رواية الكاتب التونسي حسونة المصباحي "وداعاً روزالي" الصادرة أخيراً عن دار الجمل ألمانيا يحرّكها انقسام الهوية بين شرقٍ وغرب. فبطل الرواية - بداية - يدعى ميلود، وهو اسم يقترب كثيراً من أن يكون مجرد علامة سيميولوجية، أكثر منه اسماً، على عكس الاسماء العربية الاخرى، التي تشحن بما لا طاقة لها به من الدلالات، وهذا التجريد المبدئي على مستوى الاسم، يضعنا - منذ اللحظة الأولى - في بؤرة الأزمة، كما سنرى لاحقاً. إنه يحمل كل سمات البطل "المعضل" في الرواية الحديثة، وأهم هذه السمات التمزق بين مجموعة من القناعات، التي تنتهي بالوصول الى حالة من "الغثيان" و"اللامعنى". والرواية تقدم لنا البطل في صباه: يعشق التاريخ، ويبجل الأولياء والزهاد، كما أنه شغوف بالتراث، الذي يشكل مع التاريخ ملامح ماضيه الذهبي، ثم يمر ميلود بثلاثة منعطفات حاسمة، نتيجة تعرفه على: المكي، صديقه الذي يقوده الى روائع الادب الفرنسي الحديث، حيث يعدل اتجاهه الى النقيض. ونادية، تلك المناضلة الماركسية في الحركة الطالبية، والتي تفتح عينيه على عالم السياسة وزيف المثقفين. وكارلا، التي تشير الى الغرب، حيث تنبهر به باعتباره شيئاً غير مألوف، وحينما يصبح مألوفاً بالنسبة إليها، تقرر هجره، وبذلك فإنه يدرك اننا - بالنسبة للغرب - لسنا إلا موضوعاً للتعرف. وحين يتعرف على صديقه المكي، ينهي قراءة عدد من الروايات الفرنسية، وأفضلها بالنسبة له كانت رواية سارتر "الغثيان". وبعدها، تبدأ حياته في التغير بسرعة مذهلة: "مثلما طلقتُ الكتب الصفراء القديمة، طلقت مدينة "قاف" المقدسة، المتعبدة، الزاهدة، الحافظة للأخلاق والشرف. كانت امي تستقبل تحولاتي بالدموع والآهات، وكان ذلك يصيبني بالرعب، غير أنني سرعان ما اتماسك، وأعود لمواجهة الموقف بنفس اللامبالاة التي واجه بها ميرسو - بطل "الغريب" - وفاة والدته" ص 113. وحين يبدأ هجرته الأولى من مدينة "قاف" باتجاه العاصمة، يلتقي نادية منعطفه الثاني. ومثلما لعن ماضيه، فإنه - ايضاً - يلعن حاضره، من خلال اكتشافه زيف ادعاءات المثقفين داخل مجتمعه الشرقي. فنادية تمارس ترداد الشعارات الجوفاء، في نوع من الانتهازية السياسية، التي تطالب بالنضال، بينما تكون اول الهاربين من السفينة الغارقة. لذلك، فإن ميلود يصف صديقه نجيب بأنه: "عكس كل الفنانين الآخرين الذين يبيعون انفسهم للمؤسسات الرسمية بأبخس الاثمان، ويتهافتون على المآدب والحفلات التي تقيمها، تهافت الذباب على التمر المتعفن" ص 126. ولأن ميلود جزء من الظاهرة الثقافية، فإنها تطاله برذاذها، إذ يمارس انتهازية نادية نفسها كي يصل الى جسدها: "سوف انفذ جميع أوامرها من الألف الى الياء، رغم انني لم أكن مقتنعاً بها احياناً". وهكذا، يتأكد لميلود أن الشرق بماضيه وحاضره، اصبح خارج حساباته: "إن الشرق لم يعد يعني بالنسبة لي شيئاً"، ص 51. وهنا، كان من الطبيعي الالتجاء الى الغرب - النقيض، حيث المكان ليس تعبيراً جغرافياً، بقدر ما هو تعبير ايديولوجي بالدرجة الاولى، لذا، فإن الرواية تتوزع، مكانياً - على تراث مدن: مدينة "قاف" التي تشير الى مدينة القيروان التونسية، والتي تستدعي الماضي بقوة، حيث ان عقبة بن نافع هو الذي بناها، وهناك ايضاً مدينة الغربة، التي يبدو أنها ميونيخ، والتي تشير الى حاضر الغرب الذهبي، في مقابلة مع القيروان التي تشير الى ماضي العرب الذهبي. وبين المدينتين توجد طنجة، التي يطلق عليها مدينة روزالي، لتشكل المعبر بين المدينتين، أو بالأصح بين الثقافتين، وعندما يستعر الصراع بين المدينتين اللتين تشيران الى ماضي العرب وحاضر الغرب، يحاول ميلود أن يقف على الخط الفاصل بين الثقافتين، والذي تمثله مدينة روزالي- طنجة، إنها تقع على هذا الخط الوهمي الذي يفصل ما بين الشرق والغرب، وبذلك فإن توازنه النفسي يصبح رهناً بتلك المدينة. ومقابل النماذج المثقفة الشائعة التي تزخر بها الرواية، كانت زهرة الصديقة الحميمة لميلود هي النقيض الواعي فهي تمتلك الوعي باللحظة الراهنة، وبطبيعة أزمة الصراع الداخلي التي يعاني منها. وحين يقرر الهجرة الى الغرب تقول له "إن خلاصك ليس مرهوناً بالأمكنة وإنما بك أنت"، إلا أن المنعطفات التي مر بها ميلود دمرت كل محاولاتها، في ما يشبه عمليات تسخين وتبرير فجائية ومتتالية، لا يمكن أن ينتج عنها إلا تشقق الذات من الداخل، لتظل اسيرة فعلين: فعل الغربة وفعل الاغتراب. وبين هذين الفعلين يضيع التاريخ، وتتوه معالم المكان، وهما - معاً - يشكلان صدى الهوية التي نلهث خلفها الآن، لتصبح تلك الرواية إحدى العلامات المنتشرة على الطريق: تشرح لنا التضاريس من دون أن تشير علينا بالاتجاه.