انعكس جدل الحداثة الشهرية، على صورة الكتابة ذاتها، فلم يعد بمقدور صانع الكلمات أن يطرح نموذجاً وثوقياً، متماسكاً و"صافياً"، لا لأن النموذج خضع لتسريحه قسريٍّ تعسفي من خدمة التذوّق، بل لأن عوامل انتاج هذا النموذج فقدت انسجامها. بدءاً من موضوعة الشكل الشعري، والرؤية، لم يعد النص يُنشد ويمجد، بل يتفكك بحثاً عن هويته ذاتها. الطبيعة تحوّلت موضوعاً، والروح ما هي إلاّ مفردة، أما المعنى فهو آخر المرحَّب بهم، وسداد الدَّين - المعرفي والفلسفي - وظف النص الأدبي بما يشبه التوظيف الايديولوجي - الالتزامي. كذلك فإن مفهوم الشعرية، جميعه، انتقل من الصورة الى الكتابة، من المعنى، الى الشكل. ولأجل هذا، عندما نقرأ ما يمكن تسميته تأمُّلاً، أو صفاءً، نحسّ بمكان هذا التأمّل والصفاء في ظلّ قلق الحداثة وجدلها، ونتساءل عن موقعه. كما في كتاب الشاعرة اللبنانية هيا طارق زيادة "قمر يمشي ولا يتعب" ديناميك غرافيك للطباعة والنشر - بيروت. كتاب هيا مؤسس على تأمّل ما، في خلفية من صفاء الصمت، خارجه جدل التعبير والشكل، وتهمس في ما يشبه التبشير: "قمر يمشي ولا يتعب، يضيء ظلمات الليل، يشعّ على الأرض، ويحيي في قلوب الناس ميّت الأمل" حتى أنها تطرح سؤالاً كما لو ان الاقامة على الأرق بدأت للتو: "من أين يأتي هذا الشرّ كلّه؟". قد يكون صعباً ايجاد فسحة للتأمّل الميتافيزيقي يسبب غلبة التاريخ في الكتابة الشعرية، التاريخ كمعطى مادّي/ جدلي، وكمصدر للمعرفة والاستنتاج، وهو ما ميّزه الفيلسوف الألماني "اشبنغلر" في "انحلال الحضارة الغربية" بقوله: "الحضارة المصرية تذكّرت كلَّ شيء، بينما الحضارة الهندية نسيت كلَّ شيء" قاصداً محسوسية المصرية وتاريخيتها، وميتافيزيقية الهندية ولا تاريخيتها. ولكن من العدل، بمكان، لوم جدل الحداثة، فهذا الجدل التغييري انعكس على الكتابة بطريقة سلبت صفاءها وغنائيتها، مما ألقى بتركة الرومانسية في النسيان، وما كتابة التأمل إلا اتصال سرِّي مع هذه التركة: "في الصمت/ نرتاح/ على عتبة الوقت/ لنفتش في زوايا العتمة/ عن ذاتنا الضائعة". وهذه من قضايا الفلسفة التي أولاها "هيدغر" اهتماماً خاصاً بانتقاده المدنية الغربية كونها جعلت "الضجيج" يتسلل الى "صمت الكائن". هذا الضجيج الذي وحَّد الذوات، بإفراغها من صمتها، هويتها، وجعل التشابه صورة الجميع بعدما طرحت المدنية الفردية. لهذا تأخذ هيا مكانها في الهروب من الضجيج كطريق لاكتشاف الذات: "في فضاء الصمت/ لا أُشبه سوى نفسي". هذا لا يعني أن تجربتها تقوم على وثوقية متعالية، من خارج الحوار والتاريخ، بل يؤكد نزوعها التأملي نقيضه: "نصوم عن الكلام/ فيما البال في أرجورحة ذكريات" مشيرة الى التنازع بوضوح. ولو ان السؤال الميتافيزيقي يبقى مسيطراً: "من ضفة الى ضفة/ نعبر/ هل الموت نهاية/ أم هو امتداد للحياة؟". وثمة ما يكشف توهجاً شعرياً بسبب قوة التنازع، بين الصمت كفضيلة مؤجلة، والكلام كفضيلة قسرية: الأولى تنتج السؤال الميتافيزيقي، والثانية تصنع الشعر كما في هذا التوهّج. القطعة المستعارة من الموت، هي الذاكرة، بل هي أجمل من تسميتها، لما فيها من شعر، من مجاز وانخطاف وتدمير. تكاد هذه الجملة تحمل الكتاب لولا توهج آخر: "بين الساعة والظل/ يسير/ باعة الهواجس/ في فراغ يشبه العدم". في مثل هاتين المحطتين، يقف الوعي الشعري قبالة نفسه، ناقضاً أولياته وأسئلته التي قام عليها، وتتحوّل الوثوقية الى نقض، والميتافيزيقية الى خصم، والصمت الى كلام. تبديل المواقع، على هذه الشاكلة، هي ميزة الشعرية، وضرورتها، كيلا يزداد التشابه بين الشعر والاستدلال. استطاعت هيا معالجة أزمة التأمّل والتفوق على سيطرتها الآسرة، فالتأمل لذة، كالنسيان، بينهما تتوطد حركة الشعرية: "قصاصات الورق/ الملتصقة بالأرض/ تشبه الأحلام المسحوقة...".