والحق أن الرحمة في الإسلام تحتلّ، بعد مفهومَي التوحيد والرسالة المحمدية، موقعاً في نظام الحكم الإسلاميّ لا يقلّ أهمّيّةً عنه في البوذيّة. ويترتّب على ذلك، إذاً، أنّ الرحمة يجب أنْ تكونَ المبدأ النموذجيّ المحرّك الذي يمكن بموجبه لأيّة دولة إسلامية حديثة تحديدُ معالمِ حداثتها، أو تجسيدها، بلغةٍ عمليّة. وعند بناء الدولة الإسلاميّة الحديثة، من المهمّ ملاحظة أنّ القرآن الكريم يخلو من أيّ مفهوم للحرب العدوانيّة وإباحة العنف. وحتى في الظروف التي يُجيزُ الإسلام فيها قيام الحرب، فإنّ ذلك يأتي من باب الدفاع عن حقوق المضطهدين وضحايا الاستغلال وحمايتها، لا بهدف الاستحواذ على السلطة. ولا توجد في الآيات القرآنية ما من شأنه أن يجيز استخدام العنف لاحتلال الأراضي أو حيازة السلطة. والحقّ أنّ شنّ الحرب قد تحَدّد بعبارة "في سبيل الله". وما هو سبيل الله؟ سبيل الله هو العدل" هو حماية حقوق الفقراء والمستغَلِّين. ويُظهرُ القرآنُ الكريم، مراراً وتكراراً، تعاطفَهُ الوجدانيّ مع الشرائح الأضعف من المجتمع، التي يشملُ ضمنها الأيتامَ والأرامل والفقراء و المُستَغَلّين والعبيد، وغيْرَهم من العناصر البشرية المضطهدة اجتماعياً واقتصادياً. كذلك يشدّد على الطرق المختلِفة التي يمكن من خلالها مساعدة هذه العناصر. وينطلق كلّ ذلك من أساس الرّحمة. إنّ الرحمة تعني في الحقيقة سرعة التأثر بمعاناة الآخرين. فلا يمكن لأيّ إنسان أن يكون رحيماً إلا إذا تحسّس معاناة الآخرين" وهذه المعاناة لا تقتصر على بني البشر بل تتجاوزهم لتشملَ الحيوانات والمزروعات. وباعتباري واحداً من الذين تم استشارتهم حول عمليّة حوار الحضارات الأخيرة، وبصفتي مسلماً، انصرفتْ مشورتي إلى أنّه عند بناء نموذج جديد للعَلاقات العالمية، يتعيّن علينا أيضاً بناء منظومة معرفيّة متمّمة تتعلق بسياسة المجتمعات البشرية Anthropolitics، أو سياسة الإنسانيّة. فبمجرّد أن يتم الاعترافُ بما لنا من قيمة إنسانيّة، فإنّ الانتقال من مرحلة الممارسات العدوانية المطلقة العنان إلى مرحلة السلام يغدو أكثرَ سهولة. إنّ إعلان برلمان العالم للأديان، الموسوم بِ "نظام أخلاقيّ عالميّ" يسعى هو الآخر إلى ربط أساسٍ أخلاقي بأفعال البشر. وإنّ المبادئ الأساسية الأربعة قريبة من فكرة الحقوق الطبيعية، وتشكل فهماً أخلاقيًّا مشتركاً في حدّها الأدنى بين الأديان الحالية والثقافات التي تتبنّاها. ففي يومنا هذا، هنالك حاجة أكثر من أي وقت مضى إلى نظام أخلاقيّ للتضامن البشري وإلى نظام إنسانيّ دولي جديد. وأخالُهُ أمراً يثير الاهتمام، أنّ لكلتا هاتيْن العمليّتيْن - أي الحوار بين الحضارات من جانب، ونظام أخلاقيّ عالميّ من جانب آخر - مكوّناً إسلاميًّا متأصِّلاً ومتكاملاً على الأقل" هذا إن لم تكن أصولهما نابعةً من الفكر الإسلامي الحديث. وتقوم الدولة الإسلامية الحديثة أيضاً بتوفير معالمَ مُحَدّدة للعمليّات غير الحكوميّة لكي تعملَ ضمن نطاقها. وعليه، يتم تحرير العوْلمة في السياق الإسلاميّ من تركيباتها المستحدَثة الأكثر ضيقاً لتُمنحَ بُعداً روحيًّا وأخلاقيًّا. فالتكامل العالميّ في الإسلام ليس عمليّةَ استيعاب لا تخضع لضابط" بل ينبغي أن لا تكونَ كذلك ضمن أيّ سياق. إنها عمليّة مسؤولة باتجاه إعادة تقدير لأولويّاتنا بالعمل نحو الخيْر المشترَك الأعظم، وبناء نماذج جديدة للعمل الإيجابيّ والمسؤوليّة في عَلاقاتنا في إطار أيّ حقل كان. ولربما تنتفي الحاجة للخروج بخطاب إسلاميّ منفصل تجاه العوْلمة وآثارها، الصّالحة منها والطّالحة بسببٍ من طبيعتها التّكامليّة. وهكذا، يتم تحويل العوْلمة إلى أداة للعمل الأخلاقيّ المسؤول. والحقّ أنّ إحدى القضايا الرئيسيّة التي تواجه أيّة دوْلة قُطريّة في يومنا هذا، والتي تُعدّ مجالاً ليست الدول الإسلامية في مأمن منه، إنما هي العوْلمة، وكذلك مسألة إدارة الصالح العام العالميّة الأوسع مجالاً. وعند طرح أفكار تتعلّق بدولة إسلامية حديثة بافتراض أنّ الدولة هذه هي دولة قطريّة وَفْقَ تحديد نظام ما بعد معاهدة ويستفاليا Westphalia - عام 1648 تبرز أهمّيّة إدارة الصالح العام العالميّة، خصوصاً لأنها تؤثّر في ديناميّات العَلاقات لكيان كلّ دولة قطريّة على حدة تجاه الدّولة الأخرى. إنّ غيابَ صيغة مترابطة من شأنها إعداد توجيهات تحظى بقَبول عالَميّ لإدارة الصالح العام الإسلاميّ المستقبَليّ يجعل من التطرُّف الأصوليّ خطراً على أمن كل الدول الإسلاميّة واستقرارها. وقد ينصرف المرء إلى توسيع مدى هذه الفرضية لتشملَ إدارة الصالح العام العالميّة. لقد أعلن التطرّف الدينيّ حرباً على الدولة القُطريّة المعاصرة، وهو في حالة حرب مع الدّولة الإسلاميّة الحديثة. وتوحي تجربتُنا التاريخيّة الخاصّة بالحكومات المتعصّبة دينيًّا بأنّ مبدأ فصل الكنيسة عن الدولة صِيغَ بحكمة لصالح الشعوب. وإذْ نقولُ ذلك، يُستحسنُ بنا ان نُميّزَ بين حكومة دينيّة تستهدفُ تحقيقَ حياة أفضل للجميع - بصرف النظر عن أديانهم - وأخرى تستهدفُ تنفيذَ وجهة نظر دينيّةٍ أو عَلمانيّةٍ واحدة. والناس في العالمَ المتطوّر يتبادر إلى أذهانهم "إيران" كلّما جُبهوا بكلمة "ثيوقراطيّة". وأنا بدوْري أبادر إلى تذكيرهم بثيوقراطيّة أوروبية تُدعى الفاتيكان. إلا أنهم يُجيبون، على حدّ تعبير أحد الزملاء، بأنّها "ثيوقراطية صغيرة جداً". وإزاء ذلك أجد نفسي أشير باحترام إلى أن القضيّةَ ليست مسألةَ حجم. ولا بدّ للدولة القُطريّة المستنيرة، إسلاميّةً كانت أو غير إسلاميّة، أنْ تسعى دوْماً لتجنّب الميكيافيليّة في تعاملاتها. لقد نصح الإمام عليّ بن أبي طالب ]كرّم الله وجهه[، في أيام خلافته، أحدَ ولاة أمصاره بأنّ الرعايا الذين كان يتولّى أمرهم هم إخوانه في الإنسانية قبل أن يكونوا إخوانَهُ في الدّين. وبذلك، فإنّ النظرة الإسلاميّةَ الى العدالة الإداريّة لا تقتصر على المسلمين فقط، بل تمتدّ أيضاً لتشملَ الجميع، بصرف النظر عن عقائدهم الدينيّة وغيرها. وكانت التّعدّديّة الخلاّقة عمليّةً مارسها للمرة الأولى الذين قاموا بتأسيس الدولة الإسلامية" وهي التي يجب أنْ تبقى اليوم نموذجاً للدول القُطريّة الإسلامية الحديثة. لقد تشكّلت المجتمعات الإسلاميّة المعاصرة إلى حدّ كبير بفعل التركة الأقرب عهداً للصِّيَغ الاستعمارّية التي أُخضعت لها. كما أنّ نموّها النسبيّ قد أُكبت، شأنها في ذلك شأن القسم الأكبر من العالم النامي. والواقع الاجتماعيّ في هذه المجتمعات، في الكثير من الحالات، هو الفقر والأمّيّة أو النّقص في السبل التي تؤمن الوصول إلى التعليم، وإدامة الأوضاع الراهنة من طرَف النخب الحاكمة بفعل القوّة العسكريّة، والانحطاط البيئيّ، وانعدام حكم القانون والحرّيّات المدنيّة. وبذلك، لا بد من أخذ أوجه هذا الواقع بالحسبان عند مناقشة مسألة الدولة الإسلاميّة الحديثة، التي هي مسألة النموذج أو المثل الأعلى. إنّ الإسلام يحترم أوجهَ الاختلاف البشريّة" كما أنه ليس على المسلمين أن يعمدوا إلى فرض معتقداتهم على الآخرين. والإسلام لا يُجيزُ الإكراهَ في الدين. فالقرآن الكريم يشدِّد على هذا الجانب بشكل جازم" إذ تنصّ الآية الكريمة على ما يأتي: - ولو شاء ربُّكَ لآمَنَ مَنْ في الأرض كُلُّهُم جميعاً. أفانت تُكْرِهُ الناسَ حتّى يكونوا مؤمنين؟ - صدق الله العظيم ]سورة يونس 10:99[ إنّ النتيجة الأساسيّة لهذا الوضع تتمثل بالفكرة البالغة الأثر أنّ الإنسانيّة ليس من شأنها الحكم على مزايا المعتقدات المختلِفة. فالمسلمون يُحَثّون على الدخول في مناقشات وحوارات مع غير المسلمين" إلا أنّ الخروجَ بالأحكام يبقى حقًّا خاصًّا لله وحْدَه تبارك وتعالى. واستناداً إلى هذه المبادئ، تفرض التعاليمُ الإسلاميّةُ التسامحَ والتعايش المتبادَليْن بين أبناء المجتمعات البشريّة" وهو ما تحترمه الدّولة الإسلاميّة بدوْرها. كما تُوْلي هذه التعاليم أهمّيّةً كبيرة لما لكلّ نفس بشريّة من مساواة وكرامة. وثمة حديث شريف مُسْنَد يقول فيه سيدنا محمّد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم: "الناس سواسية كأسنان المشط: لا فرقَ بين عربيّ وأعجميّ، وبين أبيضَ وأسود، وبين ذكرٍ وأنثى، إلا بالتقوى". فضلاً عن ذلك، فأن تأتيَ المواطَنة على أساس الإقامة هي فكرة معروفة في الإسلام. على سبيل المثال، فإنّ القرآن الكريم يوبّخ فرعون على تحامله ضدّ الجاليةِ اليهوديّة في مصر. وعليه، فإنّ تعاليمَ الإسلام تحبّذ المساواة، وهو ما ينسحب على الدولة الإسلاميّة سواء كان ذلك في إطار تركيبها القديم أو الحديث" وتحترم حقوق الفرد والجماعة في الإيمان والمواطنة" وتُنافح عن الإدارة السّلميّة للتنوّع. وعلى الرُّغم من وجود أمثلة على تصرّفاتٍ تُناقضُ هذا الواقع، وهو أمر طبيعيّ، فإنها تشكّل حالاتٍ استثنائية. فالسياق التاريخيّ يُبيّنُ أنّ المجتمعات الإسلاميّة كانت على الأغلب تمارس هذه المبادئ. والشاهد الأقدم على هذه الممارسات تمثّله الوثيقةُ المعروفة باسم دستور المدينة الذي يُبيّنُ بوضوح الاتفاقات المعقودة بين سيدنا محمّد صلى الله عليه وسلم والقبائل غير المسلمة في المدينة. وقد مكّن هذا الدستور كلَّ طرف من إدامة قوانينه وعاداته" كما منح الحقوق وفرض الواجبات بين أفراد المجتمع على أساس الإقامة والمعتقَد الدّينيّ. وبذلك يُعَدُّ دستور المدينة في الأساس مجموعة قوانين مدنيّة وبرنامَجَ عمل للتعدّديّة الإسلاميّة. وفي فترات لاحقة، منح نظام المِلّة العناصر غير المسلمة ميثاقاً للحقوق وخوّلها حقّ الالتفات إلى شؤونهم الطائفيّة. كما يُعطينا الإعلانُ العالَميّ لحقوق الإنسان عدداً من النماذج في قائمة موادِّها، نصّ الأول منها على أنّ "أبناء البشر يُوْلدون أحراراً ومتكافئين في الحقوق والكرامة". وقد وجد هذا النص أصداءَ له في وثائقَ أقدم عمراً كالإعلان السّالف الذكر لسيدنا محمّد صلى الله عليه وسلم. وإنّ عبارة "وُلدنا جميعاً أحراراً ومتكافئين في الحقوق والكرامة" هي مبدأ سلوك إسلاميّ ذو شموليّة عالميّة، بقدر ما هي مبدأ مُطَوّب في ميثاق الأممالمتحدة. وباعتباري مسلماً، فإنني فخور بكوني مؤمناً بالتّعدّديّة. ولعلّني أكثرُ فخراً مع ذلك بسبب قيام باكستان على المبادئ الإسلاميّة الخاصة بالتّعدّديةّ والتسامح واحترام التنوّع. وقد قال محمّد علي جناح في هذا الصدد: "إنكم أحرار: أحرار للذهاب إلى معابدكم" أحرار للذهاب إلى مساجدكم، أو إلى أي أماكن عبادة أخرى داخل دولة باكستان هذه. وبإمكانكم الانتماء إلى أيّ دين، أو أيّة طائفة، أو أيّ مذهب، لا عَلاقة له بعمل الدولة". ثم استأنف حديثه قائلاً: "نشكر الله تعالى... على انطلاق مسيرتنا بهَدْي هذه المبادئ الأساسيّة التي تجعل منا مواطنين، ومواطنين متكافئين، لدوْلةٍ واحدة". وباعتباري من أنصار هذه المبادئ التي وهبتنا أوّلَ دولة إسلاميّة جديدة في العالم، شعرت بالحزن لرؤية الدمار الذي لا مُوجبَ له لدُور العبادة التي تقدّسها الديانة البوذّية في أفغانستان، وأقلقَني صَمْتُ أقراني المسلمين. وقد أحزنني أكثر مخاطبةُ الأرض الوسط، التي تواصل وجودها على مدى قرون عدّة، بلغة سياسيّة. كنت أُفضّلُ رؤية مسلمين يُطلب منهم السفر إلى أفغانستان ليمثّلوا منظّمة الأممالمتحدة" أناس يرتبطون بألفة ثقافيّة كان بإمكانهم مواجهة جماعة طالبان بما مفاده: "إن ما تفكّرون به هو إجراء مُفْرِط، وغيْر معقول، بالنسبة للمسلمين". لكن لا يُمكنُنا السماح لمثل هذا الانحطاط بالاستمرار" وخلافَ ذلك لن يُكتبَ للأرض الوسط النجاة. لا يُمكنُنا مواصلة الادّعاء بأننا معتدِلون ووسطيّون إنْ أخفقْنا في أنْ نكونَ ديناميّين في ترويج هذه الوسطية، وفي ترويج تلك الأرض الوسط. إنْ أخفقنا في أن نكون ديناميّين، وإن لم ننهضْ ولمْ يحسب لنا حساب، ستتضاءل هذه الأرضُ الوسط، وسيقوم المتطرِّفون بملئها بشعارات الكراهية والتحدّي. إنّ إيماني ملْكي، كما أنّ إيمانَ الآخرين ملْكهم" لكنّ أنصارَ القوّة في كلّ المعسكرات - أي الأُصوليّات المختلِفة، بما فيها نوْع من الأُصولية العَلمانيّة - ينصرفون اليوم إلى تمزيق بعضنا عن البعض الآخر، على ما يبدو، لا بين المجتمعات فحسب بل داخل كلٍّ منها أيضاً. ولهذا السبب، فإنّه من المهمّ جدٍّا - بل من الضّروريّ - أنْ لا تسمحَ دولة إسلاميّة حديثة لنفسها بأنْ تركدَ وتأسن بفعل القيود التي تفرضُها عليها العناصرُ المتطرِّفة التي تستخدم التعاليمَ الإسلاميّةَ لتدفعَ ببرامجها غيْرِ الإسلاميّة. كانت رؤيا محمّد علي جناح رؤيا الدولة الإسلاميّة الحديثة: فقد ضمّت دولةَ الرفاهية التي تستمدُّ وحْيَها من مبادئ الإسلام الحقّ وتعاليمِه، وتقومُ على أُسس ديموقراطيّة تنطوي على احترام الفرد وحمايته، وتمنحُ الرجال والنساء والأطفال حقوقاً متكافئة، بصرف النظر عن معتقداتهم الدّينيّة ووجهات نظرهم السّياسيّة. فهي تمثّلُ نموذجاً يجدرُ بنا التفكير به في سياق ما نحن فيه من ارتباك ويأس. * ولي العهد الاردني السابق.