آب اغسطس في لندن لا يعني سوى كرنفال "نوتينغ هيل غيت". وهو كرنفال عجيب غريب، وحيه من ترينيداد، والمشاركون فيه كاريبيون، واميركيون لاتينيون وآسيويون، وفي السنوات الاخيرة انضم العرب اليهم على استحياء، والمتفرجون من كل صوب وجهة من ارجاء المعمورة، يمثلهم مليونا شخص سنوياً، هم متوسط العدد الذي يتوجه الى هذا الحي الراقي اليوم الغارق في الفقر والفوضى قبل 40 عاماً. فض عطلة "بانك هوليداي" التي تصادف في آب، وهذه موعدها عطلة يوم الاثنين التالي للسبت الأخير من الشهر، تشهد شوارع منطقة "نوتينغ هيل غيت" ثاني أكبر مهرجان من نوعه في العالم يقام في الشوارع بعد مهرجان "ريو" الأشهر. وعلى مدى يومين، هما الأحد والاثنين، تشهد ثلاثة أميال تشكل المسافة الفاصلة من منطقة "لادبروك غروف" مروراً "بوستبورن غروف" وصولاً الى نقطة البداية عبر "كنزال رود" الكرنفال. شاحنات عملاقة تحمل على متنها مكبرات ضخمة للصوت وفرقاً موسيقية حية، وخلفها يسير المشاركون والمشاركات، والجميع يرتدي ملابس الكرنفالات الملونة والغريبة، وأقل ما يقال عنها، لا سيما النسائية، انها فاضحة. وتعد الأوعية المعدنية المستديرة التي يدق عليها العازفون من سمات الكرنفال الرئيسة. وتجري مسابقة خاصة لاولئك العازفين يوم السبت في مكان اسمه هورنيمانز بلازنس. وبالاضافة الى موسيقى الصالصا اللاتينية التي اشتهر بها الكرنفال، انضمت الى القائمة على مدى السنوات الماضية كل موضات الموسيقى والرقص وصرعاتهما. وتشمل حاليا موسيقى "الريغي" و"الراغا" و"درام آن باص" و"جانغل" و"غاراج" و"هاوس" وغيرها. ودأب منظمو الكرنفال على تصميم أربعة مسارح سنوياً لاستيعاب الراغبين في الرقص. وعلى رغم ذلك، فإن غالبية الجمهور تفضل الرقص في الشارع حيث يتاح لهم تغيير الخطوات والرقصات تبعاً للشاحنة المارة أمامهم. ويزيد الراقصون من سخونة رقصاتهم وخطواتهم بفعل الأطعمة والوجبات التي يشترونها من ربات البيوت اللائي يهيئن للمناسبة من السنة الى السنة بأطباق من الكاري الحار، والفطائر الجمايكية التي لا تقل حرارة وشتى أنواع المشروبات المولدة للطاقة. وعلى رغم ان الكرنفال اكتسب سمعة أمنية سيئة في السبعينات والثمانينات الى مطلع التسعينات، وذلك لكثرة الحوادث الناجمة عن الازدحام الشديد، ونشوب المشادات الكلامية التي تتصاعد الى وخزات ولكمات وصل بعضها الى حد القتل، إلا أن الكرنفال أضحى أكثر هدوءاً في السنوات القليلة الأخيرة. وتسخّر أعداد كبيرة من أفراد الشرطة للسيطرة على الوضع الأمني وسلامة الجمهور. وأصبحت صور رجال الشرطة الذين تقبلهم سيدات كاريبيات ضخمات الجثة من ثوابت الصفحات الأولى في الصحف البريطانية عقب انتهاء الكرنفال. كما صدرت تعليمات بضرورة اغلاق اجهزة الصوت الضخمة الساعة السابعة مساء. وأثبت النظام الجديد فاعليته، اذ يقع أغلب الحوادث والأعمال غير القانونية عادة بعد تلك الساعة. ويقال ان عدداً كبيراً من سكان "نوتينغ هيل غيت" يهرب خارج مربع الكرنفال في هذين اليومين هرباً من الازعاج والجرائم المتوقع حدوثها. وعلى رغم ان نسبة متزايدة من سكان المنطقة من أثرياء لندن ومشاهيرها، الا انهم قبل نحو قرنين كانوا أبعد ما يكونون عن الثراء. ربما كانوا مشهورين، ولكن لأسباب لا تتعلق بالفن أو بالبورصة. كانت المنطقة في النصف الأول من القرن ال19 تعرف ب"بوتريز" أي آنية فخارية وذلك بسبب قطع الفخار الكثيرة في "شارع والمر". وفي حقبة أخرى عرفت باسم "بيغريز" وبيغ تعني خنزير وذلك نسبة الى التوزيع السكاني آنذاك، اذ كانت نسبة الخنازير الى الأفراد ثلاثة الى واحد. وقبل 40 عاماً فقط، كتب احدهم عن "نوتينغ هيل غيت" انها حي قذر وموصوم، مليء بالبيوت التي تتشارك فيها عائلات عدة وتسكنها الفئران وتغطيها القاذورات. وساءت الأمور مع وصول الافواج الاولى من المهاجرين من جزر الكاريبي الذين اضطروا الى التنافس والتناحر على فرص العمل والمعيشة جنبا الى جنب مع السكان الاصليين البيض الغارقين في الفقر. وفي آب عام 1958، اندلعت في شارع بمبريدج في نوتينغ هيل غيت الشرارة الاولى للتظاهرات العنصرية، وذلك حين وصلت باصات محملة بالانكليز البيض الذين اعتدوا على بيوت السكان الكاريبيين. وفي العام التالي، بدأ "كرنفال نوتينغ هيل غيت" بشكل غير رسمي، وذلك كرد فعل للتظاهرات. واقتصر الكرنفال على عدد من الحفلات في قاعات مغلقة. وعام 1965، انتقل الكرنفال الى الشارع. وعلى رغم المحاولات الجادة التي بذلت في السنوات الأخيرة لتهدئة المشاعر التي تحتدم كل عام بين الجالية السوداء المشاركة في الكرنفال وأفراد الشرطة، إلا ان كثيرين ما زالوا يخشون التوجه الى الكرنفال خوفاً من حدوث اشتباكات عنيفة. وآخرون يتجنبون المنطقة برمتها في فترة الكرنفال، ولكن لأسباب تتعلق بأصوات الموسيقى المجنونة وجموع الراقصين الأكثر جنوناً. المهم هو أن حركة السياحة الوافدة الى لندن تشهد انتعاشاً ملحوظاً في وقت الكرنفال، اذ يؤمن البعض انها فرصة للمشاركة في كرنفال "ريو" الأشهر مع الاستمتاع بالسياحة والتسوق في عاصمة الضباب.