الأحداث الجسام تتطلب من الفاعلين السياسيين الجديرين بهذا الاسم تجديد قياداتهم واعادة تعريف أدوارهم وسياساتهم وممارساتهم التي امتحنتها الاحداث. وهذا ما تتضافر المؤشرات على ان السلطة الفلسطينية قد بدأت أخيراً تعيه. لكن المشكلة الشائكة حقاً هي ان المعارضة الراديكالية، المسؤولة الأولى عن الزلزال الفلسطيني، ما زالت لم تع بعد ان تغيير المعطيات السياسية يفرض عليها تغيير قناعاتها وممارساتها القديمة. لماذا تأخر وعيها الى هذا الحد عن ادراك هذه الحقيقة؟ لأنها ما زالت في طور ما قبل السياسة تصنع قرارها، لا انطلاقاً من متطلبات ميزان القوى، بل اعتماداً على الحس المشترك، أي الأداء والمعتقدات والتجارب الذاتية التي هي في معظمها أخطاء شائعة تستمد شرعيتها من قوة العادة واجماع العامة على تصدىقها. حسبُ الملاحظ السياسي قراءة خطاب "حماس" عن تبرير عملياتها الاستشهادية ليتأكد من ذلك، مما جعل صنعها لقرارها متناقضاً مع منطق صنع القرار السياسي المعاصر. مثلاً: "سلاح العمليات الاستشهادية هو ورقتنا الرابحة التي حولت ضعفنا الى قوة... اسرائيل عندها الأباتشي واف 16 ونحن عند الاستشهاديون... بهذا السلاح نأخذ ثأر شهداء الشعب الفلسطيني... هذا السلاح اعطى للشعب الفلسطيني الأمل في تحقيق حلمه في دحر المحتلين عن أرضه... نزع السلطة الفلسطينية لهذا السلاح منا يعتبر أكبر خدمة للاحتلال الذي يعيش كابوساً مزعجاً من العمليات الاستشهادية... وقف هذا السلام لاعطاء فرصة للتسوية لا يقنع احداً فماذا أعطت المفاوضات منذ عشر سنوات؟ حماس تبقي خيار التحرير وترفض خيار التسويات والمساومات ولا تطرح شعارات في الهواء أو اوهاماً يصعب تصديقها... العمليات الاستشهادية لا تخدم مشروع شارون كما تقول السلطة، بل مشروع الشعب الفلسطيني. هذا الدفاع عن العمليات الانتحارية يندرج في الأخطاء الشائعة مثل طلعت الشمس وغربت، بدلاً من دارت الأرض حول نفسها، يصدّقها السامع للوهلة الأولى لأنها تتفق مع بداهات الحس المشترك، لكن ما أن يخضعها للتفكير النقدي حتى يكتشف زيفها. مثلاً تبرير اللجوء الى "العمليات الاستشهادية لأنه السلاح الوحيد المتاح لنا" كما تقول حماس! لكن في العمل السياسي يُختار السلاح لجدواه في تحقيق المشروع السياسي لا لمجرد أنه الوحيد المتاح. مثلاً آخر: ادعاء حماس أنها لا تطرح شعارات... وأوهاماً يصعب تحقيقها، لا يصمد للنقاش: هل يوجد وهم أبعد منالاً من وهم تحرير فلسطين حتى آخر ذرة تراب في مستقبل منظور؟ اذا حاكمنا هذه التبريرات بمعايير متطلبات الممارسة السياسية في فلسطين خصوصاً في حقبة ما بعد ايلول سبتمبر التي أبلست العمليات الانتحارية، فسنكتشف خطرها على الهدف النهائي للشعب الفلسطيني: دولة قابلة للحياة تلم شمل معظم الشتات الفلسطيني. في هذه الحقبة لم يعد العالم يتسامح مع العمليات الانتحارية ضد المدنيين الاسرائيليين، وكل ممارسة فلسطينية يدينها العالم تضر بمستقبل الشعب الفلسطيني، وهذا هو المحذور الذي وقعت فيه قيادة حماس: "سأدافع عن نفسي بالعمليات الاستشهادية رضي العالم أم لم يرض، قال عني ارهابي أم لم يقل" كما صرح زعيم حماس الروحي، كما لو كان الصراع الاسرائيلي - الفلسطيني مبارزة بين فارسين تنتهي بصرع أحدهما الآخر. دور العالم فيه هو دور المتفرج السلبي، لذلك فكسبه لا ينفع وخسارته لا تضر، وليس معركة متشعبةً الخطأُ فيها ممنوع لأنه مجازفة بمستقبل آخر شعب في العالم لا تزال أرضه محتلة. الرأي العام العالمي الذي يحتقره زعماء حماس يلعب اليوم دور الحكم في كل نزاع، وهو فضلاً عن ذلك بات سلاح المستضعفين الضارب لتعديل ميزان القوى لصالحهم. فلولاه لواصلت صربيا إبادة شعبي البوسنة وكوسوفو. في المقابل بإمكان قيادات فلسطينية رشيدة استخدامه ايضاً للضغط على عواصم القرار الدولي ليفرض مجلس الأمن حلاً على شارون... لكن ذلك ضرب من المحال طالما تواصلت العمليات الانتحارية التي تحول في وعي الرأي العام العالمي الضحية الى جلاد والجلاد الى ضحية. فيرى في كل عملية انتحارية ضد مرقص أو محطة باص أو فندق أو سوق اعلاناً للحرب على اسرائيل ويتفهم ردود فعلها الدموية. مشكلة قيادة حماس انها، كغيرها من زعامات الحركات الدينية السياسية، عجزت حتى الآن عن امتلاك مشروع سياسي حتى بتعريف الحد الأدنى: تحديد أهداف قريبة المنال لا تتعارض مع الاجماع الدولي الذي لن يتحقق شيء من دونه، وامتلاك الشجاعة السياسية على اعادة التفكير في افكارها وممارستها. في غياب القدرة على قراءة موضوعية لميزان القوى الاقليمي والدولي تسمح بالمعرفة الموضوعية له، ستبقى القيادات الفلسطينية تكرر اخطاءها وتقود شعبها من هزيمة الى اخرى. امكانية تصحيح عقلاء حماس لخطأ العمليات الانتحارية يتطلب منهم التفكير العميق في مسألتين اساسيتين: من يحق له تعريف المصلحة الوطنية الفلسطينية، ووعي عواقب الخيارات الاسرائيلية المضادة لخيار العمليات الانتحارية. هل السلطة الوطنية الفلسطينية هي المؤهلة لتعريف المصلحة الوطنية أم حماس أو أي تنظيم من تنظيمات الطيف السياسي - العسكري الفلسطيني؟ لا شك منطقياً وديموقراطياً ان السلطة، نواة دولة الغد، هي مستودع الشرعية الوحيد. اذ لو تسامحنا مع أي تنظيم يعطي لنفسه حق تعريف المصلحة الوطنية لوجدنا من المصالح الوطنية بقدر ما يوجد من تنظيمات. وهذا أفضل وصفة للقضاء على المصلحة الوطنية. السلطة الوطنية الفلسطينية تؤكد أن العمليات الانتحارية هدامة للمصلحة الوطنية لأنها تعطي الذرائع لشارون لتنفيذ خياراته الكارثية على الشعب الفلسطيني، وتحبّذ العودة الى خيارات سلامية تلبي تطلعات الفلسطينيين الذين اكتووا بويلات الحرب. حسب استطلاع اجراه الباحث السياسي خليل الشقاقي بعد الزلزال اتضح ان ثلثي السكان الفلسطينيين يؤيدون المبادرة السعودية للسلام و70 في المئة مع المصالحة الفلسطينية - الاسرائيلية بعد قيام الدولة الفلسطينية. 60 في المئة من الاسرائيليين يؤيدون بدورهم قيام دولة فلسطينية. هذا المزاج الشعبي ملائم للانتقال من العمليات الانتحارية الخاسرة الى الحرب الاعلامية التي يمكن ان تكون ظافرة تنتهي بتدويل النزاع وتبنّي مجلس الأمن لحل يُفرض على شارون لتطبيق قرارات مجلس الأمن ذات الصلة حسب جدول زمني، وكل تفاوض في شأن باقي التفاصيل يجري تحت وصاية مجلس الأمن. وإذا توقفت العمليات الانتحارية يستطيع معسكر السلام الفلسطيني ان يعيد الروح الى معسكر السلام الاسرائيلي والى حزب العمل الذي تبنى رئيسه خطة للسلام تجمع بين مقترحات كلينتون وتفاهمات طابا والمبادرة العربية للسلام. 15 ألف عربي اسرائيلي داخل هذا الحزب يشكلون جماعة ضغط لصالح السلام. أضف اليه حزب ميريتس والاحزاب العربية الاسرائيلية والمثقفين السلاميين والجمعيات الاسرائيلية المناهضة للاحتلال والاستيطان. تحقيق الاصلاحات المطلوبة شعبياً ودولياً بسرعة وبصدق سيشكل مدخلاً جيداً لتجديد شرعية السلطة التي تآكلت وتطهيرها من الفساد وتالياً زيادة مصداقيتها داخلياً وخارجياً. وهذا أفضل اعلان في الاعلام العالمي يساعد على التصدي لخيارات شارون المدعومة من صقور ادارة بوش والمناهضة لا لقيام الدولة الفلسطينية وحسب بل ايضاً لمجرد بقاء الشعب الفلسطيني على أرضه. منذ الآن بدأت الاجهزة الامنية الاسرائيلية تطرد بين 30 الى 50 ألف عامل فلسطيني يقيمون بصورة غير قانونية داخل الخط الاخضر بذريعة ان بينهم من يسهل تسلل الانتحاريين. وينسب لشارون مخطط يستهدف ترحيل آلاف الفلسطينيين الى الأردن قبيل انتخابات 2003. منذ الآن رصد 100 ألف دولار لكل عربي اسرائيلي يقرر الهجرة من اسرائيل. القاسم المشترك بين خيارات شارون للرد على العمليات الانتحارية زعماً هو تضييق الخناق على الفلسطينيين لدفعهم الى الفرار بجلدهم بعيداً عن فلسطين. المواظبة على تدمير بقايا السلطة الفلسطينية لاسقاطها لصالح حماس كما يريد صقور ليكود، أو لصالح حكومة عميلة كما يريد شارون، وتحويل حرب اعادة الاحتلال الى حرب يومية عبر التدخل في المدن والبلدات الفلسطينية للاغتيال والاعتقال وتدمير المنازل وبقايا البنية التحتية لتحويل حياة الفلسطينيين الى مأساة يومية لدفعهم الى الهجرة. لقد هاجر خلال الانتفاضة 300 ألف شاب ونصف المسيحيين الفلسطينيين. تقسيم الضفة والقطاع الى 12 كانتون ذو هدف مزدوج: منع قيام دولة متصلة جغرافياً وتحويل المدن والقرى الفلسطينية الى معازل والاجهاز على الاقتصاد الفلسطيني لتسريع الافقار المطلق. فقد قفزت نسبة من يعيشون تحت خط الفقر من 50 في المئة قبل الانتفاضة الى 78 في المئة بعدها... كل ذلك يصب في اتجاه الحث على الهجرة. لكن الذريعة الشارونية هي حماية المدنيين من العمليات الانتحارية. بالتعلّة ذاتها يعمل الجيش الاسرائيلي على اقامة مناطق عازلة ستقضم خمس مساحة الضفة، وقد ينسحب شارون من طرف واحد الى حدود مريحة ويضم 24 في المئة من الضفة الغربية ويحتفظ بالقدس التي تشكل 25 في المئة من مساحة الضفة مع احتفاظ الجيش بحق التدخل ل"منع العمليات الانتحارية" حيث يشاء ومنع دولة فلسطينية لا تكون نتيجة مفاوضات مع اسرائيل. خيار شارون الأخير لتسريع "الترانسفير" هو التذرع بالعمليات الانتحارية وعمليات حزب الله لشن حرب اقليمية لحرق جنوبلبنان وربما اسقاط النظام السوري، أو على الاقل اضعافه لإشعال فتيل الحرب الطائفية في كل من لبنان وسورية. فهل يقبل فلسطيني لم يبع روحه للشيطان بأن يكون، بالعمليات الانتحارية، حليف شارون الموضوعي لتحقيق الخيارات الكارثية على الشعب الفلسطيني وجميع شعوب المنطقة؟