في مرحلة مهمة من حياة الشعب الفلسطيني وخصوصاً في لبنان كتب غسان كنفاني روايته "أم سعد" ونشرت سنة 1969 بعد مضي اكثر من عشرين عاماً على النكبة، ولأن فلسطينييلبنان كانوا في تلك المرحلة بين قضبان السياج المفروض عليهم منعاً ومصادرة وسجوناً واعتقالات ومراقبة، اي كانوا تحت "جزمة الدولة" و"بسطارها" بحسب تعبير غسان نفسه، بدت الرواية "وثيقة" مهمة تسجل تلك المرحلة، وتسجل النقلة النوعية في حياة الشعب الفلسطيني. سجل غسان، على لسان راويته ام سعد كل ذلك باقتصاد بلاغي، وبإشارات واضحة المعاني: "قلت لجارتي هذا الصباح، أود لو عندي مثله عشرة، أنا متعبة يا ابن عمي، اهترأ عمري في ذلك المخيم، كل مساء اقول يا رب! وكل صباح اقول يا رب! وها قد مرت عشرون سنة وإذا لم يذهب سعد، فمن سيذهب؟". هكذا تختزل الأمور هذه الأم التي بقيت فلسطينية على رغم كل شيء. إن لم يشارك سعد وسعيد وليث وحسن وعائدة وحسين ومحمد وحنا وآمال وسليمان وقبلان ومروان وسعاد، فمن يشارك إذاً؟ الرواية إذاً وثيقة روائية مهمة في حياة الفلسطيني وهو يتحول الى ثائر يكسر طوق الحصار والوصاية. النقطة المهمة الثانية في الرواية... تتمثل في الالتفات ليس الى الطبقة الكادحة الفلسطينية في معناها العام، بل ان غسان في روايته هو من اوائل الذين التفتوا الى الطبقة الكادحة الفلسطينية في معناها الخاص، اي الى ناس المخيمات الذين يقفون "تحت سقف البؤس الواطئ، في الصف العالي من المعركة، ويدفعون، ويظلون يدفعون اكثر من الجميع". وتختزل ام سعد الأمور فتقول: "أنا لا أبكي يا ابن عمي، أود لو استطيع، لقد بكينا كثيراً، كثيراً، كثيراً، انت تعرف بكينا اكثر مما طافت المياه في المخيم ليلة امس". وتضيف: "لا احد يبكي الآن، ولكنني صرت امرأة عجوزاً، صرت اتعب، امضيت كل الليل غارقة في الوحل والماء... عشرون سنة". كانت تلك المرأة في جحيم الشقاء في المخيم وقد فاض فيها كيل العذاب والأحزان، فباحت بمكنون الصدر: "ماذا اقول يا ابن عمي؟ في الليل احسست بأنني قريبة من النهاية، ما النفع؟ اريد ان اعيش حتى أراها البلاد - الوطن - الحرية لا اريد ان اموت هنا، في الوحل ووسخ المطابخ... هل تفهم ذلك يا ابن عمي؟". هي إذاً رواية مكرسة لتصوير او توثيق واقع المخيم الفلسطيني في مرحلة مهمة من مراحل شقائه وتحولاته. ولكن اين الجواب عن هذا السؤال: "أم سعد الرواية... أم سعد الحياة؟". كانت الرواية هي الحياة مبثوثة من خلال شبكة وعي الكاتب وحساسية لغته الأدبية. التقط وعي الكاتب حال المخيم وهو يموج بالتحولات فقدم رواية عن الذين ينتزعون اللغة من براثن الواقع، ومن سارقيها ومنتحليها ايضاً. ام سعد الرواية، هي ام حسين او آمنة احمد ياسين في الحقيقة والحياة، وهي كما يعترف غسان تربطه بها قرابة ما ومن واقع علاقته معها وما كانت تنقله من احداث المخيم برج البراجنة ومن احداث في حياتها اعطت لغسان المادة الخام للرواية. وقد سجل اعترافه في مدخل الرواية قائلاً: "لقد علمتني ام سعد كثيراً، وأكاد أقول ان كل حرف جاء في السطور الآتية، إنما هو مقتنص من بين شفتيها اللتين ظلتا فلسطينيتين على رغم كل شيء، ومن كفيها الصلبتين اللتين ظلتا على رغم كل شيء تنتظران السلاح عشرين سنة". سجلت "ام سعد" رواية الأحداث التي استعاد الشعب الفلسطيني فيها صوته، وامتلك فيها ارادته وسلاحه، اي سجلت معالم بداية امتلاك السلاح والإرادة. فما الذي حدث ل"أم سعد" الحقيقية بعد ذلك؟ كبرت "ام حسين" وشاخت، وجسدها الذي كان شامخاً كرمح، صلباً كصخور البراري غزته الأمراض السكري والضغط وآلام القدمين ومع ذلك فإن المرأة التي تقترب من الثمانين لم تطور رايات الحلم والأمل والعمل من اجل ما استشهد من اجله غسان وغير غسان... تقول في احدى المقابلات القليلة التي اجريت معها: "أعاني من السكري والضغط وألم القدمين، ومع اقتراب الثامن من تموز اليوم الذي استشهد فيه غسان، يرتفع السكري والضغط وينتابني ألم في جسدي وأحس "بنثرات" الزجاج التي ملأته - غسان - حين انفجرت السيارة بجسده عام 1972". مع ذلك فإن هذه المرأة الأمية التي عاشت في مخيم برج البراجنة لم تنس الشهداء، ولم تنس غسان. تلك المرأة بعض مضي كل هذا العمر، وهذا الكدح، وهذه الأمراض، وهذه "النصال التي تكسرت على النصال"... تقول: "بعد اغتيال غسان، تغيرت اوضاع البلاد، ما عاد لبنان على ما كان عليه، ولا الشعب الفلسطيني، كل الأمور تغيرت. لعلنا لن نعود الى فلسطين في ايامي، انتظرت طويلاً، ربما سيعود إليها اولادنا، أو أحفادنا. لكننا سنعود، وما زلت أحتفظ بجواز سفري وأوراق الأرض الثبوتية". امرأة ثمانينية... لكنها تدرك ان الأمور اصبحت اصعب، وأن الأهداف التي استشهد من اجلها الشهداء، ابتعدت قليلاً عن مرمى التحقيق. لكنها لا تنسى لغة الحتم، لغة الحق والتاريخ التي تعيد المسألة التي جذرها الأول "فالحق المغتصب لا يضيع ما دام صاحبه يطالب به، ويلح عليه، ويلجأ الى كل الأساليب الممكنة للوصول إليه". أم سعد... اي آمنة احمد ياسين، دخلت في الرواية عام 1969 ولم تخرج منها، ولن تخرج. وجسدها الحقيقي جاور جسد غسان في مقبرة الشهداء في بيروت في 10 آب اغسطس من عام 1993. أم سعد الحقيقة والرواية.