يخصص سمير عبده في كتابه "التحليل النفسي للعقلية الشامية" محاور عدة لأهل دمشق، المدينة الأقدم في التاريخ وما زالت مسكونة، بدءاً من الحياة الاجتماعية، الى صورة المرأة الشامية، والعقلية التجارية في الشام، ثم الشخصية الشامية فالعامة لا يطلقون على المدينة اسمها الفعلي، بل "الشام" مع ان بلاد الشام هي في الأصل ما اصطلح على تسميته الهلال الخصيب لسورية - العراق - الأردن - فلسطين - لبنان. يتناول المؤلف الحياة الاجتماعية في بداية القرن الماضي التي تختلف عما هي عليه الآن اختلافاً جذرياً، فالمثل يقول "يولد الشامي وفي فمه ملعقة من ذهب" أي أنه ينشأ في مدينة كان كل شيء متوافراً فيها، فيرسل الطفل في السابعة من عمره الى "الكتّاب" وهو المدرسة الابتدائية كما هو متعارف عليه الآن ليتعلم القراءة ويتدرج على الخط والكتابة بدءاً من القرآن الكريم، وعندما يختم الطفل القرآن يحتفلون بذلك احتفالاً كبيراً، ويتفاخر الأهل بذلك فيقيمون الولائم والاحتفالات وقراءة المولد... والطفل في عرف تلك الأيام لم يكن أكثر من مشروع انسان. أما الأنثى فكانت على الدوام تمثل للرجل رمز الشر. لهذا لم تكن مستحبة ضمن العائلة نظراً للخوف من أذى الشرف. الانطباع الذي يمكن تأكيده هو ان الطفل في هذه المدينة كان يواجه الحياة مبكراً، وسرعان ما ينسجم مع نفسه وواقعه ورفاقه ومع المجتمع حيث ينمو ويتكلم ويتعلّم كيف يشق طريقه. ومن جهة ثانية يرث الأولاد آباءهم باخلاقياتهم ومهنهم ولباسهم، ويتدربون على القيام بكل ذلك قبل انتهاء حياة الآباء والأجداد... وكانت العادة ان ينخرط الاولاد في الحياة العملية بعد الدراسة الابتدائية، اما البنات فلم يحظين الا بتعلم "الثقافة المنزلية" التي تشمل كل متطلبات البيت من غسيل وطبخ وخياطة واشغال، وكان الاعتقاد ان تجنيب الفتاة القراءة والكتابة يقلل من خبثها ومكرها. وكان في أحياء الشام هيئة اختيارية المحلة وهي ذات نفوذ اجتماعي، والوجهاء نفوذهم اكبر لأنه غير رسمي، وكل من يقصد وجيه الحي في أمر يناله، وان قصده في نزاع مع شخص دعا الوجيه الطرفين فيحضرا اجبارياً وإلا تنكّر لهما الحي بأسره، وما يحكم به الوجيه ينفذ على الطرفين فوراً، وكثيراً ما كان الوجيه يحل النزاع من ماله وهذا هو ثمن الوجاهة. وشيئان لازما الشامي في زواجه ووفاته: ذلك انه حين يصبح شاباً ويميل الى الزواج، كما هو الشأن عند المسلمين من أهل الشام، يتفق ابواه على تزويجه، فتخرج أمه ونسيباتها الى الخطبة والتفتيش عن فتاة توافقه في حياته، الى ان يتم اختيارها بمقاييس الجمال والأدب والمعرفة. واذا راقت أوصافها للشاب تتم الخطبة... وتترك فسحة من الوقت كي يسأل أب الفتاة عن العريس واخلاقه واحواله. فإذا وجدها حسنة اتفقوا على المهر، وقرروا العقد الذي يكون عادة في دار ابي الفتاة المخطوبة من دون ان يكون الخطيب قد رأى خطيبته بعد، بل يكتفي يوصف قريباته لها، ويتبع ذلك الاستعداد للعرس. ثم يحصل بعد ذلك ما يسمى "التلبيسة" اي تهيئة العريس للدخول على عروسه. فقد قضت العادة بأن يرتدي العريس ثياب عرسه في دار احد اقربائه أو اصدقاء أبيه، ويدعى الى "التلبيسة" الاهل والاصدقاء، فيغنون ويتسامرون الى ان يرتدي العريس ثيابه في غرفة خاصة بين اقرانه الشبان الذين كلما ارتدى العريس قطعة منها يهزجون له بأهازيج المداعبة، ثم يأتي العريس الى قاعة الجلوس فيتقدم ويقبّل ايدي أبيه والشيوخ الحاضرين، ويجلس بينهم متأدباً، وينتظرون وصول العروس الى دار العريس، حينئذ يحيط بالعريس اثنان أو أكثر من شيوخ العائلة والحي، ومن حولهم لفيف من الرجال والشبان ويحملون أمامه المصابيح والمشاعل، ويلعب الشبان بالسيف والترس وبالعصا احتفاءً به. وهذا الاحتفال يسمى عراضة اما النسوة، فلدى وصول العريس يستقبلنه بالزغاريد على ضوء الشموع وتقترب منه اثنتان من قريباته، ويجلسانه في مكان مرتفع وسط حفلة ليس فيها الا النسوة، فتتقدم كل امرأة منه وتلصق الدراهم بين عينيه، ثم تخرج العروس وهي تضع على رأسها ما يسمى ب"الشربوش" وهو غطاء يشبه الطربوش وتقف الى جانب الزوج الذي يبادر الى رفع "الجلايه" عن وجهها، وهي تنقصف وتتكسّر ثم تدور، وكلما دارت لصق الزوج ومن معه الدراهم على جبهتها وعلى خديها، ثم تذهب الماشطة بها الى غرفة، وتخلع عنها ثيابها وتضع عليها ثياباً اخرى، وتلبسها عمامة كبيرة كعمامة القاضي، وتمسك سيفاً مسلولاً بيدها، فيأخذ الزوج السيف منها، ويضربها ببطنه ثلاث ضربات على رأسها علامة الخضوع، وفي نهاية المطاف، وعند توجه الزوجين الى غرفتهما الخاصة، يجدان أم العروس وقد حالت بينهما وبين الدخول، الا ان يمرا من تحت ساقيها كرمز للخضوع... وهكذا يكون الشاب قد ذهب لتأسيس عائلة خاصة به. المرأة في "الشام" ظلت المرأة الشامية الى عهد قريب أسيرة بيتها، ممنوع عليها الخروج الا في الحالات الطارئة. لكن مكانتها تقوى بعد ان تصبح أماً، ويشتد ازرها أقوى فأقوى حين تصبح جدة، وهي ما زالت بين الثلاثين والخامسة والثلاثين، وباعتبار ان الأم هي المسؤولة عن الأولاد أمام زوجها، فإن كان تأثيرها فيهم قوياً، فالأم، اي الحماة هي ست البيت، لا كنتها، في بيوت تسع الاسرة كلها، وكان رأيها الفيصل. ولو طلبت من ابنها لبن العصفور لجلبه، انها عالم البيت الذي يرون عبره المرأة، وكل ايماءة منها هي غرس في نفوسهم، ونرى ان الام في المجتمع الشامي مقدسة فعلاً ومحترمة من الابناء. من ناحية اخرى، كانت المرأة الشامية شأنها شأن النسوة الاخريات وبحكم جهلها وانعدام خبرتها وعزلتها، أكثر افراد المجتمع والاسرة تجاوباً مع الخرافات واكثر ميلاً لتصديقها والعمل بها، وخطورة هذا الواقع كانت تنعكس على الاطفال في سني حياتهم الأولى، حين تكون الام المصدر الأساسي للمعلومات التي ترسم معالم ذهنية الطفل وشخصيته، فكانت تلجأ الى استخدام الجن والعفاريت والشياطين كوسيلة لارهاب الطفل او ردعه عند قيامه بما لا يعجبها. كما ظلت تحيطه - وربما حتى الآن - درع من السور القرآنية، والاحجبة والرقى والتعاويذ، لخوفها عليه من شرور الجن. وكان للمرأة الشامية في ذلك الوقت قاموسها من العادات والمعتقدات الخرافية توارثتها عن الامهات والجدات، من ذلك قولها اذا مسحت قطة البيت وجهها بيدها، فإن ضيوفاً في طريقهم الى البيت. اما اذا وقف الغراب على احد المنازل وصاح فإن غائباً سيعود، واذا شعرت بحكة في الحاجبين، فإنها ستذهب للسلام على غائب. ولا تغسل المرأة الثياب يوم الاثنين، لأن معنى ذلك ان غسيل الاثنين لا ينقى، وصاحبه لا يبقى، ولا تقص ثوباً في يوم الثلثاء لأن هذا الثوب يذهب حريقاً أو إرثاً. واذا طنت اذنها اليمين فهذا يعني ان صديقاً أو محباً يذكرها. اما اذا طنت الاذن اليسرى فعدوك هو الذي يذكرك. ولا يقيمون اعراساً ليلة الجمعة لأن عروس الجمعة قريبة الرجعة. ومن ذلك ايضاً انهم يعطون العروس ساعة دخولها بيت الزوجية قطعة من العجين، لتلصقها خلف الباب، وتلصق العروس معها في بيت الزوجية الى الأبد. ويقولون ان الفراشة التي تطير في البيت ما هي الا روح من الاقرباء تحوم فيه، فيجب العطف عليها وعدم ايذائها. واذا حدثت وفاة في المنزل فانهم يصرون على اخراج المغسل قبل المتوفى لئلا تتكرر الوفاة ثانية وثالثة. وهذه المعتقدات والخرافات اصبحت فولكلوراً من الماضي. ولم يعد يؤخذ بها هذه الايام إلا في ما ندر. ياسين رفاعية