يعرض الزعيم الاسلامي السوداني السجين منذ توقيع حزبه "مذكرة تفاهم" مع "الحركة الشعبية لتحرير السودان" منذ 17 شهرا، في المقال التالي رؤيته للحل السلمي للمشكلة السودانية ويثير محاذير عدة من أن ينتهى الامر الى اقتراع ابناء جنوب السودان لمصلحة الانفصال في الاستفتاء الذي يجرى في نهاية الفترة الانتقالية التي نص عليها اتفاق الحكومة السودانية مع "الحركة الشعبية" في 20 الشهر الماضي. إن السودان لأوائل القرن التاسع عشر ما كان يمثل قطراً تقادمت فيه ورسخت موالاة وطنية أو أحاطت به نظم سلطانية، بل كان اسماً يطلق على الحزام الأفريقي الذي امتد جنوب بلاد الساحل للبحر الابيض المتوسط التي تعرضت من ثم لغاشيات حضارية أسبق بينما ظل السودان في قديمه يستمد من شماله ويتواصل شعوباً ويضطرب بحوزات متكاثرة يدول فيها السلطان لكن الشعوب تتحد بأنهم سودان لون البشرة لأهاليه. وقد نزل عليه وقع الغزو الاستعماري فأقتسمه سوادين اتخذوا لهم أسماء أخرى بعد استقلالهم إلا ما كان عند النيل سوداناً بريطانياً مصرياً استبقى اسمه بعد الاستقلال. وكان السودان الملتقى الشعوبي لمدّ العروبة والإسلام القادم من ذات الشمال أو الشرق والغرب وللكيانات الأفريقية السامية والزنجية المقيمة فيه المندفعة جنوباً. وكان إقليمه وصلاً بين شبه الصحراء الشمالية والخضرة الجنوبية حيث بقي العرب رعاة في الشمال أو ركنوا فيه حول النيل وغمروا بالاسلام واللغة العربية أصولاً أخرى هنالك ودخلت إليهم دفعات هجرة من مصر تبتغي الأرض الأوسع ومن الشرق والغرب تطلب ملجأ، بينما احتصر الجنوبيون في غاباتهم وقبائلهم وألسنتهم إلى عهد قريب. وما جمع كل أرض السودان قطراً إلا زحف محمد علي باشا من مصر يقتدي بالغزو الأوروبي الاستعماري ويسعى لتأمين مياه النيل بالتمكن جنوباً نحو منابعه ولاستغلال ثروة البلاد. وقد قضى على كل المنظومات السلطانية المتعازلة المتقاسمة الأرض إسلامية أو قبلية. ولكن الارتداد السياسي عن الدين في حكمه المستخدم لولاية السلطة غرباء أوروبيين وإثقال وطأته على الرعية بالمفروضات المالية والتجنيد أثار ثورة المهدية الدينية التي تناصر فيها مجاهدون من الشمال والغرب والشرق والجنوب وأقامت دولة إسلامية فى كل القطر، لكنها حوصرت لنزعها الإسلامي المنبسط وارتد عليها الاستعمار البريطاني باسم العهد المصري السابق ليبعد غيره من الأوروبيين، فورث السودان إلاّ الطرف الغربي في دارفور الذي تركه لذاته حيناً حتى قضى عليه لانعطافه إلى تركيا العثمانية الإسلامية المتصلة بألمانيا في الحرب العالمية الأوروبية الأولى. وقد اجتهد الاستعمار الانكليزي أن يتخذ سياسة جنوبية تعزل الجنوب ثقافياً عن العروبة والإسلام الشمالي الجهادي وتفصله إدارياً وتتركه في بالغ تخلفه عرياً وجهلاً وبؤساً وانغلاقاً في العصبيّات القبلية يُباين الشمال ويقارب سائر أفريقيا المجاورة جنوباً. وبعد الحرب العالمية الثانية خرجت الدول الاستعمارية الأوروبية منهكة القوى ونشطت الحركات الوطنية الاستقلالية عموماً وفي شمال السودان. ولذلك شاور الحكام الإنكليز في مؤتمر جنوبي أواخر السنوات الأربعين الزعماء حول خيارات مصيرهم، وما كان خريجو المدارس التبشيرية المحتكرة تعليم الجنوب قد بلغوا مواقع القيادة السياسية، ولذلك ثبت الجنوبيون على رابطة التاريخ وحدة مع الشمال ورجوا أن تراعى حالهم البائسة. وعشية الاستقلال الوطني كان يغلب في الحكم الذاتي الاتجاه الشمالي الاتحادي مع مصر، ولكن لنازعة الغرب والجنوب الاستقلالية ونافرة الاستجابة للدعاية الرسمية المصرية بلغة السيادة على السودان وتحريض الانكليز وروح الثأر الموروثة من المهدية على ما يأتي من تلقاء مصر وظهور الشرائح الوطنية السياسية المثقفة الطموحة - لكل ذلك عاجل برلمان السودان لإعلان الاستقلال في أواخر عام 1955، ووافق النواب الجنوبيون على ذلك شريطة الرجاء أن يأتيهم حكم فيديرالي في الدستور الدائم بعد الموقت الانتقالي ولكن قبل الاستقلال وجلاء الانكليز، أثارت غيرة من سودنة الوظائف في الوطن كله بشماليين ومحاذر من الكنائس وسائر الانكليز من وقع الشمال على حوزتهم في تعليم الجنوب وتنصيره ونكلزة لسانه فأدى ذلك إلى تمرد جنوبي في القوات المسلحة قتل كثيراً من الشماليين الذين كانوا في وظائف الحكومة أو في التجارة بالجنوب، وقد أخمد التمرد بقوة باطشة ولكنه ألقى بذور عداء ومجانبة راسبة. والأحزاب التقليدية التي آل إليها حكم السودان كانت مؤسسة على ولاء طائفي إسلامي، وكانت شمالية التكوين ما فيها جنوبي إلا من تضيفه إلى الحكومة لتمام الصورة وتصريف موازنات الائتلاف والاختلاف في نواب البرلمان، وما كان همها في السياسة والحكم إلا شمالياً فما عُنيت بواقع الجنوب واتساع التدني الفاحش في مستوى المعيشة والخدمات مقارناً بالشمال والبينونة المتباعدة هوية عن الشمال. وكان الجنوب المعلول موطن توتر وتأزم يزلزل استقرار الحكم في الشمال، وكان ثغراً ينفتح لما يرد من الجوار حيث تمتد كل القبائل عبر الحدود وتتصل الثقافة الانكليزية والمسيحية وتتداعى الحملات من هناك وراءها الغرب الكاره للعروبة والإسلام الممتد، ولذلك أصبح باباً للتدخل الأوروبي والأفريقي عوناً لمقاومة الجنوب الثائر على الحكم المركزي. وما كان نظام الحكم في السودان مستقراً بل اضطرب دورات ثلاثاً بين الديموقراطية الحزبية المحدودة والديكتاتورية العسكرية المنقلبة على ذلك. أما القوى والأحزاب السياسية فهي كلما اتجهت لمعالجة أزمة الجنوب لا تمهل لتتم مشروعها بل يُطوح بحكمها بعد سنوات معدودة. وأما النظم العسكرية فكانت لأول عهدها ودفعها تحاول بسط القوة القتالية لإسكان الأمن في الجنوب فإذا بدا عجزها أو أهمّتها المعارضة السياسية تُقدم على أي تسوية لمسألة الجنوب ولو جاءت مفروضة بضغوط خارجية، وإنما كان مقصدها حفظ السلطة فإذا استقر الأمر تنقلب على عهود التسويات. هكذا كان كسب الحكم الحزبي الأول ضئيلاً في وضع سياسة أو خطة أو معادلة تستقر في الدستور الدائم بعد الاستقلال، ولم يبقوا طويلاً بل دفع بعضهم القيادة العليا للقوات المسلحة لتناول حكم البلاد وتولي السلطة. وكان نظام عبود العسكري يحاول كبت الجنوب، وبسط مشروعات التنمية المقدرة كلها في الشمال وطرد المبشرين المسيحيين في الجنوب، لكن المسألة مضت تتأزم عليه، واستغلت القوى المثقفة في الجامعات التي كنا فيها والنقابات الديوانية ثم الأحزاب كلها الفرصة فعبأت ثورة أكتوبر 1964 التى أزاحت النظام بسلام. وظهرت في الساحة قوى سياسية جديدة إلى جانب التقليدية، مجموعات سياسية قومية من مثقفي الجنوب الجدد والحركتان الشيوعية والإسلامية الناهضتان. وقد دُعي أثناء عهد الانتقال الثوري إلى مؤتمر مائدة مستديرة لقضية الجنوب وحضره قادة تمرد كانوا في المنافي وشهده مراقبون أفارقة منهم رئيس كينيا الحالي الذى رجعت حوله الآن تسوية مسألة الجنوب المجاور له الحاضر في بلاده بوجوه سياسية ومهاجرين. وقدّم الإسلاميون أبرز مقترح مقبول هو الحكم الإقليمي خطوة تفك عقدة الحكم المتمركز بالسلطة المحتكر للمال العام في العاصمة والشمال. وتطور القرار المقبول في المؤتمر من كل القوى نصوصاً أدرجت في مشروع الدستور الدائم الذي كان يتهيأ للإجازة في الجمعية التأسيسية والذي ظهرت فيه أيضاً لمحات إسلامية. ولكن اضطرب الحكم وائتلافاته غير المستقرة بالوزارة وقامت حملة سياسية على الحزب الشيوعي ليطرد نوابه ويحظر قيامه حزباً ما كان يؤمن بالديموقراطية. فدبر الشيوعيون مع ضباط أحرار لهم صلات عربية قومية انقلاباً أطاح النظام. ولما ارتبكت علاقات الديكتاتورية العسكرية بسندها الشيوعي حسمتها بالقوة الباطشة وأدبرت عن شرق أوروبا وأقبلت على الغرب والعرب تطلب القبول. ولترضية الغرب وتجاوز عائقة الجنوب في ثبات الحكم ذهب النظام إلى أديس أبابا يتفاوض مع التمرد في ظل من رجال الكنائس والسياسة البريطانية. وكما روى لنا بعض من كان في وفد الحكومة كان الاتفاق مكتوباً عليهم حكماً إقليمياً ذاتياً جمع الجنوب كله. واستقر من بعد الجنوب حيناً وساده السلام، ولكن لم يبلغه شيء من مشروعات التنمية والأموال الواردة التي ركزت في الشمال. وأخيراً اضطربت الوحدة بين قوى الجنوب الجهوية نزوعاً إلى طلب التمايز الإداري وأراد الحاكم العسكري للسودان أن يمكن سلطته المطلقة بالتخلص من القيادات الحاكمة للجنوب ومن مداولاتها الملحة في أمر المياه والبترول، فقسّم الجنوب ثلاثة أقاليم على رسوم المحافظات الاستعمارية القديمة، فأثار غضب القوة الجنوبية النيلية التى كانت حاكمة في جوبا وخرج جون قرنق ومعه متمردون من الجيش إلى اثيوبيا. وكان القرن الأفريقي تحت الهيمنة السوفياتية فعبّرت حركة التحرير الخارجة عن منهجها قوة ماركسية لينينية تمثل طبقة من الكادحين تريد تحرير السودان كله من الطبقة البرجوازية! لكن كان النميري أخذ يشرع قوانين من شريعة الاسلام أصبحت ورقة تستغلها الزعامة الجنوبية الخارجية في سياق حملات العالم العربي المجاور والغربي خصوصاً المستعمر القديم على هذا التحول الإسلامي الغريب. وخلا السوفيات من اثيوبيا فذهبت حركة التحرير إلى بلاد أصدقاء وجيران تلقاء جنوب السودان وأصبحت تشتكي أيضاً من الظلم العربي لإمالة الأفارقة إليهم كما استعطفوا الغرب بالشكاة من فرض الإسلام الذي لم يطبق له حكم قانون واحد في الجنوب. وفقد نظام مايو السند الجنوبي الحي وكان قد صالح الأحزاب الشمالية ولكنه أرتد عليها واسترضى الغرب وبعض العرب بحملة على الإسلاميين، وهكذا خلّع بنيانه السياسي وقامت عليه انتفاضة شعبية أطاحت به عام 1985. وعاد حكم الأحزاب تضطرب ائتلافاته وتتعاقب حكوماته وعجز عن الحسم العسكري للخروج الجنوبي المتسع. وذهب حزب طائفي ديني إلى أثيوبيا ليعقد اتفاقاً مع حركة التحرير يعطل بها الأحكام الشرعية ليرتاح من شعار الدستور الإسلامي والحركة الإسلامية المشاركة في الائتلاف والتي كان يغار من منافستها وأعانه على الأمر جهاز أمني لدولة عربية يواليها الحزب. وقام الجيش بكل قوامه القيادي في حركة ومذكرة أعلن للرأي العام عن ثقل تكاليف الحرب وقصور الحكم، ولكن أصر القادة الفاعلون سراً على رئيس الوزراء أن يخرج الجبهة الإسلامية من ائتلافه الحاكم لأن قوى أعظم تحمل على السودان لا يقوى عليها الجيش. فأُخرج الإسلاميون ويئسوا من بلوغ الحكم عبر طريق السياسة فقد طُردوا قبلاً من صحبة نميري بأمر سافر من بوش الأب الزائر للسودان بشكوى من القوانين الشرعية، وهم في الديموقراطية يطردون لأن الغرب على حبه للديموقراطية لا يحتمل أن تلد إرادة شعبية إسلامية وقد بدأ ذلك في مصائر الجزائر الانتخابية الحرة وفي غيرها. ولذلك فعل الإسلاميون ما فعل الشيوعيون قبلاً من بلوغ الحكم ضرورة بالانقلاب إذ انسدت الأبواب الحرة. وحكومة الانقلاب الانقاذي العسكري كذلك أقبلت لأول العهد على الجنوب بالقوة واستعان الجيش بشعار الجهاد في حملة تحشد له بتعبئة ممن وراءه من الإسلاميين جنوداً من الطلاب والمثقفين لحملات تحرير الجنوب من التمرد. ولكن تفاقمت بذلك الحملة الخارجية وراء حركة الجنوب كما أزّمتها برامج الحكم الصريحة في اتخاذ الإسلام السياسي منهجاً والشريعة مصدراً واحداً للقوانين. تداعت تلك الحملة وسعد التمرد بمدد عسكري وسياسي ومالي متوارد شاركت فيه بقليل بلاد عربية كرهت اتجاه السودان الذي يثير التحول إلى الإسلام السياسي عبرة للعرب جميعاً، فضلاً عن المشاركة الأوسع في الحملة لأفارقة وأوروبيين ثم أميركان بعد حين. وأخذت ثورة الإنقاذ تتطور لأول عهدها نحو اللامركزية والفيديرالية التى كانت تدعو إليها الحركة الإسلامية التي أقامتها. ولذلك انعقد مؤتمر بالخرطوم مبكر جمع الجنوبيين إلى الشماليين واتفق على الفيديرالية لكل السودان. وحين وضع الدستور الدائم تقدمت الانقاذ أيضاً نحو الديموقراطية التى كانت تحملها ذات الحركة دعوة للحرية والشورى المبسوطة للجميع. وأقيمت عشر ولايات في الجنوب وخمس عشرة ولاية في الشمال كلها مؤسسة على انتخاب المجالس التشريعية وانتخاب الولاة. ولكن ما انفك الحكم العسكري في سياسته العامة يترك الجنوب مظلوماً مكبوتاً تعلّة باضطراب الأمن، وتكاثر الجنوبيون في دواوين السلطة وأهمل الشعب، وظلت الحكومة تراوح في المفاوضات التي لم تتقدم. لكن تمكنت الإنقاذ بجهد سوداني خالص بدأ في الغابة أن تعقد اتفاقية الخرطوم للسلام مع أشد المتمردين تطرفاً وشفعتها بأخرى داخلية أيضاً. وتأكدت الفيديرالية في الجنوب وجمع نسق حكمه في إدارة واحدة عليا وأقر حق تقرير المصير وبسطت وعود من المدد للتنمية وحفظت القوات العسكرية التى كانت متمردة بتراتيب. لكن عند النفاذ للاتفاق لم يرض الجيش تراتيب عسكرية لوجود قوات أخرى وخُذلت الوعود برجاء المدد والخير واهمل الجنوب جملة، واشتد الأمر على زعيم الجماعات الجنوبية المسالمة، ريك مشار حتى زهد وخرج من البلاد وعاد ليتحد مع حركته القديمة لتحرير السودان. كان الصد عن الوفاء بالعهود للجنوب شعبة من ظاهرة اختلاف أخذت تتطور في نظام الانقاذ بين من تمكنوا وأسكرتهم السلطة وبين الحركة الإسلامية الأمينة، تنازعاً حول احترام عهد الدستور وتقدم حرية التعبير والتنظيم السياسي والانتخابات لكل القيادات المركزية والولاية تنافساً حراً عدلاً للجميع. وحمي الخلاف وأدى إلى انشقاق إذ سفر الحكم بقوته العسكرية منصرفاً عن كل ذلك مستمسكاً بالسلطة المطلقة للرئيس عازلاً للمخالفين بالمراسيم غير المشروعة وبتدابير الأمن والقوى النظامية لحل المجلس الوطني وطرد قيادات المؤتمر الوطني. فمضى الآخرون وشكلوا المؤتمر الشعبي ليتيسر لهم العمل في إطار القوانين التى تشترط التسجيل لمشروعية الأحزاب، وقاموا بحملة واسعة في حق الحرية والشورى، ثم في شأن الجنوب كانوا يعطفون على جماعة اتفاقية السلام التي عطلت غدراً ومضوا يتصلون بحركة التحرير وعقدوا معها تفاهماً سياسياً يفتح لها أسباب التعاون في سلام بوسائل السياسة معارضة لديكتاتورية النظام وكان ذلك التفاهم في وقعه الخارجي تكذيباً لفرية الدعاية بأن دعاة الإسلام هم عصبية الظلم والاضطهاد للجنوب، والحمد لله سكت التعبير عن تلك الظنون لكن هاجت غيرة وغضبة من الطغيان الحاكم فألغي حزب المؤتمر الشعبي وحظر مناشطه وسجن قادته بتهم العمل لتقويض الحكم ولما بطل الاتهام قانوناً حبسهم بالقوة وراء القانون. وارتدت الحكومة بعد الانشقاق على أعقابها وأحالت الشريعة إلى شعار وحسب، وتبرأت من صلاتها بعناصر الإسلام العربية المهاجرة إلى السودان وسائر حركاته الإسلامية وقضاياه في العالم وأصبحت السياسة الخارجية تذل للغرب وتخشع، وطويت مشروعات الاصلاح المالي والاقتصادي بحكم الشريعة وأصبح الاصلاح ليبرالياً كالغرب وصلحاً مع الدول التى كانت غاضبة ومؤسسات التمويل، وفُعل بصوت الإسلام ودعاته ما تُفعل دول أخرى راكعة لأميركا وراءها الغرب، واسترضيت خاصة أميركا التى ضربت السودان عدواناً وخاصمته بالقطيعة والعقاب، ولكنها كانت تستمر في حملتها حتى يتم الاستذلال وتستكمل ما تريده بالسودان، واستولت على مبادرة "ايغاد" للسلام في السودان بعد حرب الجنوب الأهلية. وبذلك نشطت مبادرة "ايغاد" وعزلت المبادرة المصرية - الليبية ووئدت كما يجرى للمبادرات العربية في الشرق الأوسط. وبدأ التفاوض تهديه مذكرة كأنها اقتراح وسطاء، وتأبّى الوفد الحكومي من الاستسلام لها حتى بلغهم خطر النذير من اميركا أن تفعل بهم ما فعلت ب"طالبان" وصربيا من قبل، فارتعب النظام وآثر مثل العرب والأفارقة أن يكف عن الترفع بالكلمة المستقلّة التي كانت معهودة فيه بتعززه الديني وأن يحفظ عرش السلطة مخيراً أو مسيراً، فاستجاب للكلمة الأميركية ولو ظالمة مثل ما يفعل العرب من الترحاب بالكلمة الاميركية ولو منحازة صراحاً لإسرائيل ولذلك تقلبت المواقف في يومين أخيرين ووقع الطرفان تحت وطأة الضغوط على إطار اتفاق لم تتبين تفاصيله ولم يتم فيه وقف إطلاق النار واتُفق على العود في آب أغسطس لبيان الحواشي المبهمة الخلافية ما دامت كبرى المشكلات قد سويت. 1 - وأولى المشكلات كانت قضية الدين والدولة. وهي قضية عالمية، غالب الدول المسلمة تحاصر الدين واقعاً في الحياة الخاصة وتفصله عن السياسة والحكم، ولكنها تفعل ذلك نفاقاً يحفظ بعض المظاهر والمراسم خوفاً من الجماهير لا من الله العالم بذات الصدور. ذلك بينما تعلن الدول الأوروبية العلمانية وتنفذها صدقاً، ولكنها في قلق من حركة الإسلام الساعية لبلوغ المستوى السياسي في الحكم بتعبئة السواد الأعظم للجماهير فذلك سوق إلى عاقبة يتطلع إليها المسلمون لكنها تضرّ بموازين الهيمنة والمصلحة الأوروبية بل قد تأتي الغرب في دياره. وعلى رغم أن الجنوبيين في المفاوضات الخاصة يؤكدون أن الذي همّهم هو الظلم لا قانون الشريعة فما هو بأبعد منهم أفارقة من قوانين الغرب، لكنه ورقة تروّج لقضيتهم هناك يتخذونها حتى يجدوا ما يرضيهم في قسمة السلطة والثروة واستدراك الظلم والتخلف النسبي وحفظ حرية الهوية ألا يفرضها المسلمون إكراهاً ومغالبة. ولئن أصبحت الشريعة رأس قضايا الجنوب فإنها في الواقع الحق لم تسر في الجنوب منذ عهد نميري ولم يزد البشير عليها فالخمر لا تحظر في الجنوب ولا تقام الحدود. وبداية حركة التحرير وخروجها وقع قبل إعلان نميري للشريعة. والمظلمة الحق في شأن الشريعة أن الإنقاذ هجرت أحكامها السلطانية القطعية في بسط الحرية لكل الناس مسلمين وغير مسلمين وفي انتخاب ولاة أمرهم وفي السلطة مصدرها الشورى والإجماع وفي صون العلاقات السياسية تنافساً حراً صادقاً عادلاً أو عهوداً يُوفي بها في مواثيق دستور أو سياسة. وهذا هو الذي أضر بالجنوب والشمال. وبقي الإسلام مادة دعاية للنظام مثل ما تتخذ الأحزاب السودانية التقليدية التي تقوم أصولها على طوائف ذكر وجهاد إسلامي وتجنح هي بعيداً عن الدين في السياسة وقد أعلنت في أسمرا فصل الدين عن الدولة مما تستحي ان تقوله في السودان أمام الأتباع ذوي الولاء الديني الموروث. أما الآن فقد أبعدت الشريعة من الجنوب قطعاً ومن الحكومة المركزية المشتركة حيث أُجيز للجنوبيين أن ينسخوا قوانينها المشبوهة بالدين. وكأنما دعا إلى ذلك مثل ما رُؤي بالمسيحية الكنيسية القديمة في أوروبا أن الدين عامل تفرق وظلم إذا لم يُبعد يثير الفتنة والحروب. وطوي تاريخ الإسلام الذي بدأ بدولة إسلامية مؤلفة من مسلمين وغير مسلمين يهوداً ثم نصارى مثل الجنوب يعيشون في معادلة موزونة. والغريب أن المؤتمر الشعبي الأخلص لدعوة الشريعة الضابطة للطغيان والسلطة المحتكرة والغدر بالعهود هو اليوم أقرب إلى حركة التحرير من الحكومة التي تحمل شعار الإسلام ظاهراً رسمياً ووضعته اليوم في حال لو مضى تقرير المصير إلى انفصال سيذهب في أفريقيا مثالاً يشابه تيمور الشرقية في آسيا كأنه شهادة بأن الإسلام لا يصلح اليوم ديناً لوطن موحد إذا جمع ذوي ملّة دينية أخرى! 2 - أما اللامركزية للسلطة في القطر الواحد فقد تطورت في السودان من مركزية الاستعمار إلى الحكم الاقليمي إلى الحكم الفيديرالي، نُظماً قد لا تكون طبقت بصدق لقيام نظم عسكرية علىها تضبط الوطن كله بيد قابضة. الآن اتفق على دولة جنوبية بدستور علماني ولها جيش قائم يجند ويدرب ولها علاقات خارجية سياسية ومالية ولها هوية اجتماعية وثقافية متميزة قد تغلب فيها اللغة الانكليزية وينغمِر الإسلام وينشط التبشير الكنسي والتعلىم الغربي ونظام حكمها ديموقراطي وقاعدتها الأرض والشعب في الجنوب. ولا ندري هي كونفيديرالية دولتين أم ترتيب مثل ما بين دول أوروبا الغربية اليوم، لكن قد يتجه نحو الانفصال البيّن بينما تتوثق علاقات المجموعة الأوربية نحو الفيديرالية. ولا يبين في الاتفاق مدى السلطات للحكومة المركزية وقسمة السلطات على النهج الفيديرالي كأن كل السلطات توكل للحكومة الجنوبية ثم لحكومة مشتركة لا يدري أحد لأي مدى تسود. أما الحكومة الشمالية المذكورة في الاتفاق فهي غير موجودة واقعاً وإنما تعرف ولايات محدودة السلطات في الشمال. 3 - أما قسمة الثروة فقد حق الحرص على عدلها إذ الجنوب مظلوم لزمان، لم تقم فيه بنيات أساسية ولا خدمات للإنسان ولا تنمية انتاجية، كل ما يصله من مال كان يرد من الخرطوم لرواتب العاملين الأضعف حظاً هناك. أما الآن فقد أصبحت قضية البترول في خلاف لا سيما أنه ثروة تصل حدود الشمال والجنوب وتمتد متوافرة في كلا الجهتين مثل الذهب. وكل موارد المال العام ستقسم الآن تشرف علىها جهة أجنبية. أما القطاع الخاص فالزراعة بحيوانها تعمر في الشمال بمشكلاتها لكنها تتعطل في الجنوب، وإذا لم ينفتح السودان ليهاجر الجنوبيون إلى مواقع العمل في الشمال والشماليون بأنعامهم وأموالهم لإعمار الجنوب، وإذا لم يربط الشمال والجنوب بالطرق والطاقة لتتناصر قوى الوطن كله للنماء فقد يظل الجنوب متخلفاً. وإذا أحجم الاستثمار الخارجي لغياب البنيات الأساسية والعمالة المدربة وشبع الجنوبيون سلاماً وتذكروا فقرهم كما أعقب الحكم الذاتي بعد اتفاقية أديس أبابا، وإذا انطلق الشمال بوفوراته من خسارة الجنوب الماضية، وإذا عمّ الفساد لغياب الديموقراطية ورقابة الشعب - عندئذ سيزداد الجنوب غضباً من الشمال ويجنح للانفصال. 4 - ضمان الاتفاق. بعد تاريخ من الاتفاقيات والعهود المنقوضة من نظام نميري والبشير الآن تُستصحب الريب والشكوك في الوفاء في إطار الوطن. والغريب أن الإتفاق أغفل المصير الديموقراطي للبلاد كافة. منذ عهد عبود كانت الندوات الثورية تؤكد أنه لا أمان لصدق علاج لأزمة الجنوب إلا بالحرية والديموقراطية التي توكل الأمر للشعب كله. إن الغربيين المشاركين في الاتفاق يؤمنون لأنفسهم بالديموقراطية لكنهم هنا أو في أي بلد عربي أو إسلامي أو أفريقي يخشون إن فسحت أن تلد إرادة حرة فاعلة، ويريدون أن يبقوا هم الذين صنعوا الاتفاق وأجازوه بقوة ضغوطهم الأولى بالرقابة والضمانة والجزاء للغدر، ووقع الطرفان على العقوبات التي يرتبها الغربيون على خروقات العهد قطيعة مالية أو اقتصادية أو عزلاً وحظراً لسفر سوي عرف قوات السلام المسماه دولية، هذه تدابير جزاء وأحكام تسوية أصبحت سائدة على العالم بتسخير الأممالمتحدة أيضاً من كبير لا يحب محكمة جنائية عالمية لكنه يريد هو ومن يواليه أن يقوم حاكماً معاقباً لمن يراهم جناة. إن الدساتير والعهود لا قيمة لها إذا لم يعتمدها الشعب ممثلاً في قواته السياسية أو مجازة في استفتائه أو بنوابه الصادق تمثيلهم له. إن النظم العسكرية كما مضت السوابق قوامها القوة قد تساوم وتعاهد إذا اهتز عرشها وعجزت عن الدفاع عنه، لكنها إذا تحولت الظروف تنتهز أول فرصة لقبض كل السلطة والثروة ولو نقضاً للعهود وطلقاً للقيود. وكيف يبخل طاغية على أهله في الشمال بأدنى حرية أو قسمة من الثروة والسلطة ثم يجود على الجنوبيين الأباعد بشيء، إلا لضرورة طارئة. ولذلك كان ينبغي على حركة التحرير إن أغمض الغربيون والأفارقة عن شرط الديموقراطية أن يحرصوا هم علىها لا في ديارهم لكن في الشمال الأغلب وأن يشترطوا دعوة كل القوى السياسية لأن تشارك في المفاوضة وفي التزام الوفاق. في الشريعة أو الإسلام والدين العهود أمانة في الذمة يحاسب بها الله وكل من يدعي الإسلام ولا يعمل به كذلك يعرضه لأن يكون صفة خيانة يرتاب منها الآخرون ويلتمسون الضمانات في غير الاسلام. وكما ظهر الريب في أمانة من يدعون الإسلام وأغفلت الديموقراطية وأوكل الأمر لقوى أجنبية فإن الشعب وقواه المدنية لم تؤتمن لتطلق مجهوداتها حرة وتصل الشمال بالجنوب ولا تتركه للقوات المسلحة والأمن. إن منظمة الدعوة الاسلامية التي يحبها الجنوبيون مسلمين ونصارى والتي هي الأنشط في القوى الخاصة العاملة في الجنوب قامت علىها الحكومة استرضاء لحملة منافسين غربيين لها. والمنظمات الغربية كنسيّة وغيرها هي العاملة الآن في الجنوب وكانت لها حول المفاوضات كلمات حادة وستنشط بعد السلام متزايدة. والمنظمات العربية لا تدخل الجنوب مهما تكون وراءها أموال وحتى المنظمات المصرية لا تعمل هناك ولو بنية حفظ مورد الماء. وواضح من هذا الواقع ماذا يشير نحو المصير. 5 - حق تقرير المصير للجنوب ثبت الآن في الاتفاق بعد فترة انتقال من ست سنوات. أما المبدأ فقد كان منصوصاً في الدستور لكن الحكومة اعتراها تردد بضاغطة من جار فتذكره أحياناً استفتاء فقط لقبول خيار واحد هو الوحدة مثل استفتاءات انتخاب الرؤساء الأواحد. والغربيون يريدون الجنوب مع الشمال لا لوحدة شعوب أفريقية بل ليكفوا مد العروبة والإسلام جنوباً وقاية لوسط أفريقيا كما يريدونه، فالأفضل عندهم أن يبقى الجنوب لا يستعرب ولا يسلم ويدخل على الشمال عائقاً من تجلي الاسلام وفيضه، وكانوا حينما يغلب في ظنهم تمكن الإسلامية في الشمال يتجهون لفصل الجنوب عارضاً مستقلاً للشمال في سياق صراع الحضارات. والبلد العربي الأكبر المجاور يؤكد دائماً حرصه على وحدة السودان لأن تقرير المصير قد أتيح قبلاً للسودان كله في السنوات الخمسين فأعرض السودان عن الاتحاد معه وقد كان الحزب الحاكم اتحادياً بالاسم والتفويض الشعبي وصار السودان إلى الانفصال والاستقلال، وإذا عاد السودان فصار إلى انفصال الجنوب بلداً جديداً غير عربي فلن تحكمه اتفاقية مياه النيل وتلك مدعاة لمخاوف عظيمة، وهم كذلك لا يريدون غيبة الجنوب ليصفوا للشمال إسلامه السياسي المشتد الذي قد يعدي الجوار العربي المسلم. والبلاد الأفريقية لا تريد سابقة انفصال لئلا تنتشر فيها دعوات شعوبية وقومية محلية تقطع أوصال الأقطار، وقد قررت ثبات الحدود لأول عهد منظمة الوحدة الأفريقية وتطمع مزيد اتحاد وتقارب في الاتحاد الافريقي على رغم شذوذ انفصال أريتريا أمس. إن من المحتملات المنظورة أن يؤدي الاستفتاء في الجنوب إلى انفصال لأن الجنوب يحمل تراثاً من مشاعر التظلم المتطاول والشكوك في صدق الحكم المشترك، وتتربى فيه روح المجانبة السياسية والمفارقة في الهوية العرقية والثقافية، ويري تباعداً في الانعطاف والموالاة للجوار هو إلى الجنوب الأفريقي لا الشمال العربي، وسيقوم فيه حكم ذاتي واسع السلطة له أرض وجيش ومال، وست سنوات قد تهيؤه لوضع القواعد لمشروع دولة متكاملة ينتقل إلىها بعد التحضير. ذلك إلا اذا اتعظ الشمال ورشد فيه الحكم وصدق الوفاء وفتح مجال الاختلاط والتذاوب والتساوي الشعبي والاتصال بوسائل النقل والتعبير والمشاركة بالأموال والعمالة والائتلاف بين القوى السياسية المنبسطة في كل الوطن بتشكيلاتها المتشاركة في الحكم الديموقراطي. إن الاتحاد اتجاه العالم المستقر والتفاصل هو اتجاه البلاد المتحررة. إن الإسلام يجعل المواطنة معاقدة بالخيار، أن يُسأل الجنوبيون فيختارون الوحدة طوعاً ورضى وسواء لا يُحملون علىها عنوة وقوة تغيظهم وتغري المستكبر بالظلم. والأمر كله وقف على ما سيجري في الشمال إذا تم الوفاق واستقر إن نظام مايو ايار ترك الجنوب ديموقراطياً مطمئناً وفرغ الطغيان لجبر الشمال لكنه لم يطل عمره بل أفسد الجنوب وهوى هو في الشمال. ومن قبل نظام عبود أراد التخلص من الجنوب بعلاج أزمته ليبقى هو مسيطراً في الشمال فانهار بثورة. والنظام اليوم لن يرتاح من مشكلة الجنوب فعقابيلها بعد السلام ستبقى هموماً لكل الوطن تتطاول عهداً، فلن يجتمع له همه ليصوّبه على بسط السلطة المطلقة في الشمال بل سيتحرك الشمال معتبراً بمقاومة الجنوب ومحصولاتها الطيبة، وإذا فرغ الشعب من الجنوب الذي شغله في خسران أبنائه وأمواله فإنه سينقلب لتمام صلاح أمره بإزاحة الديكتاتورية القاسية علىه وقد أفلح من قبل في تجربتين شعبيتين لإسقاط عبود ونميري. إلا إذا رشد النظام واتجه بعد الظلم والفساد إلى العدل والصلاح وبسط الحرية والانتخاب الطاهر والولاية لخيار المجتمع. إن الشمال والجنوب معاً، السودان، إن صدق السلام والوفاق وأتمّ التحرر والحكم الدستوري الحق، سيقيم عبر سيرته ومصائره المتحدة مثالاً لأفريقيا شاهداً على أن العروبة والإسلام إذا أتصلت بأفريقيا خير ينمو ويتحد صالحاً. وإن الحكم المؤسس على الحرية الطلق والمساواة العدل والشورى والانتخاب لقرار الأمر العام وولايته والقسمة القسط للسلطة والثروة بين كل أقاليم الدولة وشعوب الوطن وثقافتهم - ذلك لو حققه السودان إسوة حسنة سيمضي أثرها في أفريقيا ذات الحاجة الداعية للسلام والحرية والمساواة والقسط والديموقراطية وسيمضي كذلك صداها بين الشعوب العربية المحرومة من تلك القيم، وعبر ذلك أيضاً لا تموت اللغة العربية ولا يعزل الدين بل يتحد بالحياة فيصلحها، وبذلك تؤسس منظومات توحد النّاس. تلك رسالة السودان الذي وضعه قدر الله بين الشعوب العربية والشعوب الأفريقية في أرضها الأخصب مزرعة للغة والدين وللبشر والثروة والأطهر على رغم عادات الاشتجار الساذج من العقائد الراسخة القاطعة بين بني الإنسان المؤسسة للطغيان والفرقان في ما بينهم. فالسلام على السودان ورحمة الله وبركاته. * الأمين العام لحزب المؤتمر الوطني الشعبي.